كانت الأهمية الحقيقية لحروب البلقان هي أنها كشفت بوضوح عن وجود ميول نحو اندلاع حرب عالمية. كانت التوترات بين القوى الإمبريالية الكبرى تتراكم بشكل متواصل لتبلغ النقطة الحرجة حيث يمكن لأي حادث أن يشعل مواجهة شاملة. كان الأمل الوحيد في تجنب الحرب ليس التصريحات السلمية، بل الحركة الثورية للطبقة العاملة. هذا هو الموقف الذي تبناه لينين وروزا لوكسمبورغ في مؤتمرات أممية التي سبقت مباشرة الحرب العالمية الأولى. كان يبدو نظريا أن قوى الحركة الاشتراكية الأممية أكثر من كافية لوقف الحرب، ففي عام 1914، كانت الأممية الثانية منظمة جماهيرية تضم 41 حزبا في 27 بلدا ويبلغ عدد أعضائها حوالي 12 مليون عامل. وكانت القرارات التي اتخذتها الأغلبية الساحقة في مؤتمري شتوتغارت وبازل قد تعهدت بمعارضة الحرب بكل الوسائل المتاحة.
لم يكن موقف لينين من الحرب قائما على "النزعة الحربية" ولا على النزعة السلمية العاطفية، بل كان موقفه ثوريا بشكل كامل. من بين أسوء الافتراءات التي وجهت ضد لينين أنه كان "محبا للحرب". ويرتبط هذا الزعم مرارا بتفسير خاطئ لفكرته عن "الانهزامية الثورية" التي أساء فهمها الجميع تقريبا. وعندما سأل صحفي بولندي (ماجكوسين) لينين قبيل الحرب العالمية الأولى، عما إذا كانت الحرب ستعجل بالثورة وهل هو يريد الحرب، قال:
«كلا، لا أريد ذلك... إني أفعل كل ما بوسعي، وسأواصل القيام بذلك حتى النهاية، لعرقلة التعبئة للحرب. لا أريد أن يضطر ملايين البروليتاريين إلى ذبح بعضهم البعض مدفوعين بعصا الرأسمالية. لا يمكن أن يكون هناك أي سوء فهم بخصوص هذه النقطة: فأن نتنبأ بموضوعية باحتمال اندلاع الحرب، وأن نسعى للاستفادة منها بأفضل ما يمكننا في حالة وقوع مثل ذلك الحدث المؤسف، شيء؛ أما الرغبة في الحرب والعمل من أجل اندلاعها، فذلك شيء مختلف تماما».[1]
في نوفمبر 1912، عُقد مؤتمر بال الأممي الاستثنائي. وقد أظهر العدد الهائل للمندوبين قوة المنظمات العمالية العالمية، حيث حضر ما مجموعه 555 مندوبا يمثلون 23 بلدا لمناقشة القضية الكبرى على جدول الأعمال آنذاك. كان الاتجاه السائد في المؤتمر آنذاك هو النزعة السلمية. وقد قرأ الاشتراكي الفرنسي الكبير جان جوريس قرارا مناهضا للحرب يقول فيه: "إن البروليتاريا تطالب بالسلام بأشد العبارات حيوية". لكن مثل هذه الإعلانات العامة "من أجل السلام" لا تساوي حتى قيمة الورق الذي تكتب عليه في حالة اندلاع الحرب. هناك حاجة إلى شيء آخر من أجل تحويل مثل تلك المشاعر العامة إلى برنامج للنضال ضد الحرب. ولذلك قام لينين، خلال مؤتمر شتوتغارت، في عام 1907، باقتراح تعديل ينص على أنه في حالة اندلاع الحرب، على الطبقة العاملة أن تستغل الوضع لإسقاط الرأسمالية. تلك في الواقع هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها إيقاف الحرب. من المثير للدهشة أن التعديل الذي اقترحه لينين تمت الموافقة عليه بالإجماع. لكن، وكما اتضح فيما بعد، لم تكن لدى قادة الأممية الاشتراكية الديمقراطية أدنى نية على الإطلاق في تنفيذ مثل تلك القرارات.
كانت هذه هي القاعدة العامة في جميع أحزاب الأممية الثانية تقريبا. كان البرنامج الثوري يحفظ بأمان في الرفوف، مسطرا في دستور الحزب، ليتم إخراجه ونفض الغبار عنه وقراءته في اجتماعات فاتح ماي، لكي يعاد مرة أخرى إلى الرفوف لبقية العام. كانت هناك هاوية لا يمكن ردمها بين النظرية والممارسة عند الحركة الاشتراكية الديمقراطية. لقد آمنت الجماهير بالأهداف الاشتراكية للحزب، لكن معظم القادة كانوا قد غرقوا في عالم السياسة البرلمانية الخانق، والتي كانت في أحسن الأحوال بدون جدوى، بل كانت عبئا هائلا. وقد لخص أب التحريفية، إدوارد بيرنشتاين، نظرتهم بشكل جيد في عبارته المجنحة حين قال: "الحركة كل شيء، الهدف النهائي لا شيء".
لكن في حين كان قادة الأممية الثانية ينومون العمال بمنظورات التغيير السلمي والتدريجي والإصلاحات، كان النظام الرأسمالي يستعد لكي يوقظ جميع طبقات المجتمع بشكل قاس. لم تحل حروب البلقان أي شيء، لكنها رفعت درجة حرارة العلاقات الدولية إلى مستويات عالية. تم تقسيم مقدونيا بين اليونان وصربيا، واستولت رومانيا على جزء من الأراضي البلغارية (جنوب دوبرودجا)، وفي غرب البلقان ظهرت ألبانيا مستقلة جديدة. لكن صربيا، وعلى الرغم من انتصارها، منعت من الوصول الآمن إلى البحر الأدرياتيكي، وهو الهدف الذي كانت تدعمه روسيا. كما أن بلغاريا التي كانت قد تعرضت للهزيمة والإهانة في حرب البلقان الثانية، كانت تنتظر الفرصة لأخذ ثأرها وانضمت إلى معسكر ألمانيا والنمسا. أما تركيا، القوة المهزومة الأخرى، فقد صارت، بسبب الخوف من روسيا، أقرب إلى ألمانيا التي أبرمت معها تحالفا في غشت 1914. ومن ناحية أخرى صارت صربيا ومونتي نيغرو أكثر قربا من روسيا للدفاع عن نفسيهما ضد النمسا- المجر، في هذا السياق قال وزير الخارجية الروسي، سازونوف: "مهمتنا الأساسية هي ضمان التحرر السياسي والاقتصادي لصربيا"[2]. لقد كان العالم ينزلق بشكل جارف نحو الحرب.
في روسيا شنت الصحافة الشرعية البلشفية تحريضا حازما ضد الحرب، مركزة على فضح أهداف النظام القيصري الحقيقية من وراء الحرب في البلقان. كانت شعارات لينين هي: «لا للتدخل الأجنبي في حرب البلقان... نعم للحرب ضد الحرب! لا لأي تدخل! نعم للسلام: هذه هي شعارات العمال». وعلى عكس الانفعالات العاطفية لدعاة السلام، كان لينين دائما ينظر إلى مسألة الحرب من وجهة نظر طبقية، ويكشف المصالح التي تكمن وراء الشعارات الوطنية. كانت مقالات لينين تندد باستمرار بالرأسماليين ومصنعي الأسلحة، وتكشف عن الأهداف الحقيقية لسعي النظام القيصري الروسي إلى الحرب، وتظهر أساسها المادي ومحتواها الطبقي. لطالما كان يطرح السؤال بلغة المحاماة: "cui prodest?"، أي من يستفيد من السباق نحو التسلح؟ لم يكن هناك أي مجال لدعم أي طرف في نزاع البلقان. لم تكن الحرب لتخدم مصالح شعوب البلقان. وكانت الفكرة القائلة بأن حق تقرير المصير لهذه أو تلك من دويلات البلقان يبرر انخراط أوروبا كلها في الحرب، فكرة إجرامية. في وقت لاحق، في عام 1915، أوضح لينين أنه إذا كانت الحرب مسألة نزاع عسكري بين صربيا والنمسا وحدهما، كان سيكون من الضروري دعم صربيا، من وجهة نظر حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. ومع ذلك فإن هذا الحق لم يكن يعتبر من وجهة نظر لينين مطلقا ولجميع الأوقات والظروف. لا يمكن بأي حال من الأحوال لكفاح الصرب، أو أي شعب آخر، من أجل تقرير المصير أن يبرر إغراق العالم كله في الحرب. في هذه الحالة، كما هو الحال دائما، يتم إخضاع حق تقرير المصير لمصالح الطبقة العاملة والثورة العالمية.
هوامش:
1: V.I. Lenin. Biography, Moscow. 1963, 213.
2: B.H. Sumner, A Survey of Russian History, 380.
عنوان النص بالإنجليزية: