ننشر فيما يلي مقدمة روب سويل لكتاب لينين، ما العمل؟. في هذا المقال يشرح روب سويل[1] أهمية كتاب ما العمل؟ الذي ينتقد فيه لينين التوجهات الإصلاحية والانتهازية داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية، ويدافع عن ضرورة بناء حزب ملتزم من الثوريين المحترفين لقيادة الطبقة العاملة نحو حسم السلطة. إنه كتاب مهم وراهني جدا للماركسيين الذين يناضلون من أجل الثورة اليوم.
يعتبر كتاب لينين ما العمل؟ أهم كلاسيكيات الماركسية التي كتبت في موضوع بناء الحزب الثوري، وهو أيضا النص الأكثر تعرضا للانتقاد من قبل الإصلاحيين والأكاديميين على حد سواء، لأنه بزعمهم يحمل بذور الديكتاتورية الشمولية.
وكمثال عن الهجمات التي انصبت على لينين نورد ما قاله المؤرخ أنتوني ريد في كتابه The World on Fire (ص .5-6):
«لقد تأسست البلشفية على كذبة، وابتدعت سابقة تم إتباعها لمدة تسعين سنة قادمة. لم يكن لدى لينين وقت للديمقراطية، ولم تكن لديه ثقة في الجماهير ولا أي تردد في استخدام العنف. كان يريد حزبا صغيرا منظما ومنضبطا بشكل صارم مشكلا من ثوريين محترفين متشددين، يفعلون حرفيا ما يطلب منهم».
يجب ألا تفاجئنا هذه الكراهية المفضوحة، لكن تلك الاتهامات لا أساس لها من الصحة. وفي حين يتلقى ماركس بعض "المديح" حول تحليله للأزمة الرأسمالية من قبل المعلقين البرجوازيين، فإن لينين لا يحظى بذلك، إذ لا يلقى منهم سوى الهجوم والافتراءات. والسبب في ذلك هو أن لينين قام ببناء حزب كان قادرا على قيادة الثورة الاشتراكية وأعطى مثالا ملموسا لعمال العالم حول كيف يمكن الإطاحة بالرأسمالية.
ومنذ ذلك الحين، حاولت البرجوازية أن تدفن الجوهر الحقيقي لمؤلف لينين وتروج لفكرة أن الستالينية واللينينية هما نفس الشيء "جوهريا". وتتمتع هذه الفكرة بموافقة كل من الليبراليين والديمقراطيين والإصلاحيين والمثاليين والبراغماتيين والفوضويين على حد سواء.
لكن وبالرغم من هذه الافتراءات التي لا أساس لها، فإن "ما العمل؟" يحتل مكانا مهما في الأدب الماركسي، ويشكل مَعلما رئيسيا في تاريخ الماركسية الروسية يجب دراسته بجدية من قبل أولئك الذين يريدون تغيير المجتمع.
قد يكون السبب وراء عدم إيلاء هذا العمل اهتماما كافيا هو حقيقة أن الكتاب يحتوي على نوع من المبالغة، حيث قام المؤلِف بلي العصا أكثر من اللازم بقوله بأن الطبقة العاملة لا يمكنها، إن تركت لنفسها، أن تصل إلا إلى الوعي النقابي الخبزي.
من الواضح أن هذا غير صحيح. لقد أظهر التاريخ مرات عديدة، بدءاً من الشارتيين، أن الطبقة العاملة عندما تناضل يمكنها أن تصل بالفعل إلى الوعي الاشتراكي. في الواقع، وكما يبين الكتاب، كان لينين قد اقتبس هذه الفكرة من كارل كاوتسكي، الذي كان آنذاك قائد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني والأممية الثانية.
والحقيقة هي أنه بعد هذه المرة الوحيدة، لم يكرر لينين أبدا هذه الصيغة الخاطئة، بل يعترف حتى في صفحات "ما العمل؟" بأن هذه "صيغة خشنة" و"مبسطة بشكل جارح"، استخدمها لمهاجمة الانحراف الانتهازي "للاقتصادويين" الروس، الذين هم التيار اليميني داخل الحركة في ذلك الوقت، والذين نفوا في الواقع دور الحزب الثوري.
على الرغم من هذا المبالغة، فإن "ما العمل؟" يتضمن ثروة من المعرفة حول أهمية الحزب الثوري، والتي تستحق اليوم المزيد من الدراسة. في الواقع كانت كروبسكايا، زوجة لينين ورفيقته في النضال، قد أكدت على ضرورة دراسته «من قبل كل من يريد أن يكون لينينيا بالفعل وليس بالقول فقط».[2]
نُشر الكتاب في أوائل عام 1902 ولاقى ترحيبا كبيرا داخل الحلقات الماركسية في روسيا. قالت كروبسكايا: «لقد حقق "ما العمل؟" نجاحا كبيرا. لقد زودنا بالإجابات على عدد من الأسئلة الحيوية والملحة. كان الجميع يشعرون بالحاجة إلى منظمة سرية تعمل وفق خطة محكمة».
«كان الكتيب دعوة متحمسة للتنظيم. لقد أوجز خطة شاملة لمنظمة يمكن للجميع أن يجد لنفسه مكانا فيها، ليصبح ترسًا في الآلة الثورية، وهو الترس الذي مهما كان صغيرا، فإنه مهم لعمل الآلة».[3]
كان كتاب لينين مساهمة مهمة في تلك الفترة المبكرة من حياة الحركة الثورية الروسية. يجب أن يقرأ جنبا إلى جنب مع مقالاته الأخرى لنفس الفترة، ولا سيما مقال: "من أين نبدأ؟" الذي يكمل "ما العمل؟".
يفتتح لينين مقال "من أين نبدأ؟" بقوله: «في السنوات الأخيرة صار سؤال: "ما العمل؟" يُطرح أمام الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس بحدة خاصة. إنه ليس سؤالا حول الطريق الذي يجب أن نختاره (كما كان الحال في أواخر العقد التاسع وأوائل العقد العاشر)، بل حول ما هي الخطوات العملية التي يتعين علينا أن نخطوها في الطريق المعروف وبأي طريقة على وجه الضبط. إنه سؤال حول منهج وخطة النشاط العملي»[4]. كان عمل لينين الأخير مجرد تطوير لهذه الأفكار الأساسية.
الوضوح الإيديولوجي
كان الماركسيون قد خاضوا بالفعل، لمدة من الزمن، معركة من أجل الوضوح الأيديولوجي ضد الشعبويين الذين لم يكونوا يتبنون الصراع الطبقي بل الإرهاب الفردي؛ ثم ضد دعاة "الماركسية الشرعية"، الذين تخلوا عن جوهر الماركسية الثورية.
كان الخلاف الذي تطرق له كتاب لينين هو مع انتهازية "الاقتصادويين"، الذين كانوا قد صاروا تيارا بارزا. هذه المعارك الأيديولوجية هي ما شكل سيماء الماركسية الروسية.
