قبل 100 عام، في الخامس من شتنبر 1915، اجتمعت مجموعة صغيرة من الاشتراكيين الأمميين في قرية سويسرية صغيرة تدعى زيمروالد. وكانت هذه هي المحاولة الأولى لتوحيد هؤلاء الاشتراكيين الذين كانوا يعارضون الحرب.
الحرب العالمية الأولى
مثّل اندلاع الحرب، في شهر غشت سنة 1914، نقطة تحول جوهرية في تاريخ العالم والحركة العمالية العالمية. غرقت أوروبا التي مزقتها الحرب في حمام دم رهيب يتحمل فيه قادة الأممية الاشتراكية مسؤولية مباشرة. من الصعب أن نتصور اليوم الصدمة التي سببها قرار قادة أحزاب الأممية الاشتراكية بدعم برجوازياتـ"هم"، والذي نزل كالصاعقة على الطبقة العاملة.
كان موقف قادة الأممية الثانية تجاه الحرب العالمية الأولى يعني عمليا انهيار الأممية. ومنذ تلك اللحظة فصاعدا صار الموقف من الحرب مركز انتباه الاشتراكيين في جميع البلدان. لقد كان ذلك القرار أكبر خيانة في تاريخ الحركة العمالية العالمية، وصدمة عميقة ومربكة لقواعد المنظمة الأممية.
عندما قرأ لينين في صحيفة Vorwärts ("إلى الأمام")، التي كانت لسان حال الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني (ح. ش. د. أ)، أن أعضاء (ح. ش. د. أ) في الرايخستاغ صوتوا لصالح اعتمادات الحرب، رفض في البداية أن يصدق ذلك، مدعيا أن ذلك الخبر يجب أن يكون دعاية كاذبة من قبل هيئة الأركان العامة الألمانية لتشويه سمعة الحركة الاشتراكية الديمقراطية. (وكان رد فعل تروتسكي مشابها). كيف يمكن أن يحدث هذا في الوقت الذي كانوا يصوتون بالإجماع، خلال جميع مؤتمرات الأممية، على معارضة الحرب الإمبريالية وضرورة استعمال كل الوسائل للإطاحة بالرأسمالية؟ لكن بمجرد ما أدرك لينين أن ذلك الخبر كان صحيحا لم يتردد وطالب بقطيعة تامة مع الاشتراكيين الشوفينيين.
في ذلك الوقت لم ير لينين أن الخطر الأكبر هم اليمينيون داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية، والذين كانت خيانتهم واضحة وملموسة، بل هم "الوسطيون"، مثل كاوتسكي، الذين كانوا يسترون انتهازيتهم وراء عبارات سلمية غامضة خبيثة. وكان يكافح من أجل إقناع الأعداد الصغيرة من الأمميين باستحالة أي تقارب مع القادة الاشتراكيين الديمقراطيين الذين ساندوا الحرب. لهذا السبب اعتمد لينين موقفا عنيدا ولغة حادة جدا، مما أساء لمشاعر بعض الناس. لكن لينين لم يول أي اهتمام لأولئك الذين اشتكوا من حدة الهجوم. لقد كان مهتما دائما بالوضوح النظري والمبادئ أكثر من اهتمامه بمشاعر من يهاجمهم.
لم يتخل لينين ولو للحظة واحدة عن مشروع إعادة بناء أممية ثورية حقيقية، لكنه كان يعارض بشكل مطلق أي اقتراح يدعو إلى إعادة بناء الأممية الاشتراكية الديمقراطية القديمة (الثانية)، والتي وصفتها روزا لوكسمبورغ، بشكل صحيح، بأنها جثة نتنة. منذ تلك الفترة كانت فكرة بناء أممية جديدة قد بدأت تتشكل في ذهن لينين، لكنه كان يدرك جيدا أنه لا يمكن بناؤها بمجرد إصدار إعلان التأسيس. كان لا بد أن تبنى من خلال النضال ضد الاشتراكيين الشوفينيين وتبلور تيار ثوري أممي.
والحقيقة هي أن لينين وجد نفسه معزولا في بداية الحرب، ولذلك فقد بذل كل جهد ممكن من أجل ربط الاتصال مع التيارات اليسارية داخل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الأخرى. لقد كان يتتبع بشكل وثيق جدا الحياة الداخلية لجميع الأحزاب الاشتراكية، ويقرأ بتمعن وصبر الصحافة الاشتراكية في البلدان الأخرى، ويرحب بحماس بكل هجوم على الاشتراكية الشوفينية. كان مطلوبا من جميع البلاشفة المقيمين بالخارج إنشاء "نوادي أممية" محلية. وصدرت تعليمات لأولئك الذين يعرفون لغة البلد الذي يعيشون فيه بالمشاركة في الحركة العمالية في ذلك البلد، وخاصة في الأحزاب الاشتراكية.
والحقيقة هي أن قلة قليلة من الناس فقط هم من نجحوا في الحفاظ على رباطة جأشهم في ذلك الوقت. وكان لينين في روسيا وروزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت في ألمانيا وقادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الصربي وجيمس كونلي في ايرلندا وجون ماكلين في اسكتلندا استثناءات لهذه القاعدة. تروتسكي بدوره اتخذ موقفا ثوريا واضحا ضد الحرب، وهو ما يظهر بجلاء في كتابه الحرب والأممية.
لقد أصدر تروتسكي، الذي كان منفيا في باريس، جريدة روسية، تحت عنوان ناش سلوفو، والتي دافعت عن مبادئ الأممية الثورية. لقد تمكن مع مجموعة صغيرة من المتعاونين وبأقل قدر من المال، لكن بتضحيات هائلة، من إصدار جريدة يومية، وهو إنجاز فريد من نوعه لم يكن يحققه أي تيار آخر في الحركة الاشتراكية الروسية، بما في ذلك البلاشفة آنذاك. ويذكر تروتسكي في كتابه "حياتي" أن مؤتمر زيمروالد قد اعترف بالدور الذي كانت ناش سلوفو تلعبه:
«أشار المندوبون الفرنسيون في تقريرهم إلى الدور القيم لناش سلوفو في نشر أفكار الحركة الأممية في مختلف البلدان. وأشار راكوفسكي إلى أن ناش سلوفو قد لعبت دورا هاما في تطوير الموقف الأممي للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية البلقانية. كان الحزب الإيطالي مطلعا على ناش سلوفو، وذلك بفضل العديد من الترجمات التي قام بها بالابانوفا. وكثيرا ما نقلت الصحافة الألمانية، بما في ذلك الصحف الحكومية، عن ناش سلوفو ؛ وتماما مثلما حاول رينوديل أن يستند على ليبكنخت، فإن شيدمان لم يكن يعارض إدراجنا في لائحة حلفائه».
الاستعدادات لزيمروالد
اتخذت المحاولات الأولى خلال اجتماع أممي في خريف عام 1914 في لوغانو (سويسرا). أصدر الحزبان الاشتراكيان الديمقراطيان الإيطالي والسويسري قرارات مناهضة للحرب، لكنهما بعد ذلك أفسدا كل شيء من خلال مناشدة مكتب السكرتارية الأممية (قيادة الأممية القديمة) إلى "عقد اجتماع في أقرب وقت ممكن لمناقشة الشؤون الدولية". وبما أن القادة "الاشتراكيين" في الدول المتحاربة كانوا بوعي عملاء للطبقة الحاكمة، فإن البلاشفة، الذين دافعوا عن أطروحات لينين حول الحرب، عارضوا بطبيعة الحال بحزم ذلك القرار. وقد انتهى لقاء لوغانو، الذي كان مطبوعا بالنزعة السلمية، بالفشل.
تحقق أول نجاح جزئي مع مبادرة الجناح اليساري للمنظمات النسائية الاشتراكية الديمقراطية. كتبت إينيسا أرماند وألكساندرا كولونتاي، باسم الجريدة البلشفية الموجهة للنساء، رابوتنيتسا، إلى المناضلة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية كلارا زتكن، اقتراحا بتنظيم مؤتمر أممي للنساء الاشتراكيات اليساريات. وقد عقد المؤتمر في برن بسويسرا شهر مارس 1915. كان الحضور قليلا (29 مندوبة من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا وهولندا وبولندا وروسيا). عقد المؤتمر سرا، ويرجع ذلك جزئيا إلى حقيقة أن قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني كانوا قد منعوا الحضور في ذلك الاجتماع.
لم تكن النتائج كبيرة. لم يذهب القرار الذي صدر أبعد من إدانة مسالمة عامة للحرب. اقترحت المندوبات البلشفيات قرارا بديلا كان ينص على أنه: «ستحقق المرأة العاملة هدفها [...] فقط من خلال الحركة الثورية الجماهيرية وتعزيز وشحذ النضال الاشتراكي». لكن هذا الاقتراح لم يحصل سوى على أصوات المندوبات الروسيات والبولنديات. لكن وعلى الرغم من افتقار بيان المؤتمر لوضوح الرؤية وطبيعته المسالمة، فقد ساعد على تعبئة مقاومة النساء للحرب. تم توزيعه بشكل غير شرعي بأعداد كبيرة، وزعت في ألمانيا وحدها 200.000 نسخة.
وبعد شهر على ذلك تم عقد مؤتمر للشباب الاشتراكي في برن، وقد جاءت مبادرة عقد مؤتمر أممي للشباب من عند منظمة الشباب الاشتراكيين السويسريين، بالتعاون مع منظمة الشباب الاشتراكيين الإيطاليين والشبيبة الاشتراكية في منطقة شتوتغارت في ألمانيا. قبل الحرب لعب شباب الأممية الثانية دورا رئيسيا في النضال ضد الإمبريالية والنزعة العسكرية، لكن مؤتمر برن أظهر نفس الارتباك الذي رأيناه في مؤتمر النساء. ومرة أخرى اقترح المندوبون البلاشفة قرارا يدعو إلى بديل ثوري على الحرب الإمبريالية، ومرة أخرى وجدوا أنفسهم معزولين.
طرح المندوبون الاسكندينافيون قرارا سلميا يدعو إلى نزع السلاح (أثناء الحرب!)، والذي أقرته تسعة عشر صوتا مقابل ثلاثة أصوات. وكان الثلاثة الذين صوتوا ضده هم مرة أخرى الروس والبولنديون. لم تتمكن السياسة الثورية البلشفية من الانتصار إلا على أساس تجربة الأحداث الكبرى، وخاصة ثورة أكتوبر. وفي نهاية المطاف، في عام 1918، انتقلت أممية الشباب الاشتراكيين إلى جانب الشيوعية وانضمت إلى الأممية الثالثة.
أصبحت الحاجة إلى اجتماع أممي لأولئك الذين يعارضون الحرب واضحة على نحو متزايد. وقد كان الحزبان الإيطالي والسويسري، اللذان كان يسود صفوفهما مزاج قوي مناهض للحرب، هما أفضل من يمكنهما تنظيم ذلك اللقاء. كان قادة هذه المبادرة (جريم وبالابانوفا) ذوي نزعة وسطية. دعيا إلى عقد مؤتمر في برن في يوليوز 1915. لكنهما لم يعملا على دعوة ولا واحدة من المجموعات اليسارية الحقيقية، بل وجها الدعوة للقادة "الوسطيين": هوغو هاس وكارل برانتين وبيتر ترويلسترا، وذلك ضد احتجاجات البلاشفة. وغني عن القول، أن جريم كان يعارض إنشاء أممية جديدة.
عقد مؤتمر تنظيمي أولي في برن يوم 11 يوليوز 1915. وقد ظهرت في ذلك الاجتماع خلافات حول من سيتم استدعاؤه إلى المؤتمر. اقترح البلاشفة أنه ينبغي أن يقتصر على أولئك الذين تبنوا سياسة واضحة لا لبس فيها معادية للإمبريالية ومعادية للانتهازية، لكن البعض الآخر أرادوا لقاء "موسعا" يضم أنصار النزعة السلمية والعناصر الوسطية. وكانت النتيجة توافقا صعبا.
افتتاح المؤتمر
كان اختيار مكان المؤتمر لا يخلو من مفارقة، ففي كل مكان كان يسمع هدير يصم الآذان للمدافع والرشاشات، لكن في جبال الألب السويسرية كان هناك سلام وهدوء مثاليان. بدا كما لو أن الحرب العالمية تحدث في كوكب آخر. أما في بلدة زيمروالد الصغيرة الهادئة فقد واصلت الحياة اليومية مجراها المعتاد كما كانت على مدى أجيال.
كان هذا هو الحال عندما حلت بالبلدة، في 05 شتنبر 1915، مجموعة ممن يفترض أنهم علماء طيور من جميع أنحاء العالم، جاءوا من برن في أربع عربات تجرها الخيول. عبروا مروج لانغنبيرغ (Längenberg) الخلابة للوصول إلى زيمروالد في المساء. ونظرا لعدم وجود أسرة كافية في فندق بو سيجور (Beau Séjour)، كان لا بد من إنزال بعض "علماء الطيور" هؤلاء في بيت ساعي بريد القرية.
أحس سكان هذه القرية السويسرية الهادئة بالغضب الشديد عندما اكتشفوا لاحقا أن "مراقبي الطيور" الثلاثين الغرباء هؤلاء كانوا في الواقع قادة اشتراكيين أمميين من اثنتي عشرة بلدا مختلفا جاءوا استجابة لدعوة من الاشتراكي الديمقراطي السويسري روبرت جريم لمناقشة كيف يمكن للطبقة العاملة في أوروبا الرد على الحرب الإمبريالية. لكن ما قاله هؤلاء المواطنون السويسريون المحترمون بخصوص ذلك لم يجد للأسف مكانا له في كتب التاريخ. لكن ما أصبح يعرف باسم مؤتمر زيمروالد كان نقطة تحول مهمة في التاريخ.
مجرد حقيقة أنهم قطعوا تلك المسافات الطويلة كانت بالفعل إنجازا كبيرا. لكن ومع ذلك فإن المشاركين في الاجتماع في زيمروالد كانوا، كما سبق لنا أن أشرنا، غير متجانسين إلى حد ما. قال زينوفييف، بشكل صحيح دون شك، إن نية روبرت جريم كانت تنظيم لقاء أممي للتيار "الوسطي" وليس لليسار. ذلك شيء كان لينين مستعدا للنضال ضده بكل قوته. كان هدف لينين قبل كل شيء هو حشد قوى اليسار الحقيقية وإحداث قطيعة جذرية مع انتهازيي الأممية الثانية.
كان هناك حماس في المؤتمر، وهو الحماس الذي كان منطقيا بعد تلك الفترة الطويلة من عزلة الاشتراكيين المناهضين للحرب، الذين كانوا يعملون في أصعب الظروف. عند وصول لينين وعندما تطلع في جميع أنحاء الغرفة ورأى العدد القليل للحضور، قال مازحا: «يمكنك وضع كل الأمميين في العالم في أربع عربات». لكن لينين كان حريصا على أن يحل المؤتمر القضايا الأساسية، وألا يترك أي مجال للغموض.
وصل لينين في وقت مبكر إلى القرية السويسرية الصغيرة النائمة لإجراء مناقشات طويلة مع المندوبين الآخرين. كان يحضر للمؤتمر منذ شهور، ويصوغ الوثائق بطريقة واضحة وحازمة. لقد عدل البيان الأصلي الذي كان أكاديميا جدا وليس حازما بما فيه الكفاية ليروق له. لكن غالبية المندوبين كانوا بعيدين عن الانسجام وكانوا يميلون نحو الوسطية.
في زيمروالد، نظم لينين "الجناح اليساري لزيمروالد". كان أقلية داخل أقلية (ثمانية من أصل 38). والمشكلة لم تكن فقط أن اليسار كان معزولا على الصعيد الأممي، بل هي أنه حتى في زيمروالد، كان اليسار الثوري أيضا أقلية. وأحيانا وجد لينين نفسه في وضع أقلية داخل اليسار ذاته.
بدأ المؤتمر أشغاله بقراءة بيانات المنظمات والأشخاص الذين لم يتمكنوا من الحضور. لم يتمكن المندوبون من حزب العمال البريطاني المستقل والحزب الاشتراكي البريطاني من الحضور لأنهم منعوا من جوازات السفر، لكنهم بعثوا خطابات يعربون فيها عن تعاطفهم مع أهداف المؤتمر. وكذلك منعت الحكومة الفرنسية المناضلين الفرنسيين الثوريين، ألفريد روسمر وبيير موناتي، من الحضور.
وقد كانت أهم رسالة، دون شك، هي تلك التي بعثها الاشتراكي الديمقراطي الألماني كارل ليبكنخت، الذي كان يقضي عقوبة السجن في ألمانيا بسبب معارضته للحرب، والذي لم يكن يمكن حتى الإشارة إلى اسمه في التقرير الرسمي للمؤتمر. وفي هذا الصدد يتذكر تروتسكي قائلا:
«ليبكنخت نفسه لم يحضر في زيمروالد. كان قد اعتقل في جيش هوهنزلرن قبل أن يصبح معتقلا في السجن. بعث ليبكنخت رسالة إلى المؤتمر أعلن فيها انتقاله بشكل مفاجئ من النزعة المسالمة إلى الثورة. وقد ورد اسمه في العديد من المناسبات خلال المؤتمر. كان قد صار بالفعل رمزا للصراع الذي كان يشق الاشتراكية العالمية».
تمت قراءة رسالة كارل ليبكنخت في المؤتمر، مما شكل لحظة عاطفية في أشغاله: كتب ليبكنخت: «أنا أسير النزعة العسكرية، أنا أرزح تحت الأغلال. لذلك لا أستطيع أن أتحدث إليكم مباشرة، لكن قلبي وأفكاري وكل كياني معكم». وقال في رسالته أيضا:
«نعم لتصفية حسابات صارمة مع المتخاذلين والمرتدين عن الأممية في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من البلدان.
نعم للتفاهم المتبادل والتعاون المتبادل والتحفيز المتبادل بين أولئك الذين استمروا أوفياء لرايتهم ومصممين على عدم التنازل ولو عن شبر واحد للإمبريالية العالمية، حتى ولو تم تقطيع أوصالهم. نعم للنظام (Ordnung) في صفوف أولئك الذين عقدوا العزم على الصمود والحزم والنضال، والذين يقفون وأقدامهم ثابتة على أسس الاشتراكية الأممية».
وقال أيضا: «لا للسلم الأهلي نعم للحرب الأهلية! [...] نعم للتضامن الأممي للبروليتاريا فوق وضد الانسجام القومي (national) المزيف والوطني (patriotic) المزيف بين الطبقات. نعم للصراع الطبقي الأممي فوق وضد الحرب بين الدول. نعم للصراع الطبقي الأممي من أجل السلام، من أجل الثورة الاشتراكية».
بعد ذلك قدم المندوبون تقاريرهم عن الأوضاع في بلدانهم.
قال المندوب الفرنسي ميرهيم إن العمال في فرنسا يعيشون "في حالة من خيبة الأمل" و"انحطاط الروح المعنوية":
«في فرنسا نحن أمام طبقة عاملة محبطة تماما، طبقة عاملة فقدت في الوقت الحاضر كل إيمان. سوف تستمع لنا فقط إن تكلمنا عن السلام، لكنها لن تستمع إلينا إن كررنا الكليشيهات القديمة». يعكس هذا التقييم المتشائم شيئا سبق لنا أن رأيناه في كثير من الأحيان: إنه ميل بعض اليساريين إلى إلقاء اللوم في كل شيء على الطبقة العاملة و"التخلف" المزعوم للجماهير. قاطع تروتسكي المتحدث قائلا: «موناتي وروسمر يعتقدان عكس ذلك».
قدم الاشتراكيان البلقانيان كريستيان راكوفسكي والبلغاري كولاروف تقريرا مفصلا عن مقاومة حزبهما لحرب البلقان الثانية. كما تحدث كولاروف أيضا عن الانشقاق بين جناح تيسنياكي (Tesnyaki) أو الاشتراكيين "الضيقين" وبين جناح الانتهازيين داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية البلغارية. وقد شكلت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فدرالية بين الاشتراكيين البلقان تم استبعاد الانتهازيين منها.
تحدث المندوبون الايطاليون في تقريرهم عن اضطهاد الاشتراكيين منذ دخول إيطاليا في الحرب. وقد رافق هذا اندلاع الإضرابات والمظاهرات في الشوارع على يد العمال الإيطاليين. تحدث هنرييت رولاند هولست عن النشاط التكتلي داخل الحركة الاشتراكية الهولندية وقدم فيكتور تشيرنوف تقريرا باسم الحزب الاشتراكي الثوري الروسي، كما قدم بافل أكسلرود تقريرا باسم المناشفة مهونا من موقف حزبه الغامض من الحرب.
صراعات حادة
كان مؤتمر زيمروالد طبعا مسرحا لصراع أيديولوجي حاد. وكانت الوثيقة الأولى التي أنتجها المؤتمر إعلانا مشتركا بين الوفدين الفرنسي والألماني. أعلن هذا البيان، الذي وقعه ليدبور وهوفمان عن الطرف الألماني وميرهيم وبوديرون عن الطرف الفرنسي، أن الحرب العالمية الأولى ليست حربهم، وأنها اندلعت بسبب السياسة الإمبريالية والاستعمارية لجميع الحكومات. ودعت إلى تحرر بلجيكا وبناء سلام دون إلحاقات أو "هيمنة اقتصادية"، وحق تقرير المصير للشعوب المعنية. كما دعت الوثيقة إلى إنهاء سياسة السلم الأهلي وتجدد الصراع الطبقي من أجل إجبار حكوماتهم على إنهاء الحرب.
لم تكن المشاعر التي عبر عنها ليبكنخت هي نفس تلك التي عبر عنها جورج ليدبور، ممثل النزعة "الوسطية" الكاوتسكية، والذي كان الزعيم الرئيسي للجناح اليميني في زيمروالد. وقد أثارت محاولته تقديم الأعذار للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني احتجاجات غاضبة أدت إلى مقاطعته. يستحق رده على هذه الاحتجاجات أن ننقله حرفيا:
«لم يكن من الممكن للأقلية أن تتكلم في الرايخستاغ [مجلس النواب الألماني] إلا إذا أنشأنا كتلة جديد، وقد تجنبنا القيام بذلك من أجل تلافي تقسيم الحزب. فمن الضروري في زمن الحرب خصوصا الحفاظ على تماسك الصفوف حتى لا نفقد التأثير على الجماهير».
تختزل لنا هذه الكلمات القليلة كل جوهر موقف الإصلاحيين اليساريين والوسطيين. فالإصلاحيون اليمينيون مرتبطون بالبرجوازية والإمبريالية وينجزون بخنوع أعمالها القذرة، بينما يرتبط الإصلاحيون "اليساريون" بالجناح اليميني ويخضعون له بخنوع باسم "الوحدة"، وبالتالي الحفاظ على نفوذ الجناح اليميني والبرجوازية على الجماهير.
وفي رده على ليدبور قال بيرتا تالهيمر، باسم منظمة سبارتاكوس: «لم يتحدث الرفيق ليدبور هنا باسم المعارضة كلها. هناك أيضا أقلية داخل الأقلية، أقلية مجتمعة حول ليبكنخت، وهي تدعم موقفه بوضع المبادئ فوق الانضباط الحزبي».
كان تروتسكي قريبا جدا من اليسار سياسيا، لكنه كان ما يزال يختار أن يبقى مستقلا. وحتى داخل اليسار كانت هناك خلافات. بين صفوف اليسار تم رفض مشروع قرار تقدم به لينين لصالح مشروع آخر تقدم به راديك. وبعد ذلك قدم هذا القرار إلى المؤتمر وأحيل على لجنة الصياغة، لكن تم رفضه بأغلبية 19 صوتا مقابل 12. صوت تروتسكي لصالح القرار. وعلق جريم على مشروع لينين "إلى عمال أوروبا"، بأنه مشروع قرار موجه إلى أعضاء الحزب أكثر مما هو موجه للجماهير.
عمل ليدبور كل ما في مستطاعه من أجل تمييع لغة البيان الختامي. أصر المندوبون الألمان على أن تستبعد من نص البيان المطالب البرلمانية، مثل التصويت ضد اعتمادات الحرب والانسحاب من الوزارات، في حين عبر لينين واليسار عن تحفظاتهم من أن البيان لم يتبرأ من الانتهازية ولم يقدم خطة منهجية واضحة للنضال ضد الحرب. حاول أنصار مشروع القرار اليساري بزيمروالد، جنبا إلى جنب مع رولاند هولست وتروتسكي، إدخال تعديل نص على إزالة الإشارة إلى اعتمادات الحرب من البيان وإزالة عبارة ليدبور بأن "البيان يحتوي على كل ما هو مضمر [في مثل هذا] الاقتراح ". احتج ليدبور وقال إنه لن يوقع على البيان إذا تم إدراج ذلك التعديل. ونتيجة لذلك تم سحب التعديل. وفي النهاية تم تكليف تروتسكي بصياغة البيان، الذي اعتمد من قبل جميع المندوبين، على الرغم من الخلافات الموجودة بينهم.
ما بعد زيمروالد
على الرغم من التحفظات وقع لينين ويسار زيمروالد على البيان. وقد لخص لينين موقفه في عنوان مقالته "الخطوة الأولى"، حيث كتب: «يمثل البيان في الواقع خطوة نحو القطع الفكري والعملي مع الانتهازية والاشتراكية - الشوفينية. وفي الوقت نفسه فإن البيان، كما يمكن لأي تحليل أن يظهر، يحتوي على تناقضات، ولا يقول كل ما ينبغي أن يقال».
يعني هذا، بعبارة أخرى، أن لينين انتقد البيان ليس بسبب ما يقوله بل بسبب ما لم يقله. كانت المهمة الرئيسية هي تطوير يسار زيمروالد باعتباره تيارا مستقلا. وحتى مع ذلك فإن العديد من "اليساريين" كانوا قد بدءوا يتذبذبون. كانت للينين مشكلة مع رولاند هولست وراديك خصوصا حول الخط السياسي للجريدة الرسمية لليسار، فوربوت Vorbote (المنبر)، التي صدرت في هولندا بمساعدة بانيكوك.
كتب تروتسكي في سيرته الذاتية:
«كانت أيام المؤتمر، ما بين 05 و08 شتنبر، أياما عاصفة. وافق الجناح الثوري، بقيادة لينين، والجناح المسالم، الذي تألف من غالبية المندوبين، بصعوبة على وثيقة مشتركة كنت أنا من أعد مشروعها. كان البيان بعيدا عن أن يقول كل ما كان يجب أن يقال، لكنه، على الرغم من ذلك، كان خطوة هائلة إلى الأمام. كان لينين في أقصى يسار المؤتمر، وقد وجد نفسه في كثير من المسائل وحيدا، حتى داخل الجناح اليساري لزيمروالد، الذي لم أكن أنتمي إليه رسميا، على الرغم من أنني كنت قريبا منه في كل المسائل المهمة. في زيمروالد كان لينين يقوي أسس العمل الأممي المستقبلي. كان في تلك القرية الجبلية السويسرية يضع حجر الزاوية لبناء الأممية الثورية.
فرض المؤتمر حظرا صارما على جميع التقارير التي كتبت في زيمروالد، حتى لا تتسرب الأخبار قبل الأوان إلى الصحافة مما سيخلق صعوبات أمام المندوبين العائدين إلى بلدانهم عندما يعبرون الحدود. لكن رغم ذلك، وبعد أيام قليلة، صار اسم زيمروالد، غير المعروف حتى ذلك الحين، يتردد في جميع أنحاء العالم. كان لهذا تأثير مذهل على مالك الفندق؛ حيث قال السويسري الشجاع لجريم إنه يتوقع زيادة كبيرة في قيمة ممتلكاته ولذلك فإنه مستعد للإسهام بمبلغ معين في صندوق الأممية الثالثة. لكنني أظن أنه سرعان ما غير رأيه». ( My Life)
شكل المؤتمر لجنة اشتراكية أممية فوض لها مهمة إنشاء أمانة مؤقتة في برن والتي من شأنها أن تنسق بين المجموعات المنخرطة والبدء في إصدار منشور يتضمن البيان وتقريرا عن وقائع المؤتمر، لكنها كانت تتألف أساسا من الوسطيين مثل جريم وبلابانوفا ولم تحقق سوى القليل جدا.
لقد مثل مؤتمر زيمروالد، على الرغم من كل أوجه القصور فيه، خطوة إلى الأمام للحركة الاشتراكية الأممية. على المرء أن يضع في الاعتبار العزلة الرهيبة التي عانت منها الطليعة البروليتارية في تلك السنوات عندما، على حد تعبير لينين مرة أخرى، كان في الإمكان جمع كل الأمميين في العالم في عربة. وفي وقت لاحق كتب تروتسكي، متذكرا تلك الأحداث وملخصا لأهميتها:
«خلال الحرب كان هناك صمت يشبه صمت القبور بين صفوف العمال. وكان مؤتمر زيمروالد مؤتمرا لعناصر في أغلبيتها مشوشة جدا. لكن في أعماق الجماهير وفي الخنادق وغيرها، كان هناك مزاج جديد ينمو، لكنه كان مزاجا عميقا جدا ومقموعا فلم نتمكن من أن نصل إليه ونعطيه تعبيرا. وهذا هو السبب الذي جعل الحركة تنظر إلى نفسها باعتبارها فقيرة جدا، ودفع حتى تلك العناصر التي اجتمعت في زيمروالد إلى الانتقال في أغلبيتها إلى اليمين في العام الموالي وفي الشهر الموالي. لن أعمل على تبرئتهم من المسؤولية الشخصية، لكن التفسير العام هو أن الحركة كانت مجبرة على السباحة ضد التيار.» (تروتسكي، النضال ضد التيار، 1939).
بعد المؤتمر تواصل العمل على توحيد الطليعة الثورية الأممية. وظلت مهمة شاقة. وفي ظل هذه الظروف قدم زيمروالد بدون شك بصيصا من الأمل، كما يشرح تروتسكي في كتابه "حياتي":
«أعطى مؤتمر زيمروالد دفعة قوية لتطوير الحركة المناهضة للحرب في العديد من الدول. في ألمانيا وسعت منظمة سبارتاكوس أنشطتها. وفي فرنسا تم إنشاء "لجنة لاستعادة العلاقات الأممية". كما قوى الفرع العمالي للجالية الروسية في باريس صفوفه حول جريدة ناش سلوفو، مما أعطاها الدعم اللازم للاستمرار رغم الصعوبات المالية وغيرها. مارتوف، الذي كان مساهما فعالا في عمل ناش سلوفو، في الفترة الأولى، بدأ الآن يبتعد عنها. والفروق الطفيفة في الجوهر التي كانت ما تزال تفصل بيني وبين لينين في زيمروالد تضاءلت إلى درجة الاختفاء خلال الأشهر القليلة اللاحقة».
لكن السلطات الفرنسية كانت قلقة بشكل متزايد بشأن أنشطة تروتسكي. استمرت ناش سلوفو تصدر لمدة عامين ونصف العام، تحت العين الساهرة للرقابة، في حياة محفوفة بالمخاطر، حتى قررت السلطات الفرنسية، تحت ضغط الحكومة الروسية، إغلاقها. بعد وقت قصير من زيمروالد، وخلال تمرد حدث في الأسطول الروسي في تولون، تم العثور على نسخ من جريدة تروتسكي في حوزة بعض البحارة، مما استخدم ذريعة من طرف السلطات الفرنسية لترحيل تروتسكي في نهاية عام 1916.
بعد أن أمضى فترة قصيرة في إسبانيا، حيث تعرف تروتسكي على الحياة داخل السجون الإسبانية، تم ترحيله مرة أخرى إلى نيويورك، حيث تعاون مع بوخارين وغيره من الثوريين الروس في نشر جريدة نوفي مير، التي كانت تنشر مقالات لا يمكن تمييز موقفها السياسي تقريبا عن موقف لينين.
الانقسامات في معسكر زيمروالد
كانت التوترات بين اليمين واليسار تتصاعد داخل حركة زيمروالد التي أقل ما يقال عنها أنها كانت حركة غير متجانسة. كان لينين مستعدا للتعايش مؤقتا مع الوسطيين، والانطلاق من قاعدة أولية ضعيفة، لكن ذلك لم يكن يمكنه أن يستمر. كان هناك انقسام أممي موجود بحكم الأمر الواقع، وحده لينين من رآه مسبقا. ففي ظل ظروف الحرب والثورة كانت جميع التيارات الوسطية محكومة بالاختفاء. ولم يعمل لينين سوى على مساعدتها على ذلك بإصراره على ضرورة الوضوح النظري. لا يمكن التسامح مع الغموض النظري خلال الفترات الحاسمة في التاريخ عندما تكون هناك حاجة ملحة للاختيار.
كان الوضع الموضوعي يدفع الجماهير نحو اليسار، نحو طريق الثورة. بينما كان التيار الوسطي داخل زيمروالد يتلكأ. كانت هناك فقط طريقتان للسير: إما السير حتى النهاية وإحداث قطيعة حاسمة مع الإصلاحية والمرور إلى موقف ثوري واضح، أو العودة إلى مستنقع الإصلاحية. وقد أوضح لينين هذا الواقع، بالقول والفعل. لذلك كرهه الوسطيون، لأنه في كل لحظة في التاريخ دائما ما يكره مشوش الذهن صاحب الأفكار الواضحة.
كان روبرت جريم أول من انتقل إلى اليمين. فبحلول صيف عام 1916، كان قد اجتاز الخط الفاصل. كان لينين لا يرحم في انتقاده للوسطيين الذين كانوا ثوريين بالأقوال لكنهم إصلاحيون برجوازيون بالأفعال. وهذا بالضبط ما كان لينين يكرهه. وسرعان ما سار توراتي ومرهيم وبورديرون والوسطيون الآخرون في نفس الطريق. وفي النهاية لم يتبق شيء من زيمروالد باستثناء الذكرى وجناحه اليساري!
واصل لينين كفاحه من أجل أممية جديدة، لكن لم تكن معه سوى مجموعة صغيرة من الأنصار، وفي الواقع فإنه كثيرا ما كان أقلية حتى داخل تلك المجموعة نفسها خلال الحرب. كانت لبلاشفة بارزين مثل بوخارين وراديك وبياتاكوف، على سبيل المثال، خلافات جوهرية معه، خصوصا حول مسألة حق تقرير المصير الهامة. وفي سياق أوروبا التي مزقتها الحرب والمقسمة بالأسلاك الشائكة ومع الرقابة العسكرية الصارمة على الصحف والمراسلات، كانت الاتصالات مع روسيا صعبة إلى أقصى الحدود.
رسالة زيمروالد، وعلى الرغم من عدم اكتمالها، كانت قد بدأت تصل إلى الجماهير. العمال في معظم الأحوال ليسوا معتادين على قراءة "الحروف الصغيرة" للوثائق السياسية، لكنهم يأخذون ما يعتبرونه الرسالة المركزية ويملئونها بمحتوى طبقي. بفضل مشاركة لينين في زيمروالد صارت كتاباته حول الحرب والأممية معروفة على نطاق واسع وبلغات مختلفة. فاكتسب يسار زيمروالد نقاط دعم هامة لصالح مستقبل الأممية الثالثة.
يفسر شليابنيكوف، في مذكراته، كيف وصل خبر مؤتمر زيمروالد تدريجيا إلى العمال في روسيا، وكان له أثر إيجابي جدا في تشجيعهم وبخاصة تلك الفئات التي لم تكن مرتبطة مباشرة بالبلاشفة. وكتب قائلا: «وكما تبين في وقت لاحق، صارت جميع هذه الخلايا من أنصار قرارات زيمروالد. وينبغي أن نلاحظ أن هذه المجموعات الصغيرة لم تكن مترابطة فيما بينها ولم تكن تعرف حتى بوجود بعضها البعض».
لم يقتصر رد الفعل هذا على روسيا وحدها، فقد ظهرت آنذاك بدايات تمرد داخل الأحزاب الجماهيرية للأممية الثانية. ألمانيا نفسها كانت تتحرك آنذاك نحو وضع ما قبل ثوري. وفي بدايات عام 1916 دعا النائب في الرايخستاغ، أوتو روهل، بشكل علني إلى القطع مع الاشتراكيين الشوفينيين. كانت المجموعات اليسارية في ألمانيا قد بدأت تصل، بشكل مستقل، إلى رؤية الحاجة إلى أممية جديدة. وكان لينين يتابع عن كثب تلك السلسلة من "الرسائل" التي كان ينشرها اليسار الألماني بتوقيع "سبارتاكوس". وكانت الشبيبة الاشتراكية التي أسسها كارل ليبكنخت هي القاعدة الرئيسية لليسار.
كانت الأمور قد بدأت تتحرك في النمسا أيضا. ففي خريف عام 1916 تشكل جناح يساري داخل الحزب الاشتراكي النمساوي استنادا إلى الشباب وقاد "نادي كارل ماركس" في فيينا التحريض المناهض للحرب. وفي فرنسا، تم تشكيل فريق يساري بين نواب الحزب والذي تلقى رسائل التأييد من خنادق الحرب. وفي بريطانيا تم طرد مجموعة هايدمان الشوفينية من الحزب الاشتراكي البريطاني في مؤتمر سالفورد في أبريل.
وفي إيطاليا كان القائد "الأكثر يسارية"، سيراتي، ما يزال مرتبطا بالوسطيين، في حين كان الشاب غرامشي يدعم أفكار لينين. وكان الحزب الاشتراكي السويسري قد رفض مواقف زيمروالد باعتبارها "متطرفة للغاية"، لكن قسما كبيرا من القواعد دعموها. وفي بلغاريا كان الاشتراكيون "الضيقون" (Tesnyaki) قد تبنوا بالفعل موقفا ثوريا مناهضا للحرب. كانت التيارات الثورية أو شبه الثورية قد بدأت تتبلور داخل المنظمات الجماهيرية القائمة في كل مكان.
من الحرب الإمبريالية إلى الثورة الاشتراكية
كان الطريق إلى الثورة طويلا وشاقا مثلما هو عليه الحال الآن. والتاريخ لا يعرف طرقا مختصرة، كما لا توجد أية صيغ سحرية يمكنها أن تجعل عملنا أسرع أو أسهل. وقد تحدث لينين مرارا عن الحاجة إلى الصبر الثوري. إن الصعوبات التي نواجهها اليوم ليست شيئا يذكر بالمقارنة مع المشاكل الرهيبة التي واجهت لينين وتروتسكي خلال الحرب العالمية الأولى. ففي عالم حيث كان العمال يطلقون النار على بعضهم البعض ويقصفون بعضهم البعض للدفاع عن مصالح الطبقات الحاكمة في بلدانهم، بدا شعار يا عمال العالم اتحدوا وكأنه سخرية قاتمة. بدا كما لو أن قضية الاشتراكية الأممية قد ماتت ودفنت تحت جبل من الجثث. بدا احتمال الثورة الاشتراكية وكأنه يوتوبيا مستحيلة، كما لو أنه حلم عقيم.
لا بد أن الردة الرجعية بدت كما لو أنها كابوس لن ينتهي أبدا. لكن ورغم ذلك فإنه تحت السطح كانت هناك روح جديدة تنمو تدريجيا. ففي خضم الوحل والدم في الخنادق كانت أفكار الرجال تتطور. وفي طوابير الخبز الطويلة كانت النساء الجائعات قد بدأن يشتكين من الحرب ومن الطفيليات الغنية التي كانت تزداد ثراء على حساب أطفالهن. وكان العمال والفلاحون في المصانع والحقول قد بدءوا في التحرك ببطء وبتردد في البداية، ثم بجرأة وعزيمة أكبر. وصارت ملامح الأزمة الثورية المتنامية واضحة للعيان.
كانت هناك العديد من الأدلة على حدوث تغيير. ففي ألمانيا واجه حشد غاضب من الناس الزعيم الاشتراكي اليميني شيدمان بصيحات الاستهجان. وفي غلاسكو نظمت نساء الطبقة العاملة إضرابا عن دفع الإيجار بدعم من العمال. كما شهدت العديد من البلدان مظاهرات ضد غلاء المعيشة. وفوق كل شيء اتضح السخط الاجتماعي المتزايد في جميع القوى المتحاربة على شكل تصعيد حاد في الإضرابات:
عدد المضربين | عدد الإضرابات | السنة | البلدان |
14.000 | 137 | 1915 | ألمانيا |
129.000 | 240 | 1916 | |
9.000 | 98 | 1915 | فرنسا |
41.000 | 314 | 1916 | |
539.000 | 928 | 1915 | روسيا |
1.086.000 | 1410 | 1916 |
من الناحية العملية كانت الإنجازات الفعلية لذلك المؤتمر الصغير، الذي انعقد في شتنبر 1915، إنجازات ضئيلة. كانت أهميته رمزية أكثر مما كانت حقيقية. وكان الجانب الأكثر أهمية ليس المؤتمر نفسه ("فحركة زيمروالد"، التي كانت تضم عناصر متناقضة، سرعان ما تلاشت وانتهت).
يسار زيمروالد في حد ذاته لم يكن ليمتلك أهمية مستقلة إلا باعتباره نقطة انطلاق لتأسيس أممية جديدة. لكن هذه الأخيرة كان لا بد أن تبنى على أساس الأحداث العظيمة التي كانت على بعد بضعة أشهر فقط. من خلال تجربة زيمروالد تمكن لينين من اكتساب خبرة لا تقدر بثمن ومجموعة واسعة من الاتصالات في مختلف البلدان. كانت هذه محطة ضرورية في الرحلة نحو ثورة أكتوبر. لكن هذا المنظور كان يبدو بعيدا جدا في ذلك الوقت.
كان الشيء الأكثر أهمية هو نضال لينين من أجل فصل الأمميين الثوريين الحقيقيين عن خليط الإصلاحيين اليساريين والوسطيين، من أجل الماركسية الثورية الحقيقية ومن أجل الأممية الثالثة. بالنسبة للكثير من الناس كان لينين يبدو قاسيا جدا في لهجته وعنيدا جدا ومتشددا للغاية، وبكلمة واحدة "عصبويا" للغاية. لكن وكما كتب تروتسكي في وقت لاحق: «إن تهمة العصبوية عندما تأتي من عند الانتهازيين، تكون في معظم الأحيان مجاملة». لقد كانت تلك الصلابة الشديدة على وجه التحديد هي التي مكنت لينين، جنبا إلى جنب مع تروتسكي، من قيادة الحزب البلشفي نحو النصر.
كان لينين شخصا متفائلا جدا، لكن حتى هو لم يكن بمنأى عن مزاج الاكتئاب. وكانت تراوده في بعض الأحيان فكرة أنه قد لا يعيش ليرى الثورة. وقد كتب في رسالة إلى إينيسا أرماند، بمناسبة رأس السنة الميلادية 1916، عبر فيها عن أعمق مخاوفه: «إن الحركة الثورية تنمو ببطء شديد وبصعوبة.» وأضاف بلهجة مستسلمة: «يجب أن نتقبل هذا الوضع». وفي كلمة ألقاها أمام الاشتراكيين الشباب السويسريين، في يناير 1917، قال: «نحن الجيل القديم قد لا نعيش لنرى المعارك الحاسمة لهذه الثورة القادمة». لكن بعد شهر واحد تمت الإطاحة بالقيصر. وبعد أقل من عام وصل البلاشفة إلى السلطة في روسيا.
قد تظهر ثورة أكتوبر اليوم لكثير من الناس وكأنها كانت حدثا حتميا، وكأنها كانت مقررة من طرف القدر. لكنها لم تكن كذلك. لم يتحقق انتصار البلشفية بسرعة أو بسهولة. فقبل أن يتمكن البلاشفة من حسم السلطة، كان عليهم أولا كسب الجماهير إلى صفهم. وقبل أن يتمكنوا من كسب الجماهير، كان عليهم أولا بناء وتقوية الطليعة الثورية. وكان هذا يتطلب خوض صراع قاس لتطهير الحركة من الإصلاحية والأوهام السلمية، ومكافحة ارتباك اليسار الإصلاحي وتذبذب الوسطيين والدفاع عن سياسة ثورية وأممية حقيقية. وقد مثل مؤتمر زيمروالد مرحلة هامة في هذا الصراع.
معنى زيمروالد اليوم
والآن بعد قرن من الزمن، ما هي الخلاصات التي علينا أن نستخلصها من زيمروالد؟ علينا أن نستخلص هذه الخلاصة: أن أزمة الرأسمالية تنتج دائما نقيضها. فمن رحم الأوضاع الأكثر رجعية يمكن أن تأتي انفجارات ثورية جديدة وغير مسبوقة. ويمكن أن يحدث هذا حينما لا يكون حدوثه متوقعا. كان في الإمكان تجميع القوات الصغيرة التي التقت في زيمروالد في أربع عربات تجرها الخيول، أما اليوم فإن القوى الماركسية على الصعيد العالمي، وإن كانت ما تزال صغيرة نسبيا، هي أكثر عددا من ذلك. وعلاوة على ذلك، فإن القوى الماركسية الحقيقية في عام 1915 كانت معزولة بالكامل تقريبا عن الطبقة العاملة، وكانت تناضل ضد التيار بكل ما في الكلمة من معنى.
إن المعنى الحقيقي لزيمروالد اليوم هو أنه من الواجب علينا دائما، وفي جميع الظروف، مواصلة النضال من أجل الثورة الاشتراكية، والدفاع عن الأفكار الماركسية وتثقيف الكوادر. من الممكن اليوم أن يقول البعض بأن الحركة قد تراجعت. لقد تعرضت الأممية الشيوعية التي أسسها لينين للتحطيم على يد ستالين ولم تعد الآن سوى ذكرى بعيدة شبه منسية. وتم تقويض ثورة أكتوبر نفسها من طرف النظام الستاليني البيروقراطي الذي استولى على السلطة بعد وفاة لينين، وخلق صورة كاريكاتورية وحشية عن الاشتراكية جرت الاتحاد السوفييتي إلى الهاوية. وتم تصوير سقوط الاتحاد السوفياتي كنهاية للشيوعية ونهاية للاشتراكية، بل وحتى نهاية للتاريخ.
لكن لا يمكن التخلص من التاريخ بسهولة. فبعد خمسة وعشرين عاما على انهيار الستالينية، ها نحن أمام نقطة تحول تاريخية أكبر بكثير. لقد أظهرت أزمة 2008 أن الرأسمالية قد بلغت حدودها التاريخية. وبطريقة جدلية تضافرت جميع العوامل التي دفعت الاقتصاد العالمي صعودا لكي تدفع بالنظام بأكمله نحو الأسفل في دوامة لا نهاية لها من التدهور الاقتصادي.
حاولت كل حكومات العالم، خلال السنوات الست أو السبع التي تلت الانهيار، استعادة التوازن الاقتصادي القديم. لكن كل المحاولات التي بذلت لاستعادة التوازن الاقتصادي لم تؤد سوى إلى تدمير التوازن الاجتماعي والسياسي. وعلاوة على ذلك، فقد فشلت كل تلك الجهود لاستعادة ولو ما يشبه التوازن الاقتصادي. والآن ها هو الاقتصاد العالمي يترنح على حافة سقوط جديد وأكثر كارثية.
يمثل هذا منعطفا حادا في الوضع، ويترافق حتما بحدوث تغييرات حادة في الوعي. وفي كل مكان: من تركيا إلى البرازيل، ومن اليونان إلى إسبانيا، ومن اسكتلندا إلى أيرلندا، تبحث الجماهير عن وسيلة للخروج من الأزمة. ويجري حاليا وضع الأفكار والأحزاب القديمة والسياسيين على محك التجربة والتخلص منهم الواحد تلو الآخر، بنفس الطريقة التي يتخلص بها المرء من قميص قذر ويغيره بآخر جديد. هناك تيار يغلي من السخط والاستنكار والغضب يدفع نحو البحث عن حل جذري للأزمة.
إن الجيل الجديد متخلص تماما من الأحكام المسبقة القديمة ونزعة التشاؤم والشك السامة التي تطغى على نظرة الجيل القديم الذي لا يرى سوى الهزائم والصعوبات والذي فقد الرغبة في مواصلة الكفاح. إن الشباب ثوري بطبيعته ومنفتح بشكل كامل على الأفكار الماركسية الثورية. على هذه الفئة استند لينين عندما أعلن أن: «من لديه الشباب لديه المستقبل».
واليوم يقف التيار الماركسي الأممي على نفس الأرضية الأيديولوجية التي وقف عليها قبل مائة سنة يسار زيمروالد. نحن فخورون بأن راية لينين رايتنا، ونتعهد بالدفاع عن الأفكار البلشفية والبرامج والمبادئ البلشفية باعتبارها الأفكار الوحيدة التي يمكنها أن تقود الإنسانية للخروج من الأزمة الرهيبة التي أغرقتها الرأسمالية فيها.
نحن مثلنا مثل لينين سوف ندير ظهورنا لهؤلاء الجبناء والمتشائمين الذين يرغبون في التخلي عن الأفكار الماركسية، وتمييع برنامجنا الثوري من أجل إرضاء دعاة الوحدة. نحن مثلنا مثل لينين حازمون ولا نتنازل مطلقا فيما يتعلق بجميع المسائل المبدئية، لكننا مرنون بشأن جميع المسائل التكتيكية. نحن ندعو جميع العمال والشباب الذين يبحثون عن الطريق الثوري إلى الانضمام إلى التيار الماركسي الأممي ومساعدتنا على بناء الوسيلة الضرورية للغاية لتغيير المجتمع وإحداث التحويل الاشتراكي للعالم.
ملاحظة:
تمت الدعوة إلى عقد مؤتمر ثان في كينتال (Kienthal)، ما بين 24 و30 أبريل 1916، والذي حضره لينين وزينوفييف وإينيسا أرماند. لقد مثل خطوة إلى الأمام مقارنة مع مؤتمر زيمروالد حيث أنه لم يدن فقط الحكومات والأحزاب والصحافة البرجوازية، بل انتقد أيضا الاشتراكيين الوطنيين ودعاة السلام البرجوازيين، وأكد بشكل قاطع أن السبيل الوحيد لإنهاء الحروب هو حسم الطبقة العاملة للسلطة وإلغاء الملكية الخاصة. ويقول البيان الختامي: «وبالتالي فإن النضال من أجل تحقيق سلام دائم لا يمكن أن يكون سوى النضال من أجل تحقيق الاشتراكية». (التشديد في النص الأصلي).
إشارة للختام
عمل سكان قرية زيمروالد الصالحون كل ما في مستطاعهم لمحو ذكرى ذلك الحدث. ففي عام 1962، تم حظر المواقع التذكارية واللوحات من أي نوع. ولتخريب جهود اليسار والثوريين للاحتفال بالذكرى السنوية الخمسين للمؤتمر، نظم المناهضون للشيوعية مؤتمرا مضادا في عام 1965. وفي عام 1971 ذهبوا خطوة أبعد حين هدموا بيت الضيافة الذي سكنه لينين. ولم يرفع الحظر سوى في السبعينيات.
عنوان النص بالإنجليزية: