كانت المسألة الرئيسية التي حددت كل شيء آخر هي الموقف من الأحزاب البرجوازية. وقد نوقشت هذه المسألة بشكل مستفيض خلال المؤتمر. تدخل أربعة أشخاص في هذا الموضوع وهم لينين ومارتينوف وروزا لوكسمبورغ وأبراموفيتش. وقد أبرز لينين، الذي تحدث أولا، الأهمية المركزية لهذه المسألة، إذ قال:
«إن مسألة موقفنا من الأحزاب البرجوازية هي النقطة المركزية للاختلافات حول المسائل المبدئية التي قسمت منذ فترة طويلة الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية إلى معسكرين. فحتى قبل النجاحات الكبرى الأولى للثورة، أو حتى قبل الثورة، إذا كان من الممكن الحديث بهذه الطريقة عن النصف الأول من عام 1905، كانت هناك بالفعل وجهتا نظر متمايزتان بشأن هذه المسألة.
كانت الخلافات تدور حول تقييم الثورة البرجوازية في روسيا. وقد اتفق كلا التيارين داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية على أن هذه الثورة كانت ثورة برجوازية، لكنهما اختلفا في فهمهما لهذا الموقف، وفي تقييمهما للخلاصات العملية والسياسية التي يمكن استخلاصها منه. قام أحد جناحي الحركة الاشتراكية الديموقراطية -المناشفة- بتفسير هذا المفهوم على أنه يعني أن البرجوازية هي القوة الدافعة في الثورة البرجوازية، وأن البروليتاريا لا يمكنها أن تشغل سوى موقف "أقصى المعارضة"، وأنه لا يمكن للبروليتاريا أن تحمل على كاهلها مهمة إنجاز الثورة بشكل مستقل أو قيادتها».
عبر لينين عن اتفاقه على أن:
«أهداف الثورة التي تجري الآن في روسيا لا تتجاوز حدود المجتمع البرجوازي...»، وأضاف: «لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن البرجوازية هي القوة الدافعة في الثورة أو قائدتها. إن مثل هذا الاستنتاج سيكون ابتذالا للماركسية، سيكون فشلا في فهم الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية.»
واختتم قائلا:
«إن البرجوازية لا يمكنها أن تكون القوة الدافعة في الثورة ولا أن تكون قائدتها. إن البروليتاريا وحدها هي القادرة على إكمال الثورة، أي تحقيق النصر التام. لكن هذا الانتصار لا يمكن أن يتحقق إلا بشرط أن تنجح البروليتاريا في كسب قسم كبير من الفلاحين تحت قيادتها».
بينما اشتكى المناشفة من "العداء الأحادي الجانب" للبروليتاريا تجاه الليبرالية. فرد لينين بأن البرجوازيين الليبراليين لا يمثلون قوة ثورية، بل قوة معادية للثورة:
قال لينين: «يقول المناشفة إن البرجوازية "غير مستعدة للنضال". في الواقع لقد كانت البرجوازية مستعدة للنضال، وعلى استعداد للنضال ضد البروليتاريا، وللنضال ضد الانتصارات "المفرطة" للثورة... إن التزام الصمت في الوقت الحاضر حول طبيعة البورجوازية المعادية للثورة يعني التخلي نهائيا عن وجهة النظر الماركسية، يعني النسيان الكامل لوجهة نظر الصراع الطبقي».[1]
في هذا النقاش كانت روزا لوكسمبورغ، بطبيعة الحال، قريبة من لينين، وسخرت من حجة المناشفة قائلة:
«اتضح أن هذه الليبرالية الثورية التي تسعى إلى السلطة، والتي يطلبون منا أن نكيف تكتيكات البروليتاريا مع مصالحها، والتي هم مستعدون لتقييد مطالب البروليتاريا من أجل إرضاءها، هذه الليبرالية الروسية الثورية لا توجد في الواقع، بل في الخيال، إنها اختراع، إنها وهم. (تصفيق). هذه السياسة، التي أقيمت على أساس خطاطة ميتة وعلاقات مفبركة ولا تأخذ في الاعتبار المهام الخاصة للبروليتاريا في هذه الثورة، تسمي نفسها "الواقعية الثورية"».[2]
تقدم تروتسكي بتعديل علق عليه لينين باستحسان. كانت هذه هي المرة الأولى التي سنحت فيها لتروتسكي الفرصة لتوضيح وجهات نظره حول الثورة أمام الحزب. مداخلته في النقاش حول الموقف من الأحزاب البرجوازية، التي خصص لها 15 دقيقة فقط، علق عليها لينين مرتين حيث أبدى موافقته التامة على الآراء التي أعرب عنها تروتسكي، وخاصة دعوته إلى تشكيل كتلة يسارية ضد البرجوازية الليبرالية :
وقال لينين: «هذه الحقائق كافية لي لكي اعترف ان تروتسكي قد اقترب من وجهات نظرنا. وبصرف النظر عن مسألة "الثورة المتواصلة"، فإن لدينا اتفاق بشأن النقاط الأساسية حول الموقف تجاه الأحزاب البرجوازية».
لم يكن لينين مستعدا لإبداء رأيه بخصوص نظرية تروتسكي حول الثورة الدائمة، لكن كان بينهما اتفاق كامل فيما يتعلق بالمسألة الأساسية الخاصة بمهام الحركة الثورية. سوف نتطرق لاحقا للاختلافات بين مواقف لينين وتروتسكي. اعتبر لينين أن تلك الاختلافات كانت ثانوية وهو ما اتضح مرة أخرى خلال المؤتمر عندما أدخل تروتسكي تعديلا على القرار بشأن الموقف من الأحزاب البرجوازية، فلم يعارضه لينين بكونه خاطئا، بل لكونه لم يضف شيئا جوهريا الى الاصل، وقال "إنه يجب الموافقة عليه"، مشيرا الى ان تعديل تروتسكي ليس منشفيا، وانما يعبر بالضبط عن نفس الفكرة البلشفية.[3] وقد صوت المؤتمر لصالح قرار لينين بشأن الموقف من الأحزاب البرجوازية.
وعلى الرغم من تطابق وجهات النظر حول تحليل مهام الثورة، استمر تروتسكي يسعى للتوفيق بين التيارات المتصارعة، في محاولة يائسة لمنع حدوث انشقاق. وقال خلال المؤتمر: «اذا كنتم تعتقدون ان الانشقاق أمر لا مفر منه، فانتظروا على الاقل حتى تفرق بينكم الأحداث، وليس مجرد قرارات. لا تسبقوا الأحداث». لقد ارتكب تروتسكي خطأ محاولة التوفيق بين ما لا يمكن التوفيق بينه، من خلال محاولة التوسط بين التيارين. وعلى أساس تجربة 1905، اعتقد تروتسكي أن اندلاع حركة ثورية جديدة سيكون لها تأثير ايجابي في دفع أفضل العناصر بين المناشفة، ولا سيما مارتوف، نحو اليسار. وكان شاغله الرئيسي هو الحفاظ على القوى الماركسية موحدة خلال تلك الفترة الصعبة ومنع الانقسام الذي سيكون له تأثير محبط على الحركة. كان هذا هو جوهر موقف تروتسكي "التوفيقي"، والذي منعه من الانضمام إلى البلاشفة في تلك الفترة. في السنوات اللاحقة اعترف تروتسكي بنزاهة بخطئه. وتعليقا على ذلك، كتب لينين:
«لقد غرق عدد من الاشتراكيين الديمقراطيين في تلك الفترة في النزعة التوفيقية، انطلاقا من أكثر الدوافع تنوعا. وكانت النزعة التوفيقية الأكثر انسجاما هي التي عبر عنها تروتسكي، والذي كان الشخص الوحيد الذي حاول توفير أساس نظري لتلك السياسة».
كل الاختلافات الحادة التي صارت تفصل الجناح اليميني عن الجناح اليساري خرجت للعلن خلال المؤتمر الخامس الذي لم يحسمها. استمرت المراكز الفصائلية قائمة وسارت كل منها في طريقها الخاص. كان للبلاشفة مركزهم الخاص الذي يضم لينين وأعضاء اللجنة المركزية، بالإضافة إلى كراسين وزينوفيف وكامينيف وريكوف وغيرهم. وكما يحدث كثيرا وجدت الاختلافات السياسية تعبيرها في المسائل التنظيمية. حتى قبل المؤتمر كان أكسلرود ولارين وآخرون قد طرحوا فكرة ما يسمى بمؤتمر عمالي. وفي مواجهة التقدم السريع للردة الرجعية، دعا المناشفة اليمينيون إلى إقفال المنظمات السرية للحزب، وإنشاء منظمة عمالية واسعة تضم حتى الاشتراكيين الثوريين واللاسلطويين واللاحزبيين، وكل من هب ودب. لكنهم تجاهلوا تفصيلا صغيرا وهو أن إنشاء منظمة "قانونية" في روسيا في عام 1907، لم يكن يشبه إنشاء حزب عمالي جماهيري في بريطانيا في ظل ظروف الديمقراطية البرجوازية. ففي ظل الظروف الملموسة آنذاك كان ذلك الاقتراح يمثل تكيفا انتهازيا مع المعايير التي وضعتها الردة الرجعية المنتصرة. كان من شأنه أن يعني في جوهره إغراق المناضلين في حشود العمال غير المنتمين وغير المنظمين، وهو بالمناسبة نفس الهدف الذي اتبعه منذ ذلك الحين القادة اليمينيون لحزب العمال في بريطانيا وبلدان أخرى.
لقد رفض المؤتمر هذا الاقتراح أيضا. لم يكن ذلك الرفض يعني بأي حال من الأحوال التخلي عن الهدف المتمثل في إنشاء حزب عمالي جماهيري حقيقي، لكن الطريق إلى القيام بذلك لا يعني ابتذال برنامج الحزب إلى القاسم المشترك الأدنى، بل هو الكفاح العنيد لكسب جماهير العمال في خضم النضال من أجل البرنامج الثوري. فبعد أن يكسب الحزب ويثقف الفئة المتقدمة من الطبقة العاملة، يصير من الضروري عليه إيجاد طريق إلى الجماهير. إن الطريق إلى التواصل مع الجماهير يمر عن طريق القيام بعمل صبور داخل المنظمات الجماهيرية، بدءا من النقابات. يجب على الحزب ألا يذيب نفسه في الحشود، بل عليه الكفاح من أجل كسب قيادة النقابات.
كانت ثمة نقطة اختلاف أخرى حول العلاقة بين الحزب وممثليه البرلمانيين. دافع المناشفة عن استقلال الفريق البرلماني عن اللجنة المركزية. وقد رفض المؤتمر هذا الاقتراح كذلك وأصر على ضرورة أن يكون ممثلوه العموميون تحت سيطرة الحزب. أثار سلوك النواب الاشتراكيين الديموقراطيين في الدوما – والذين كانوا جميعا مناشفة في ذلك الوقت- بعض الانتقادات الحادة، وصوت المؤتمر لصالح قرار بلشفي ينتقد الفريق البرلماني. وفي النهاية ألغيت القيادة المزدوجة القديمة، ومنذ تلك الفترة فصاعدا صارت اللجنة المركزية هي التي تقود الحزب. تم انتخاب لجنة مركزية من 12 عضوا: خمسة بلاشفة (غولدنبرغ وروزكوف ودوبروفينسكي وتيودوروفيتش ونوجين)، وأربعة مناشفة (مارتينوف وزوردانيا وإسوف ونيكوروف)، وعضوان من الحزب الاشتراكي البولوني (وارسكي ودزيرجينسكي) وعضو من الحزب الاشتراكي اللتواني (دانشيفسكي). أما الثلاثة الاخرين، من ممثلي البوند والاشتراكيين الديمقراطيين اللاتيفيين، فقد تم انتخابهم بعد المؤتمر.