يظهر واضحا من خلال كتابات لينين أن تطور الحزب الثوري هو عملية معقدة تمر عبر مراحل مختلفة ويتشكل على مدى عدة سنوات، بل وحتى عقودا. يمكن أن يكون مخاضه أليما ويخضع للتبلور المستمر وإعادة الفرز، بل وحتى الانقسامات قبل أن يصير قوة جماهيرية. وقد كان "ما العمل؟" جزءا من هذا التبلور.
يمكن القول إن كتاب لينين ذاك له أهمية خاصة اليوم، ونحن نعيش الذكرى المئوية للثورة الروسية، بالنظر إلى تجدد الهجمات على لينين وعلى اللينينية، فضلا عن الانحطاط السياسي الذي تعيشه، في الوقت الحاضر، مختلف المجموعات العصبوية، التي وبعد أن أحرقت أصابعها بسبب النزعة اليسراوية المتطرفة، تخلت الآن عن كل أمل وتلاشت في اتجاه انتهازي.
هذه سمة خاصة لحزب العمال الاشتراكي، الذي من المفترض أنه منظمة "لينينية" قامت، على مر السنين، بخلق جبهات شعبية متعددة، مثل رابطة مناهضة النازية، وجبهة احترام (Respect)، وائتلاف وقف الحرب والتصدي للعنصرية ، والتي ليس فيها أي ذكر لبرنامج اشتراكي خوفا من إغضاب مؤيديهم الليبراليين. كما دفعتهم نزعتهم الانتهازية "المناهضة للإمبريالية" إلى تقاسم الفراش مع كل أنواع التيارات، بما في ذلك دعمهم الفاضح للتيارات الرجعية في شكل الإخوان المسلمين. وعلى نفس المنوال، أراد الحزب الاشتراكي لإنجلترا وويلز أن يصبح أكثر شعبية من خلال تغيير اسمه من "العمالي المكافح" إلى اسم أكثر مرونة من الناحية السياسية، الحزب "الاشتراكي".
بمجرد ما تقترب هذه المنظمات من الطبقة العاملة، تبدأ في تكييف دعايتها مع الوسط الإصلاحي داخل الحركة العمالية، وفي الوقت نفسه الغرق في "الحركية" المفرطة. كل ما يقدمونه هو حساء سياسي هزيل من خلال صحفهم "الجماهيرية"، التي أصبحت ذات طابع إصلاحي بشكل متزايد. في أوقات التقشف نجد الحزب الاشتراكي ينادي بعدم إجراء أي اقتطاعات بينما يعمل في الوقت نفسه على تقديم النصائح للسلطات المحلية حول كيف يمكنها ترشيد ميزانياتها وتحقيق التوازن فيها، كما لو أن هناك حل على أساس الرأسمالية. وبهذه الطريقة صاروا نسخة باهتة عن تيار "الاقتصادويين" القديم من خلال عملهم الواعي على تخفيض مستوى «حركة الطبقة العاملة والنضال الطبقي إلى نضال خبزي ضيق وإلى نضال "عقلاني" من أجل إصلاحات تدريجية صغيرة»، على حد تعبير لينين.
بالنسبة إلى "الاقتصادويين" الروس ، كان العمال مهتمين فقط بالقضايا الاقتصادية أو "الخبز والزبدة". يمكن تلخيص مثل هذا النهج باسم "النزعة العمالوية" ، وهي محاولة لخفض المستوى السياسي للبرنامج لتحقيق طريق مختصر نحو الجماهير. لكن هذه النزعة لم تكن أبدا نزعة بروليتارية، على الرغم من ديماغوجيتها، بل نتاجا لانتهازية المثقفين الذين تصوروا أن أفضل طريقة لكسب العمال هي الانحناء أمام ما يسمونه بـ "مطالب العمال". ومع ذلك فإن مثل هذه المحاولات الرامية إلى كسب تأييد الجماهير لا تكلل أبدا بالنجاح.
كتب لينين هذا الكتاب في أواخر عام 1901 وأوائل عام 1902 للإجابة على "الأسئلة الملحة لحركتنا" حول التنظيم وفي الوقت نفسه لانتقاد الجناح اليميني للحزب. في ذلك الوقت كان الماركسيون الروس قد تحلقوا حول صحيفتهم "إيسكرا" ، التي خاضت نضالا مريرا لبناء الحزب على أساس مبادئ نظرية سليمة.
يشكل كتاب لينين بدون شك مساهمة هامة في النظرية الماركسية، كما أنه يشرح الدور الحيوي للحزب الثوري باعتباره منظما وقائدا للثورة البروليتارية. في الواقع تعتبر أعمال لينين كلها مهمة لفهم الدور الأساسي للحزب. لقد سمحت له عبقريته بأن يرى أهمية الحزب بشكل أكثر وضوحا من أي شخص آخر داخل الحركة.
يعتبر الحزب الممركز بالنسبة للينين أداة ضرورية لقيادة الجماهير إلى النصر خلال الثورة. لقد أدرك لينين أن مثل هذا الحزب لا يمكن أن يبنى بشكل مرتجل، "لأن الأوان يكون قد فات لتشكيل المنظمة في أوقات الانفجارات والغليان"، بل يتوجب بناؤه بوعي قبل اندلاع مثل تلك الأحداث، بدءاً بتجميع كادر من "الثوريين المحترفين".
الثوريون المحترفون
بالنظر إلى المهام التي تواجه الحزب الثوري لا يمكنه أن يكون جهازا هاويا مهلهلا، بل يجب أن يقوم على مبادئ المركزية الحزبية المعروفة باسم "المركزية الديمقراطية". وهذا ما يوفر له أكثر أشكال التنظيم الديمقراطي فعالية.
على هذا الأساس وبعد إجراء مناقشة ديمقراطية في صفوفه، تتوج في المؤتمر، تتمكن الأغلبية من أن تقرر خطه السياسي وأولوياته، لتصبح تلك هي السياسة الرسمية للحزب بأكمله. لم يكن مفهوم لينين جديدا، بل كان مستمدا من مثال الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني، الذي كان لينين معجبا به.
وقد أكد هو نفسه على ذلك خلال المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، قائلاً: «ليست لدي أية نية في رفع صيغتي، على النحو الذي وردت به في "ما العمل؟" إلى المستوى "البرامجي"، لتشكل مبادئ خاصة».[5]
واليوم أصبح من المألوف بين الإصلاحيين والماركسيين السابقين أن ينكروا جوهر موقف لينين بمحاولة عرضه وكأنه صالح فقط لظروف روسيا القيصرية في ذلك الوقت. لكن ليس من الصحيح القول إن نضال لينين لبناء الحزب البلشفي كان بسبب خصوصية روسية.
بالطبع كانت الظروف في روسيا القيصرية صعبة للغاية وتتطلب أساليب عمل سرية. فمؤتمرات الحزب، على سبيل المثال، لم يكن من الممكن أن تتم داخل روسيا خوفا من الاعتقال والقمع. كان ذلك هو مصير المؤتمر التأسيسي للحزب في عام 1898، حيث تم اعتقال أبرز المشاركين بعد ذلك بوقت قصير. لم يكن في مقدور مجموعة بليخانوف "تحرير العمل" أن تشتغل إلا في المنفى. وبالمثل كان على إيسكرا أن تصدر في الخارج ليتم تهريبها بعد ذلك إلى روسيا.
لكن نظرية لينين عن التنظيم لم تكن مرتبطة فقط بخصوصيات الشروط الروسية. لقد قامت على أساس الحاجة إلى بناء حزب يمكنه قيادة الطبقة العاملة لحسم السلطة. ترتكز أهمية هذا الحزب على الخبرة التاريخية، إذ لم يحدث في التاريخ أن تخلت الطبقة الحاكمة عن سلطتها وامتيازاتها دون صراع تخوضه إلى أقصى الحدود. ويظهر التاريخ أن الطبقة الثورية تحتاج إلى حزب وقيادة مستعدين للتغلب على ذلك التحدي. ، كما تبين التجربة أنه بدون هذا الحزب لن تنجح الثورة بالرغم من الدور البطولي الذي تلعبه الجماهير.
لقد تمت البرهنة على أهمية الحزب البلشفي من خلال نجاح ثورة أكتوبر. وفي المقابل فإن الهزائم التي عانت منها الطبقة العاملة على مدى المائة عام الماضية تعود إلى الفشل في بناء مثل هذا الحزب. في الواقع إن العقبة الرئيسية التي تقف بين الطبقة العاملة وبين انتصار الاشتراكية هي مشكلة القيادة التي لم تحل بعد. هذا هو المقصود بـ "مسألة الحزب". وإلى أن تحل الطبقة العاملة هذه المسألة، بأن تشيد التعبير الواعي عن العملية الثورية، فإن مسألة سلطة العمال ستبقى بعيدة المنال.
لكن بسبب العديد من هزائم الماضي والتطور البطيء للأحداث خلال العقود الأخيرة، تخلى الكثيرون عن الأمل في بناء مثل هذا الحزب. لقد أصبحوا متشككين ومحبطين. وبدلا من البدء في بناء منظمة كوادر ثم حزب، تراهم يتحدثون عن "بناء الحركة" و "بناء اليسار". إنهم عاجزون عن أن يفهموا أنه لا يمكن "بناء الحركة". إن الحركة العمالية تبنى في المقام الأول من خلال الأحداث العظيمة. وبسبب عجزهم عن فهم هذه الحقيقة، ينتهي بهم المطاف حتما في مستنقع الإصلاحية، وخصوصا جناحها "اليساري".
وفي حين أن كتاب لينين يحتوي على العديد من الدروس العامة، فقد تمت كتابته للإجابة بالتحديد عن مشاكل ملموسة تتعلق بفترة "الحلقات الصغرى" المبكرة للحركة العمالية الروسية. أكد لينين على هذه النقطة في مقدمة كتبها لأعماله عام 1907، حيث قال:
«إن الخطأ الأساسي الذي ارتكبه أولئك الذين ينتقدون "ما العمل؟" هو تعاملهم مع الكتيب باستقلال عن ارتباطه بالوضع التاريخي الملموس لمرحلة محددة في تطور حزبنا مضت منذ فترة طويلة. لقد تم إثبات هذا الخطأ بشكل مدهش من قبل بارفوس، على سبيل المثال، (ناهيك عن العديد من المناشفة) الذي كتب، بعد سنوات عديدة من ظهور الكتيب، عن أفكاره الخاطئة أو المبالغ فيها حول موضوع تنظيم الثوريين المحترفين...
الاستمرار اليوم في القول بأن إيسكرا بالغت (في عام 1901 و 1902!) في فكرة تنظيم الثوريين المحترفين، يشبه توجيه اللوم لليابانيين، بعد الحرب الروسية اليابانية، لأنهم بالغوا في تقدير قوة الجيش الروسي ولأنهم بالغوا قبل تلك الحرب في تقدير الحاجة إلى الاستعداد لمحاربة ذلك الجيش. للفوز في الحرب كان على اليابانيين تنظيم كل قواتهم ضد الحد الأقصى المحتمل للقوات الروسية. لسوء الحظ أن العديد من أولئك الذين يحكمون على حزبنا هم أجانب لا يعرفون هذا الموضوع، ولا يدركون أن فكرة تنظيم ثوريين محترفين قد حققت بالفعل نصرا كاملا. كان هذا النصر مستحيلا لو لم يتم دفع تلك الفكرة إلى الواجهة في ذلك الوقت، لو لم "نبالغ" في دفعها ضد الأشخاص الذين كانوا يحاولون منع تحقيقها».
ويضيف قائلا:
«لقد ناضلت إيسكرا من أجل منظمة الثوريين المحترفين. لقد ناضلت بقوة خاصة في عام 1901 وعام 1902، وانتصرت على الاقتصادوية، التي كانت الاتجاه السائد آنذاك، وتمكنت أخيرا من بناء تلك المنظمة في عام 1903. وحافظت عليها في مواجهة الانقسام اللاحق الذي حدث في صفوف الإيسكريين وجميع التشنجات التي عرفتها فترة العاصفة والضغط. كما حافظت عليها طيلة الثورة الروسية. لقد حافظت عليها سليمة من 1901-1902 إلى 1907».[6]
في الواقع لقد اتضح نجاحها كذلك في انتصار أكتوبر 1917.
عندما نشر لينين "ما العمل؟"، في أوائل عام 1902، قابل جميع أنصار إيسكرا خلاصاته بالترحيب. لقد اعتبروه مساهمة هامة في تطوير الحزب. لكن الانقسام المرير الذي حدث في المؤتمر الثاني، في صيف 1903، فتح حربا شرسة ضد الكتاب. قالت كروبسكايا:
«آنذاك برزت [الاختلافات] في المؤتمر، وانطلق كل من كانت لديه ضغينة ضد إيسكرا وضد بليخانوف ولينين، لتحويل الخلاف إلى خلاف حول قضية جوهرية. لقد تعرض لينين للهجوم بسبب مقاله "من أين نبدأ؟" و كتيبه "ما العمل؟" واتهم بأنه طموح، وما إلى ذلك».[7]
من هناك بدأت المزاعم حول أن ما يسمى بـ "أفكار لينين النخبوية" حول التنظيم والثوريين المحترفين، وما شابه، ستؤدي إلى قيام الدكتاتورية داخل الحزب. وفي وقت لاحق ادعى الأكاديميون البرجوازيون والإصلاحيون أن هذه الأساليب التنظيمية ستؤدي في نهاية المطاف إلى الستالينية. لكن هذا غير صحيح على الإطلاق. إن الستالينية نشأت عن عزلة الثورة في بلد متخلف، وليس عن بعض القواعد التنظيمية.
التجانس
يستهل لينين كتابه "ما العمل؟" باقتباس من رسالة بعثها لاسال إلى ماركس يوم 24 يونيو 1852. لم يكن ذلك الاقتباس مصادفة بل كان هدفه التأكيد على الفكرة الرئيسية الموجهة للكتاب. «... إن النضال الحزبي يعطي الحزب القوة والحيوية؛ إن الدليل القاطع على ضعف الحزب هو الميوعة وطمس الحدود المرسومة بوضوح؛ إن الحزب يصير أقوى بتطهير نفسه...».
يسارع الكثيرون إلى استنكار مقترح "التطهير" لتقوية الحزب، خاصة في ضوء التجربة الستالينية. لكن كلمة "تطهير" لم تكن لها عام 1852 أو 1902 نفس الدلالة التي صارت لديها اليوم. لا يمكن لأحد أن ينكر فكرة أن الحزب المتجانس هو حزب أقوى بكثير من حزب غير متجانس. يمكن للحزب، على مدى فترة زمنية، أن يجتذب جميع أنواع العناصر العرضية التي تأتي وهي تحمل أفكار غريبة يمكنها أن تلعب دورا سلبيا للغاية. ليس الحزب ساحة لعب لمثل هذه العناصر. من الأفضل بكثير الانشقاق سياسيا عن أولئك الذين يسيرون في الاتجاه المعاكس.
إن الحزب الثوري، كما أوضح ماركس، كائن حي يتطور عبر مراحل. ويؤدي التحول من مرحلة الحلقات الصغرى إلى تجمع أكبر إلى تحول في الأساليب، وكذلك عند التحول إلى حزب جماهيري. ويكون هناك ميل عند بعض الذين لعبوا دورا في مرحلة معينة إلى التخلف عن الركب عند بداية مرحلة جديدة من تطور المنظمة، وهو ما يمكنه أن يثير صراعات وحتى انقسامات في مرحلة معينة. يمكن اعتبار الانقسامات على أنها أحداث مؤسفة، لكنها تكون في بعض الأحيان حتمية بل وضرورية. ومثلما يتخلص الجسد البشري من الخلايا الميتة للسماح بنمو خلايا جديدة في مكانها، فإن الحزب يشهد عملية مماثلة.
يشرح لينين أن السنوات الأولى للحركة الماركسية الروسية هيمنت عليها حتما الحلقات الصغرى. وقد لعبت تلك الحلقات دورا تقدميا، لكنها أصبحت في نهاية المطاف عائقا أمام تطور الحزب. قال لينين:
«وكان الانتقال إلى حزب عمالي منظم بشكل ديمقراطي، أعلنه البلاشفة في صحيفة "نوفايا جيزن"، في نوفمبر 1905، أي بمجرد ظهور إمكانية النشاط القانوني، قطيعة لا رجعة فيها مع أساليب الحلقات القديمة التي عفا عليها الزمن».[8]
وكما يظهر كل تاريخ البلشفية، يمكن للاختلافات السياسية والجدالات حول الإستراتيجية والتكتيكات أن تصبح حادة للغاية. كان الحزب البلشفي مشهورا بأنه مدرسة للضربات القوية. كان لديهم الكثير من الجدال. وقد أشار لينين إلى هذه الميزة في عام 1907، قائلا: «إن كتابي "ما العمل؟" و"خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء"، المنشورين في هذه المجموعة، يقدمان للقارئ، صورة عن الجدل الحاد، وفي بعض الأحيان المرير والمدمر، الذي كان يجري داخل الحلقات في الخارج. لا شك في أنه كان لذلك النضال العديد من السمات غير الجذابة». ومع ذلك فبفضل تلك الصراعات ظهر وضوح سياسي جديد، زود الحزب بقدر أكبر من التماسك والثقة.
كان لينين طوال حياته حازما في الدفاع عن المبادئ الثورية والدفاع عن الماركسية. وعندما صدر "ما العمل؟" كان النضال ضد "الاقتصادويين" الروس قد بلغ أوجه. في مقدمة الكتاب قال لينين إنه لن يحدث أي تقدم في روسيا "حتى نضع نهاية كاملة لهذه الفترة [الاقتصادوية]". وكان هدف الكتاب تصفية الحساب مع ذلك التيار الانتهازي.
كما أوضح لينين أن النضال ضد الماركسية طورته مجموعة المثقفين البرجوازيين في الجامعات وتم نقله إلى الإصلاحيين والانتهازيين داخل الحركة العمالية، حيث صار ذلك النضال مهمتهم الأساسية. وما زال الحال كذلك حتى اليوم.
ما زالت الجامعات حتى يومنا هذا مصنعا لأسوء أنواع القمامة الأيديولوجية. لذا يجب أن يكون كوادر الحزب الثوري مجهزين نظريا للإجابة على حجج أعدائهم السياسيين، خاصة في أماكن التعليم المزعومة. خصص لينين الجزء الأول من "ما العمل"؟ ليشرح أن التيار "الاقتصادوي" الروسي كان جزءا من تيار انتهازي عالمي، يشبه التيار التحريفي بقيادة إدوارد بيرنشتاين في ألمانيا وميلراند في فرنسا. وقد اعتبر نضاله ضد "الاقتصادويين" في روسيا جزءا من ذلك النضال الأممي.
حرية النقد
وانتقل إلى مهاجمة الفكرة المسماة "حرية النقد" التي طرحها "الاقتصادويون" شعارا لأولئك الذين عقدوا العزم على دفع "الاشتراكية الديمقراطية في مسارات نقابوية خبزية". ورأى أن تلك "الحرية" محاولة واضحة "لحرية" إدخال الأفكار الغريبة إلى الحزب الثوري.
«فإذا حكمنا على الناس، ليس على أساس الرداء البراق الذي يخلعونه على أنفسهم أو الألقاب الفخمة التي يطلقونها على أنفسهم، بل على أساس تصرفاتهم وعلى أساس ما يدعون إليه في الواقع، سيتضح أن "حرية النقد" تعني حرية التيار الانتهازي داخل الاشتراكية الديموقراطية، حرية تحويل الاشتراكية الديموقراطية إلى حزب إصلاحي برجوازي، حرية إدخال الأفكار البرجوازية والعناصر البرجوازية إلى الاشتراكية... أما الصرخة التي نسمعها اليوم: "عاشت حرية النقد!" فتشبه شديد الشبه حكاية الطبل الأجوف».
لقد هاجم لينين، قبل كل شيء، أولئك الذين أرادوا حرية تمييع السياسة الثورية أو التخلي عنها. وردا على ذلك اتهموه بالتشدد والعصبوية. لكن لينين حذّر رفاقه من أن يتم جرهم إلى "المستنقع" من قبل أولئك الذين أرادوا أخذهم في اتجاه انتهازي. وطرح المسألة بشكل حاد جدا لكن بوضوح كبير:
«نحن محاصرون بالأعداء من كل الجهات، وينبغي علينا أن نسير ونحن عرضة لنيرانهم. لقد اتحدنا بملء إرادتنا، اتحدنا لأجل النضال ضد العدو، وليس للوقوع في المستنقع المجاور، الذي لامنا سكانه، منذ البدء، لأننا اتحدنا في جماعة منفصلة واخترنا طريق النضال عوض طريق المهادنة. والآن بدأ بعض منا في الصياح: "دعونا نذهب إلى المستنقع!" وعندما نقول لهم: ألا تخجلون، يعترضون قائلين: "يا لكم من متخلفين! ألا تستحون من أن تنكروا علينا حرية دعوتكم للسير في طرق أفضل!"، نعم، صحيح أيها السادة! إنكم أحرار ليس فقط في أن تدعونا، بل أيضا في أن تذهبوا إلى المكان الذي يطيب لكم، حتى إلى المستنقع إن شئتم، بل إننا في الواقع نرى أن المستنقع هو مكانكم الصحيح، ونحن على استعداد لإعطائكم كل مساعدة ممكنة للذهاب إليه. لكن رجاءنا اتركوا أيدينا ولا تتعلقوا بأذيالنا ولا تلطخوا كلمة الحرية العظمى، لأننا نحن أيضا "أحرار" في السير إلى حيث نريد، أحرار في النضال لا ضد المستنقع وحسب، بل أيضا ضد الذين يعرجون عليه!».
لقد حدد لينين في كتابه "ما العمل؟" "الاقتصادويين" على أنهم نزعة تظهر احتقارا كاملا للنظرية. كان "الاقتصادويون" يعتبرون أن النظرية لا تهم العمال. كانوا يقولون «تهمنا حركة العمال، تهمنا منظمات العمال هنا في منطقتنا، وما عدا ذلك هو من اختلاقات "المذهبيين"، هو "مغالاة في تقدير أهمية الإيديولوجيا"...».
كان حديثهم المستمر عن "حركة الطبقة العاملة" غطاء لازدرائهم الحقيقي تجاه العمال. وكما هو الحال مع المنظمات العصبوية اليوم، كانوا يعتقدون أن العمال ليسوا أذكياء بما يكفي لفهم النظرية. لذلك كان على الحركة الثورية، من وجهة نظرهم، أن تركز على قضايا "الخبز والزبدة". تقف التيارات العصبوية أمام العمال وتخبرهم عن مدى سوء الأوضاع. لكن العمال ليسوا أغبياء ويعرفون جيدا أن أجورهم وظروفهم سيئة. وقد كان هذا النهج هو السمة المميزة "للاقتصادويين". وفي حين أن للمطالب اليومية والشعارات الأساسية أهميتها، في هذه الحقبة من الأزمة العميقة، فإن العمال يبحثون بشكل متزايد عن تفسيرات أوسع وليس فقط التحريض.
احتقار النظرية
يأخذ لينين مثال رابوتشييه ديلو، جريدة "الاقتصادويين"، التي استشهدت بعبارة ماركس: "كل خطوة عملية تخطوها الحركة أهم من دزينة برامج". بعدما أخرجوا ما قاله ماركس من سياقه، اعتبر "الاقتصادويون" أن العمال ليسوا بحاجة إلى الأفكار الثورية، بل فقط إلى الحركة.
قال لينين:
«إن تكرار هذه الكلمات في مرحلة الاضطراب النظري يشبه استقبال مشيعي جنازة بمتمنيات تكرار مثل هذا اليوم السعيد.
ناهيك عن أن كلمات ماركس هذه مأخوذة من رسالته بصدد برنامج غوتا، حيث يندد بشدة بالمذهب الاختياري في صياغة المبادئ. لقد كتب ماركس لقادة الحزب: إذا كان عليكم أن تتحدوا، اعقدوا معاهدات بغية بلوغ أهداف عملية تقتضيها الحركة، لكن إياكم والمساومة بالمبادئ، إياكم و"التنازل" النظري. هذه هي فكرة ماركس، ومع ذلك ما زلنا نجد بيننا أناسا يستغلون اسمه للتقليل من أهمية النظرية!».
إن الفكرة الأساسية التي تتخلل كل كتاب "ما العمل؟" هي الحاجة إلى تكوين الكوادر الماركسية - الثوريين المحترفين – على أساس استيعاب شامل للنظرية الماركسية.
يؤكد لينين بشكل قاطع: «لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالانتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الضيقة جدا». لقد حارب لينين بقوة نزعة النشاط الطائش، الذي يحبه اليوم أولئك الموجودون على اليسار. بطبيعة الحال لم يكن لينين يعارض النشاط بشكل عام، لكن لابد من ربط ذلك برفع المستوى السياسي والنظري.
وللتأكيد على هذه النقطة، يقتبس لينين كلمات فريدريك إنجلز، التي قالها عام 1874، عندما شدد على أهمية النظرية في بناء الحركة. لا يعترف إنجلز بشكلين فقط للنضال الثوري (النضال السياسي والنضال الاقتصادي)، "كما هو الحال عندنا"، بل بثلاثة أشكال، إذ يضع النضال النظري على قدم المساواة مع الأولين.
يقدم إنجلز فكرة واضحة للمنخرطين في النضال من أجل الماركسية في بريطانيا، إذ يشرح أن الموقف الخاطئ من النظرية السائد داخل الحركة العمالية البريطانية كان السبب الرئيسي وراء "نموها ببطء شديد". وشدد إنجلز: «سيكون من واجب القادة، على وجه الخصوص، أن يمتلكوا فهما أكثر وضوحا لجميع المسائل النظرية، لتحرير أنفسهم أكثر فأكثر من تأثير العبارات التقليدية الموروثة من النظرة القديمة إلى العالم، وأن يضعوا بشكل مستمر في اعتبارهم أن الاشتراكية، منذ أن أصبحت علما، صار يجب أن تعامل كعلم، أي يجب أن تدرس».
إننا في التيار الماركسي الأممي نتبع بإخلاص نصيحة إنجلز بشكل حرفي وبالجدية التي تستحقها. علينا أن ندرب رفاقنا باستمرار على التفكير كماركسيين حقيقيين من أجل مقاومة الضغوط الانتهازية الموجودة داخل الحركة العمالية، والتي هي في الواقع ضغوط الرأسمالية.
من المضحك أن اعترافنا بالأهمية الحيوية للنظرية الماركسية مسألة تثير سخرية خصومنا. لكننا لا نبالي. لقد لاحظ لينين أن «هؤلاء الذين لا يستطيعون نطق كلمة "نظري" دون أن يكشروا باحتقار»، هم أنفسهم هؤلاء الغارقين في الجهل. نحن متعودون جدا على هذه الأنواع الحقيرة من الكلبيين والمشككين، الذين يحتقرون النظرية. ليس موقفهم هذا سوى انعكاس لاحتقارهم للطبقة العاملة. إن النظرية، قبل كل شيء، ليست سوى تعميم للتجارب الماضية للطبقة العاملة. ليست النظرية خطابا أكاديميا، بل هي دليل للعمل.
وفي حين أن لينين لم يكرر مطلقا زلته بأن الوعي الاشتراكي لا يأتي إلى الطبقة العاملة إلا من الخارج، فإن كل التيارات العصبوية استمرت في تكرار هذا الخطأ منذ ذلك الحين لتبرير موقفهم المتعجرف باعتبارهم "مخلصين" بارعين قادمين من الخارج لقيادة الحركة العمالية.
وكما أوضحنا، فإن لينين ثنا العصا بقوة لكي يفضح بشكل صحيح نزعة تقديس العفوية ("الانبطاح السلبي أمام العفوية")، التي كانت السمة المميزة "للاقتصادويين". قال لينين:
«على العكس من ذلك، فإن التعبير الذي استخدمته - والذي تم اقتباسه مرارا وتكرارا - هو أن "الاقتصادويين" تطرفوا في أحد الاتجاهات. فقام "ما العمل؟"، كما سبق لي أن قلت، بتقويم الاعوجاج الذي تسبب فيه "الاقتصادويون". إن معنى هذه الكلمات واضح بما فيه الكفاية: إن "ما العمل؟" هو تصحيح لتشويهات "الاقتصادويين"، وسيكون من الخطأ النظر إلى هذا الكتيب من أي منظور آخر».[9]
كان "الاقتصادويون" يتبعون دوما الحركة العفوية ومهمتهم هي إخبار العمال بما يعرفونه بالفعل. وكانوا كثيرا ما يستخدمون عبارات غوغائية مثل: "العمال من أجل العمال" و«يجب أن نركز، ليس على "نخبة" العمال، بل على "العامل العادي"». كان هذا مجرد تكيف مع مظاهر تخلف الطبقة العاملة، لكن للطبقة العاملة جانبها القوي وجانبها الضعيف، واللذان يظهران في فترات مختلفة. إن للطبقة العاملة القدرة على أن تصبح طبقة ثورية، ونحن نعتمد على هذه الضرورة، لكن الماركسيين لا يعاملون الطبقة العاملة على أنها بقرة مقدسة. وكما أوضح تروتسكي:
«ليست الجماهير، بالطبع، منزهة لا تشوبها شائبة على الإطلاق. إن تقديس الجماهير أمر غريب عنا. لقد رأيناها في ظروف مختلفة وفي مراحل مختلفة، وأثناء أكبر الصدمات السياسية كذلك. لقد لاحظنا جوانبها القوية وجوانبها الضعيفة. إن عزمها القوي واستعدادها للتضحية بالنفس والبطولة تظهر دوما في أوقات النهوض الثوري. خلال تلك الفترة تمكن البلاشفة من أن يصيروا في قيادة الجماهير. لكن بعد ذلك ظهر فصل تاريخي مختلف عندما برز الجانب الضعيف للمضطهَدين إلى الواجهة: عدم التجانس والافتقار إلى الثقافة وضيق النظرة إلى العالم».[10]
إن النهج الانتهازي "للاقتصادويين" هو محاولة للصراخ بصوت أعلى مما تسمح به حبالهم الصوتية والبحث عن طرق مختصرة للنجاح غير موجودة. وليس من المستغرب أن يكونوا من أتباع "الحركة العمالية الخالصة والبسيطة"، ودعاة العلاقات "العضوية" مع العمال. لقد كان لهم احتقار كبير للمنظرين، على الرغم من حقيقة أن ماركس وإنجلز كانا أعظم المنظرين. كانوا، في الواقع، يقبلون بالنزعة النقابية الخبزية البورجوازية، على حد تعبير لينين. لقد رفضوا النظرية الثورية وعنصر الوعي في النضال، وبذلك حولوا الحركة الثورية (أي الاشتراكية الديموقراطية) إلى "مستوى النزعة النقابية الخبزية".
أهمية النضال السياسي
ردّ لينين على هذا المبدأ الذيلي بالقول إن: «المصالح الاقتصادية الأساسية للبروليتاريا لا يمكن أن تلبى إلا بثورة سياسية تعوض ديكتاتورية البرجوازية بديكتاتورية البروليتاريا...». هناك حاجة إلى حزب ثوري جماهيري عمالي، لكن يجب أن يكون حزبا مبنيا على أساس المبادئ والنظرية الماركسية.
وفي حين أدرك لينين أهمية التحريض لفضح ظروف العمل السيئة وما شابه، فإنه نظر إلى هذا النشاط باعتباره مجرد نضال "نقابي بحت". وفي المقابل، شدد على الحاجة إلى قيادة «نضال الطبقة العاملة ليس فقط من أجل شروط أفضل لبيع قوة العمل، بل كذلك في سبيل القضاء على النظام الاجتماعي الذي يرغم المعدمين على بيع أنفسهم للأغنياء.... ومن هنا فإنه يجب ألا يقتصر الاشتراكيون الديموقراطيون على النضال الاقتصادي فقط، بل عليهم أيضا ألا يسمحوا بأن يستغرق تنظيم التشهير الاقتصادي القسم الأكبر من نشاطهم. علينا أن نعمل بنشاط على تربية الطبقة العاملة سياسيا وتنمية وعيها السياسي».
وبعبارة أخرى، يجب الانطلاق من المشاكل اليومية للعمال، مع الحرص في نفس الآن على ضرورة تعميم هذه التجارب وربطها بالنضال الأوسع للطبقة العاملة من أجل تغيير المجتمع. هذا يعني القدرة على الربط بين التحريض والدعاية والنظرية. ومع ذلك فقد حذر لينين من استخدام التحريض الخالص، لأن الاكتفاء بالإشارة إلى الظروف السيئة التي يعاني منها العمال يعني التعامل معهم كأطفال صغار.
قال لينين: «مثل هذا النشاط لا يكفينا؛ فنحن لسنا أطفالا يمكن إطعامهم بحساء السياسة "الاقتصادوية" الهزيل وحده». «لا يكفي أن نشرح للعمال أنهم مضطهدين سياسيا». من الضروري تناول جميع حالات الظلم في مختلف مجالات الحياة من أجل المساعدة في تطوير الوعي السياسي للعمال. لا يمكن للماركسيين رفع مستوى الوعي عند العمال إلا من خلال ربط النضالات اليومية بالبرنامج والنظرية الثوريتين، أي ربط الخاص بالعام. ولا يمكنك القيام بذلك بمجرد إخبار العمال بما يعرفونه بالفعل.
هنا يكمن الخلاف بين الماركسية والانتهازية. ففي حين كان الانتهازيون يفصلون النضال من أجل الإصلاحات عن النضال من أجل الثورة، أكد لينين على استحالة الفصل بينهما. وقد أكد على أن: الاشتراكية الديموقراطية الثورية جعلت دائما النضال من أجل الإصلاحات جزءا من نشاطاتها. لكن هذا ليس كل شيء، إذ أضاف إنها: «باختصار، تخضع النضال من أجل الإصلاحات، بوصفه جزءا من كل، للنضال الثوري من أجل الحرية ومن أجل الاشتراكية». كان الثوريون يناضلون من أجل رفع الأجور، لكن ذلك لم يكن نهاية الأمر بالنسبة لهم، لقد كانوا يريدون أن يسيّر العمال المجتمع.
عمل لينين، مستشهدا ببليخانوف، على تحديد الفرق بين التحريض والدعاية قائلا:
«إذا قدمنا العديد من الأفكار إلى عدد قليل من الناس فإن ذلك دعاية، أما إذا أقدمنا فكرة واحدة لعدد كبير من الناس فذلك تحريض». ومع ذلك فإن دور الداعية الثوري هو تقديم تفسير شامل للعمال عن الأزمة الرأسمالية وكيفية حلها: «إن الداعية الذي يناقش مسألة البطالة، على سبيل المثال، عليه أن يشرح طبيعة الأزمات الرأسمالية والسبب الذي يجعلها حتمية في المجتمع المعاصر وضرورة تحويل المجتمع إلى مجتمع اشتراكي، الخ».
أشار لينين إلى نقاط ضعف الحزب الروسي، حيث أخذ مثال حلقاته الدراسية فانتقد مستواها السياسي المنخفض.
«دعونا نأخذ نموذج حلقة الدراسة الاشتراكية الديموقراطية التي صارت واسعة الانتشار في السنوات الأخيرة ولنمعن النظر في عملها. إن لها "صلات بالعمال" وهي قانعة بذلك، تصدر المنشورات التي تندد فيها بشدة بالانتهاكات التي تحدث في المعامل وبتحيز الحكومة لصالح الرأسماليين وبالطغيان البوليسي. وفي اجتماعات العمال، لا تتجاوز المناقشات أبدا، أو نادرا، حدود هذه الموضوعات. ونادرة للغاية هي المحاضرات والمناقشات عن تاريخ الحركة الثورية وعن سياسة الحكومة الداخلية والخارجية ومسائل التطور الاقتصادي في روسيا وأوروبا وعن وضع هذه أو تلك من طبقات المجتمع المعاصر، الخ...
في الواقع إن القائد النموذجي، كما يصوره أغلبية أعضاء مثل هذه الحلقة، هو أشبه كثيرا بسكرتير نقابة خبزية منه بقائد سياسي اشتراكي. وبالفعل، إن سكرتير أي نقابة خبزية، سكرتير نقابي إنجليزي مثلا، يساعد العمال دائما على خوض النضال الاقتصادي، ويعينهم على فضح الانتهاكات في المعامل، ويشرح الظلم الكامن في القوانين والتدابير التي تقيد حرية الإضراب وحرية إقامة المتاريس (لتنبيه الجميع وكل فرد إلى أن عمال هذا المعمل أو ذاك مضربون) ويبين تحيز القضاة الذين ينتمون إلى الطبقة البرجوازية، الخ، الخ.. أو بعبارة أخرى إن كل سكرتير لنقابة خبزية يقوم ويساعد على القيام بـ"النضال الاقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة". ولسنا نغالي مهما ألححنا في القول إن ذلك ليس بعد بالاشتراكية الديموقراطية، وأن المثل الأعلى للاشتراكي الديموقراطي لا ينبغي أن يكون سكرتير النقابة، بل الخطيب الشعبي... الذي في إمكانه أن يستغل أي حدث مهما كان صغيرا لكي يعرض أمام الجميع قناعاته الاشتراكية ومطالبه الديموقراطية لكي يشرح للجميع ولكل فرد الأهمية التاريخية العالمية لنضال البروليتاريا التحرري».
ثوار أولا وقبل كل شيء
بطبيعة الحال لا يناقش لينين ضد الثوار الذين يعملون داخل النقابات العمالية أو يتناولون قضايا فردية، إنه بالتأكيد يؤيد مثل ذلك العمل، لكنه يبين حدود وأخطار هذا النهج إذا تم التعامل معه بطريقة أحادية الجانب. بالنسبة للينين يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يعملون في بيئة كهذه، أن يكونوا ثوريين أولا وقبل كل شيء، ونقابيين في المرتبة الثانية. عليهم أن يصبحوا كوادر عمالية. ويقع على عاتق الحزب واجب تحصين أعضائه ضد أخطار الانتهازية عن طريق رفع مستواهم النظري، وضمان حضورهم اجتماعات الحزب، والتأكد من أن أعمالهم تتم تحت إشراف الحزب. لقد كان لينين يعتبر ذلك شرطا لعضوية الحزب. وتصير هذه الرقابة أكثر أهمية عندما يحتل أعضاء الحزب مناصب داخل الحركة العمالية، حيث يكون هناك خطر أن يتم إغراقهم ليصبحوا مجرد "سكرتير نقابي"، وهو ما حذر منه لينين.
لقد حذر من أن «أي ابتذال للسياسة الاشتراكية الديموقراطية إلى مستوى السياسة النقابية يعني إعداد الأرضية لتحويل الحركة العمالية إلى أداة للديمقراطية البرجوازية». وهذا يعكس الضغوط الهائلة الموجودة داخل الحركة العمالية، فعوض أن يقوم الثوريون بتغيير بيئتهم، تقوم البيئة بتغييرهم.
من خلال كل فصول الكتاب، الذي هو كتاب جدالي ضد العفوية وضد التكيف مع السياسة النقابية (البرجوازية)، دافع لينين عن ضرورة بناء حزب طليعي ثوري، يقوم على "ثوريين محترفين"، مستعدين لتكريس كل وقتهم وجهدهم للعمل الثوري. «يجب أن تتشكل منظمة الثوريين بالدرجة الأولى وبصورة رئيسية من أناس يجعلون من النشاط الثوري مهنتهم (ولذلك أتحدث عن منظمة الثوريين، وأنا أعني الاشتراكيين الديموقراطيين). وحيال هذه الصفة المشتركة بين أعضاء مثل هذه المنظمة، ينبغي أن يمحى بصورة تامة كل فرق بين العمال والمثقفين فضلا عن الفروق بين مهن هؤلاء وأولئك على اختلافها».
هذا هو موقف لينين الحقيقي، فداخل الحزب الثوري لا يمكن أن يكون هناك فرق بين العمال والطلاب: كلهم رفاق وشيوعيون. جميع الأحكام المسبقة ألقيت جانبا ولم يكن مرحبا بها. ليست المسألة مرتبطة بالأصل الطبقي بل بالموقف السياسي. فالطلاب الذين ينحدرون من الطبقة الوسطى يتم تعليمهم إلى جانب الرفاق العمال على أساس الأفكار الماركسية. وبذلك يتخلون سياسيا عن موقفهم الطبقي السابق ويتبنون وجهة نظر البروليتاريا.
كان هذا هو الحال خاصة مع قيادة الحزب البلشفي الذين كانوا جميعهم طلابا سابقين. وبالمناسبة فإن تصور لينين عن الحزب الطليعي، والذي يعتبر نخبويا من قبل جميع منتقديه، من الإصلاحيين إلى اللاسلطويين، هو في الواقع حزب يقدم القيادة للطبقة العاملة. ليس دور الحزب هو السير وراء العمال، بل عليه أن يقدم، بناء على خبرته الجماعية، برنامجا علميا للمضي قدما. هذا ليس أمرا سيئا بل أمر جيد. إن هذا الدور هو في الواقع سبب وجود الحزب العمالي الثوري.
ومن المثير للاهتمام أن لينين يشرح أنه قبل تشكيل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، عمل الماركسيون على إنشاء "حلقات طلابية"، حيث، وفقا لغريغوري زينوفييف، وهو طالب سابق، «تم استقطاب كل الطلاب الشباب في تلك الفترة إلى الماركسية. كان هناك وقت (خاصة في النصف الثاني من تسعينات القرن التاسع عشر) عندما كان مصطلح "طالب" مرادفا لمصطلح "ثوري"، لأنه في تلك الفترة كان التلاميذ في مؤسسات التعليم العالي ثوريين أو ذوي ميولات كفاحية ويدعمون الحركة العمالية الثورية»[11].
كان هؤلاء الطلاب الثوريون، الذين اضطهدتهم السلطات القيصرية، هم من سيصبحون الجسر نحو الطبقة العاملة العذراء في روسيا. وأوضح لينين أن القادة الرئيسيين للحركة المحلية كانوا قد "اكتسبوا سمعة" لأنفسهم منذ أيام دراستهم.
من خلال كسب هؤلاء الطلاب إلى الماركسية وتثقيفهم، تمكنت الحركة الثورية من كسب القوى الشابة التي يمكنها أن تصل إلى العمال الشباب. ويظهر كل تاريخ البلاشفة أن الطلاب الجادين الذين تلقوا تعليمهم في الماركسية يمكنهم أن يصبحوا كوادر ممتازة للحركة الثورية.
لينين، الذي كان دائما كثير الاهتمام بالشباب، كان مستعدا للرد على أي موقف "مناهض للطلاب" من طرف منتقديه. قال لينين: «لجنة الطلاب ليست مفيدة؛ إنها ليست مستقرة، لكن الاستنتاج الذي يمكن استخلاصه من هذا هو أنه يجب أن تكون لدينا لجنة من الثوريين المحترفين، ولا يهم ما إذا كان الطالب أو العامل هو القادر على أن يصبح ثوريا محترفا». ومرة أخرى ينحّي لينين جانبا مسألة ما إذا كان الثوري طالبا أو عاملا . كان يريد تدريب كوادر من الطلاب والعمال على حد سواء. «أعني ثوريين محترفين، بغض النظر عما إذا كانوا قد تطوروا من بين الطلاب أو من بين العمال».
وأضاف: «مهمتنا ليست أن ندافع عن تخفيض الثوري إلى مستوى الهاوي، بل رفع الهواة إلى مستوى الثوريين». وقال: «لكن تدريب المرء ليكون ثوريا محترفا يستغرق سنوات».
«لذا ، يجب إيلاء الاهتمام بشكل أساسي لرفع العمال إلى مستوى الثوريين؛ ليست مهمتنا على الإطلاق أن ننحدر إلى مستوى "جماهير العمال" كما يرغب الاقتصادويون، أو إلى مستوى "العامل العادي" كما يرغب أنصار سفوبودا. أنا لا أنكر ضرورة الأدب الشعبي للعمال، وخاصة الأدب الشعبي (ليس المبتذل بالطبع) للعمال المتخلفين. لكن ما يزعجني هو هذا الخلط المستمر بين علم التربية وبين مسائل السياسة والتنظيم. أيها السادة، الذين تبدون قلقا كبيرا بشأن "العامل العادي"، إنكم في واقع الأمر تهينون العمال برغبتكم التحدث إليهم بابتذال عند مناقشة سياسات الطبقة العاملة وتنظيم الطبقة العاملة. تحدثوا عن الأشياء الجدية بطريقة جادة؛ اتركوا الطرق التربوية للمربين، وليس للسياسيين والمنظمين!»
الجريدة العمالية
يختم لينين كتابه "ما العمل؟" بالتأكيد على أهمية الصحافة العمالية. قال:
«يمكننا، في المستقبل غير البعيد، إصدار جريدة أسبوعية... ستصبح هذه الجريدة جزءا من منفاخ حداد ضخم ينفخ في كل شرارة من شرارات الصراع الطبقي والسخط الشعبي ويجعل منها حريقا عاما. وحول هذا العمل، الذي يبدو بريئا جدا وصغيرا جدا بحد ذاته، ولكنه منظم وعام سيتعبأ، بكل معنى الكلمة، جيش نظامي من المقاتلين المحنكين الذين سيجتمعون ويتلقون تدريبهم بشكل منهجي. وعلى سلالم وسقالات هذا الهيكل التنظيمي العام، سوف نتمكن قريبا من خلق اشتراكيين ديموقراطيين أمثال جيليابوف[12] من بين ثوارنا وأمثال بيبل[13] من بين عمالنا، والذين سيأخذون مكانهم على رأس الجيش المعبأ وإثارة الشعب كله لتسوية الحسابات مع عار ولعنة روسيا. هذا ما يجب أن نحلم به!»
في أكتوبر 1917، تمكن كل ذلك العمل الشاق من تحويل هذا الحلم إلى حقيقة. لقد كون لينين جيلا كاملا من الكوادر البلشفية التي ستصبح لاحقا إطارا لبناء حزب بلشفي كبير. وتحت قيادة لينين وتروتسكي تمكن ذلك الحزب من أن يستقطب إليه أفضل فئات الطبقة العاملة والفلاحين لحسم السلطة. يجب علينا نحن الماركسيين اليوم أن نتعلم هذه الدروس لنحضر أنفسنا لثورات أكتوبر الجديدة التي تلوح في الأفق. إن دراسة كتاب لينين "ما العمل؟" جزء أساسي من هذا التحضير.
هوامش:
1: روب سويل: رئيس تحرير جريدة Socialist Appeal، لسان حال الفرع البريطاني للتيار الماركسي الأممي.
2: Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p.66
3: Ibid, pp.76
4: Lenin, LCW, vol.5, p.17
5: LCW, vol.13, p.107
6: Lenin: LCW vol. 13, pp., 101-103
7: Reminiscences of Lenin, International Publishers, New York, pp.95
8: LCW, vol.13, p.105
9: LCW, vol.13, p.107-108
10: Trotsky, Their Morals and Ours.
11: History of the Bolshevik Party, New Park Publications, 1973, p.63
12: إندري إيفانوفيتش جيليابوف (29 غشت [17 غشت بالتقويم القديم] 1851 - 15 أبريل [03 أبريل بالتقويم القديم] 1881) ثوري روسي وعضو في اللجنة التنفيذية لنارودنايا فوليا.
13: أوغست بيبل (22 فبراير 1840 - 13 غشت 1913) سياسي وكاتب وخطيب ماركسي ألماني. كان أحد المتعاونين مع ماركس وإنجلز، وشهير بكونه أحد مؤسسي حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الألماني (SDAP)، في عام 1869، والذي اندمج، عام 1875، مع الجمعية العامة للعمال الألمان في حزب العمال الاشتراكي بألمانيا (SAPD). أثناء حملة القمع بموجب القوانين المناهضة للاشتراكية، أصبح بيبل الشخصية القيادية للحركة الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا، وصار من 1892 حتى وفاته رئيسا للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني.