كان عمل لينين في المنفى يسير بوتيرة بطيئة مثيرة للإحباط ويواجه الصعوبات عند كل خطوة. كافح لينين بموارد ضئيلة لمواصلة العمل مع مجموعة صغيرة من المتعاونين في المنفى. فبالإضافة إلى زينوفييف وكروبسكايا، كان هناك إينيسا أرماند، وشكلوفسكي، وكاسباروف. كان هؤلاء فقط هم أعضاء "مكتب اللجنة المركزية في الخارج". وقد حاولوا أن يجعلوا الجريدة البلشفية سوتسيال ديموكرات تعمل كمنظم لصفوف الحزب. تم توزيع 300 نسخة في باريس و100 في لندن وستوكهولم ونيويورك، و75 في جنيف وبيرن، و50 في زيوريخ ولوزان، كما تم بيع عدد من النسخ في ميلانو وجنوة. لكن روسيا لم يكن يصل إليها سوى عدد قليل جدا. كان جمع الأموال يحتل مكانة مركزية في انشغال المنفيين، لكن وعلى الرغم من الصعوبات الهائلة فإن الصحيفة استمرت في الظهور بشكل منتظم، بل ونجحت في أن تعكس بشكل بارع حياة الحركة العمالية داخل روسيا. كانت أعمدتها تتضمن الأخبار والتقارير والتوصيات ومنشورات المنظمة السرية. ومن أجل حل المشاكل المالية الملحة تم تنظيم صندوق نضالي لمساعدة سوتسيال ديموكرات. كان الحزب يعيش ظروفا شديدة الصعوبة، وحياة المنفيين، التي كانت أصلا مريرة بما فيه الكفاية، صارت غير محتملة بسبب عدم وجود اتصال مع الحركة في روسيا.
[Source]
لكن إذا كان إنتاج منشورات منتظمة صعبا للغاية، فإنه كان من الأصعب إيصالها إلى القراء المقصودين. تسببت الحدود المغلقة وظروف الحرب المرتبطة بها في جعل الاتصال المنتظم مع الداخل مهمة شبه مستحيلة. كان البوليس والجواسيس والمخبرون يحاصرون الثوريين من جميع الجهات، مما أدى إلى تفكيك جميع قنوات النقل السرية القديمة. فانتقل مركز ذلك النشاط إلى ستوكهولم، وكذلك إلى مورمانسك وأرخانجيلسك. كان الاشتراكيون الديمقراطيون الاسكندنافيون يقدمون بعض المساعدة، على الرغم من موقف القيادة الموالي لألمانيا. وقد جاءت تلك المساعدة بشكل أساسي من جانب الجناح اليساري، وخاصة منظمة الشباب الاشتراكي التي كانت قد اتخذت موقفا مناهضا للحرب، رغم أنه كان مختلطا بنزعة سلمية، أي شعار "إلقاء السلاح!"، كما كان الحال في جميع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الاسكندنافية. كان المسؤول عن النقل هو العامل البلشفي المخضرم ألكسندر شليابنيكوف، الذي توفر مذكراته مصدرا مهما عن أنشطة الحزب في تلك الفترة. وقد لعبت كروبسكايا، كما كان الحال دائما، دورا لا يقدر بثمن في تنظيم ذلك العمل بكل تفاصيله الدقيقة ومساعدة الرفاق الشباب على فهم أساليب العمل السرية. كان فريقها الصغير من المتعاونين يضم إلى جانب شليابنيكوف كولونتاي، التي كانت قد انفصلت مؤخرا عن المناشفة وتبنت القضية البلشفية بحماس كبير، إضافة إلى شقيقتي لينين: أوليانوفا وإليزاروفا، وكذلك ستال وكاسباروف. لم يكن هناك كثيرون آخرون. وحقيقة أنه كان من الضروري إشراك أختي لينين في العمل تشير إلى صعوبة الحصول على أشخاص موثوقين للقيام بذلك النشاط.
استمر لينين يواجه المشاكل مع رفاقه المقربين في الخارج. ففي غشت 1915، صدرت جريدة بلشفية أخرى، تحت اسم كومونيست (Kommunist)، والتي كان يحررها بوخارين. لكن سرعان ما أدت مواقف بوخارين اليسراوية المتطرفة إلى إثارة حنق لينين، والذي كتب في رسالة غاضبة إلى شليابنيكوف، قائلا:
«لقد أصبحت كومونيست ضارة للغاية. يجب إيقافها واستبدالها بسبورنيك سوتسيال ديموكرات (التي كانت تحررها هيئة تحرير سوتسيال ديموكرات في المنفى). وبهذه الطريقة فقط نتجنب الشجار، ونتجنب التذبذب».
كان صبر لينين قد نفذ بعد أن قدم العديد من التنازلات لـ "الثلاثي" - بوخارين وبياتاكوف ويوجين بوش. كتب قائلا:
«نيك [نيكولاي] إيف [إيفانوفيتش] اقتصادي مجتهد، وقد دعمناه دائما في هذا. لكنه 1) ثرثار و2) متذبذب في السياسة. لقد دفعته الحرب إلى تبني أفكار شبه لاسلطوية. وفي المؤتمر الذي اعتمد قرارات برن (في ربيع 1915) أصدر أطروحات (أمتلكها!) كانت ذروة الغباء والخزي وشبه لاسلطوية. لقد انتقدته بشدة. كان يوري وبوش يستمعان وعبرا عن رضاهما لأنني لم أتركه يسقط في التطرف اليسراوي (في ذلك الوقت كانا قد أعلنا اختلافهما التام مع نيك إيف [بوخارين]). مرت ستة أشهر، ونيك إيف يدرس الاقتصاد، ولا يولي أي اهتمام بالسياسة، فإذا به يخرج علينا، فيما يتعلق بمسألة تقرير المصير، بنفس ذلك الهراء، وقد عبر بوش ويوري عن اتفاقهما معه!!».[1]
كانت أسوأ مشكلة هي العزلة عن الحركة داخل روسيا. كان العمل مع الداخل يعاني من العديد من الصعوبات والمخاطر. لم يكن من الممكن، سوى في حالات نادرة فقط، إرسال شخص موثوق به إلى روسيا لجمع معلومات مباشرة عن الحالة في الداخل. واجهت شليابنيكوف، الذي كان في ستوكهولم، مشاكل من جميع الأنواع، ليس فقط مع الرقابة البوليسية وحرس الحدود، بل أيضا مع نقص الأموال والإحباط الناتج عن انهيار الأممية. في البداية كان من الممكن الحفاظ على بعض الاتصالات مع روسيا عن طريق رجال أعمال ومهاجرين عائدين إلى روسيا من أجل التجنيد. لكن عندما تلاشت هذه الإمكانية وأصبحت الرقابة أكثر تشددا، مع تشديد عمليات التفتيش المنتظمة للمسافرين على الحدود، أخذت الأمور منعطفا خطيرا نحو الأسوأ. الكثير من المهاجرين الروس، الذين كانوا مستعدين سابقا لنقل الأدبيات السرية إلى روسيا، لم يعودوا يقبلون بالقيام بتلك المهمة، مفضلين تكريس أنفسهم لأنشطة تهريب أكثر ربحية. وقد تم التعبير عن مزاج الإحباط واليأس الذي ساد آنذاك في التعليق التالي:
«إن أخبار بلاشفتنا في باريس الذين يلتحقون بالجيش، و"ثرثرة" الرجل العجوز في جنيف (بليخانوف)، والوضع ككل، ينيخ بسحابة قاتمة على رؤوسنا».
انعكس خراب التنظيم في الداخل، وخاصة بعد إلقاء القبض على أعضاء الدوما، على شكل أزمة مالية. تمكن شليابنيكوف من إيجاد بعض البحارة الذين كانوا على استعداد لتهريب بعض المنشورات السرية إلى الداخل، مقابل المال. لكن المال لم يكن متوفرا. وكتب قائلا:
«لقد أبلغت لجنة بيترسبورغ وفريق الدوما بذلك، لكنني تلقيت أنباء محزنة مفادها أنهم غير قادرين على تقديم المبلغ اللازم، حوالي 300 إلى 500 روبل في الشهر. كان من الصعب عليهم أن يرسلوا لي المال لإعالتي، وبعد أن أرسلوا لي 100 روبل، أوصاني الرفاق بأن أتكفل بجميع نفقاتي. لم أستطع حتى البدء في التفكير في العثور على عمل، لأن تلك الأشهر الأولى من الحرب تسببت في بطالة كبيرة في السويد وكانت المصانع لا تعمل سوى لبضعة أيام في الأسبوع. لم تكن هناك أي فرصة لإيجاد موارد في مجتمع المهاجرين المحليين، على الرغم من وجود الكثير من المضاربين هناك. كانت اللجنة المركزية لحزبنا في الخارج أفقر من أن تتمكن من تخصيص مثل ذلك المبلغ لتلك العملية. ومن أجل مواصلة العمل لجأت إلى القروض والاكتفاء بإرسال الأخبار بشكل متقطع فقط».[2]
هوامش:
1: LCW, To A.G. Shlyapnikov, 11/3/1916, vol. 35, pp. 214-15.
2 : A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, p. 35 and pp. 37-38.