في مثل هذا اليوم، 01 أكتوبر 1949، أعلن ماو تسي تونغ عن قيام جمهورية الصين الشعبية، نعيد نشر مقالة آلان وودز التي كتبت احتفاء بالذكرى الستين لهذا الحدث التاريخي الهام، فقد شكلت الثورة الصينية، بالنسبة للماركسيين، ثاني أعظم حدث في التاريخ البشري، بعد ثورة 1917 البلشفية. حيث تمكن ملايين البشر، الذين كانوا حتى ذلك الحين مجرد عبيد للإمبريالية، من إسقاط نير الاستغلال الإمبريالي والرأسمالي المذل، ودخلوا مسرح التاريخ العالمي.
[Source]
كانت الثورة الصينية الأولى، لسنة 1925-1927، ثورة بروليتارية حقيقية. لكنها أجهضت بسبب سياسات ستالين وبوخارين الخاطئة، التي رهنت الطبقة العاملة الصينية بقاطرة ما يسمى البرجوازية الديمقراطية، تحت قيادة تشانغ كاي تشيك. تم تذويب الحزب الشيوعي في حزب الكومينتانغ البرجوازي، بل قام ستالين بدعوة تشانغ كاي تشيك ليصبح عضوا في اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية.
قادت هذه السياسة الكارثية إلى هزيمة رهيبة سنة 1927، عندما نظم “البرجوازي الديمقراطي” تشانغ كاي تشيك مجزرة ضد الشيوعيين في شنغهاي. كان السحق الذي تعرضت له الطبقة العاملة الصينية محددا لطبيعة الثورة الصينية التالية. إذ فر من تبقى من مناضلي الحزب الشيوعي إلى البوادي، حيث بدءوا ينظمون حرب عصابات على أساس جيش الفلاحين. وقد غير هذا بشكل جوهري من مسار الثورة.
تعفن البرجوازية
لقد انتصرت ثورة 1949 بسبب وجود نظام الملاكين العقاريين والرأسمالية في مأزق بدون مخرج. كان لدا البرجوازي القومي تشانغ كاي تشيك، الذي استولى على السلطة سنة 1927 على جثث عمال شنغهاي، عقدان من الزمان لكي يبين ماذا في إمكانه أن ينجزه. لكن في النهاية، استمرت الصين بلدا تابعا للإمبريالية كما في السابق، فالمسألة الزراعية بقيت بدون حل، وضلت الصين بلدا متخلفا، شبه إقطاعي وشبه مستعمر. كانت البرجوازية الصينية، إلى جانب كل الطبقات المالكة الأخرى، مرتبطة بالإمبريالية، وتشكل كتلة رجعية معادية للتغيير.
انفضح تعفن البرجوازية الصينية عندما اجتاح الإمبرياليون اليابانيون منشوريا سنة 1931. طيلة الحرب ضد الغزاة اليابانيين اقترح الشيوعيون الصينيون جبهة موحدة على حزب البرجوازية القومية الكومينتانغ بقيادة تشانغ كاي تشيك. لكن في الواقع كان مستوى التعاون الفعلي بين قوات ماو وقوات الكومينتانغ ضعيفا. لقد كانت التحالف بين الحزب الشيوعي الصيني وبين حزب الكومينتانغ جبهة موحدة بالاسم فقط.
لقد اندمج نضال الصين ضد اليابان بالحرب العالمية الثانية. شارك الشيوعيون بالنصيب الأكبر في النضال ضد اليابانيين. بينما كانت قوات الكومينتانغ أكثر اهتماما بالقتال ضد الحمر. في دجنبر 1940، طالب تشانغ كاي تشيك الجيش الرابع الجديد، التابع للحزب الشيوعي، بأن يخلي إقليمي أنهوي وجيانغسو. الشيء الذي أدى إلى اندلاع مواجهات حامية بين جيش التحرير الشعبي وبين قوات تشانغ سقط خلالها آلاف القتلى. وقد شكل هذا الحدث نهاية ما سمي بالجبهة الموحدة.
أسفرت نهاية الحرب العالمية الثانية عن تقوية موقع الإمبريالية الأمريكية والنظام الستاليني في روسيا، وكانت المواجهة الحتمية بينهما قد صارت واضحة قبل حتى نهاية الحرب. يوم 09 غشت 1945ـ شنت القوات السوفييتية العملية الهجومية الاستراتيجية المثيرة للإعجاب على منشوريا، لضرب القوات اليابانية هناك وعلى طول الحدود الصينية المنغولية. وفي حملة باهرة تمكنت القوات السوفييتية من سحق الجيش الياباني والاستيلاء على منشوريا. استسلمت القوات اليابانية المتواجدة بالمنطقة، والبالغ عددها 700,000 جندي، وأخذ الجيش الأحمر منشوكو ومينغجيانغ (منغوليا الداخلية)، وشمالي كوريا وجنوب ساخالين وجزر كوريل.
لا أحد في وقتنا الحالي يميل إلى ذكر هذا الانتصار السريع الذي حققه الجيش الأحمر على القوات اليابانية، إلا أن هذه الهزيمة كانت عاملا حاسما في استسلام اليابان وانتهاء الحرب العالمية الثانية. كما أنها كانت عنصرا هاما في حسابات واشنطن في آسيا. فقد خافت الإمبريالية الأمريكية من احتمال زحف الجيش الأحمر على الصين، ودخول اليابان نفسها، مثلما كان قد فعل في أوروبا الشرقية. في النهاية استسلمت اليابان للولايات المتحدة بعدما قامت هذه الأخيرة بإلقاء قنابل نووية على هيروشيما وناغازاكي. لقد كان الهدف الرئيسي من وراء استهداف هاتين المدينتين هو إعطاء الدليل لستالين على أن الولايات المتحدة الأمريكية قد صارت تمتلك الآن سلاحا جديدا ورهيبا.
بموجب الاستسلام الغير المشروط لليابان، الذي أملته الولايات المتحدة، كان على القوات اليابانية أن تستسلم لقوات تشانغ كاي تشيك، وليس لقوات الشيوعيين، في المناطق الصينية المحتلة. والسبب الذي جعل القوات اليابانية في منشوريا تستسلم للاتحاد السوفياتي هو، بكل بساطة، عدم وجود أية قوات للكومينتانغ هناك. أمر تشانغ كاي تشيك القوات اليابانية بأن تبقى في مكانها من أجل استقبال قوات الكومينتانغ وألا تستسلم للشيوعيين.
بعد الاستسلام الياباني، كان الرئيس الأمريكي، ترومان، واضحا جدا بخصوص ما اعتبره “استعمال القوات اليابانية من أجل إبعاد الشيوعيين”. وقد كتب في مذكراته: “كان من الواضح جدا، بالنسبة لنا، أنه إذا ما نحن طلبنا من اليابانيين إلقاء سلاحهم فورا ويتجهوا إلى شاطئ البحر، فإن البلد بأسره كان سيسقط في يد الشيوعيين. ومن ثم كان علينا أن نتخذ الخطوة الغير معهودة المتمثلة في استخدام قوات العدو كحامية، إلى أن نتمكن من حمل القوات الوطنية الصينية بطائراتنا إلى جنوب الصين ونرسل المارينز لحماية الموانئ البحرية”.
ستالين والثورة الصينية
ماذا كان موقف موسكو من كل هذا؟ في البداية سمح الجيش الأحمر لجيش التحرير الشعبي بتقوية مواقعه في منشوريا. لكن مع حلول شهر نوفمبر 1945، غير موقفه. كان تشانغ كاي تشيك والإمبرياليون الأمريكيون مرعوبين من احتمال استيلاء الشيوعيين على منشوريا بعد انسحاب السوفييت منها. ومن ثم قام تشانغ بعقد اتفاق مع موسكو لكي تؤجل انسحابها إلى أن يتمكن من تحريك أفضل قواته تدريبا وأكثر تجهيزاته عصرية إلى داخل المنطقة. عندها انتقلت قوات الكومينتانغ جوا، بطائرات أمريكية، إلى المنطقة. وسمح لهم الروس باحتلال المدن الرئيسية في شمال الصين، بينما بقيت البوادي تحت سيطرة الحزب الشيوعي الصيني.
في الواقع، لم يكن ستالين يثق بقادة الحزب الشيوعي الصيني، ولم يكن يعتقد أنه بإمكانهم النجاح في الاستيلاء على السلطة. كانت البيروقراطية الستالينية مهتمة بالحفاظ على علاقات ودية مع حكومة تشانغ كاي تشيك، أكثر من اهتمامها بدعم الثورة الصينية. بعد انتصار الثورة اشتكى ماو بمرارة من كون آخر سفير تخلى عن تشانغ كاي تشيك كان هو السفير السوفييتي. ألح ستالين على ماو بأن يشكل حكومة ائتلافية مع الكومينتانغ، وهي الفكرة التي وافق عليها ماو في البداية:
“بينما كانت الحرب مستمرة، طالب ماو تسي تونغ الوطنيين بالموافقة على إقامة حكومة ائتلافية عوض حكومتهم الأحادية الحزب، وضل ستالين ومولوتوف يقولان إنه على الطرفان الصينيان أن يتحدا معا. ويوم 14 غشت 1945، سار الاتحاد السوفييتي خطوة أكثر إلى الأمام. حيث وقع مع حكومة تشانغ كاي تشيك معاهدة صداقة وتحالف صينية- سوفياتية.آنذاك أبلغ ستالين الشيوعيين الصينيين بأنه ليس لتمردهم “أي معنى” وأنه ينبغي عليهم االانضمام إلى حكومة تشانغ ويحلوا جيشهم.
وفي نفس اليوم الذي وقع فيه الوطنيون اتفاقيتهم مع الاتحاد السوفييتي، استدعى تشانغ كاي تشيك، باقتراح من الجنرال هيرلي، ماو تسي تونغ لزيارة تشانغ كينغ من أجل القيام بمحادثات مشتركة.” (Edward E. Rice, Mao’s Way, p.114، التشديد من عندي: آ، و)
في النهاية، وكما كان محتوما، فشلت المفاوضات، واستمرت الحرب الأهلية. لم يقدم الاتحاد السوفييتي سوى دعم جد محدود لجيش التحرير الشعبي، بينما دعمت الولايات المتحدة القوات الوطنية بمساعدات وتجهيزات عسكرية تقدر قيمتها بمئات ملايين الدولارات. اعترف الجنرال مارشال بأنهلا علم لديه بأية دلائل على تلقي جيش التحرير الشعبي لأية مساعدات من طرف الاتحاد السوفييتي. في الواقع، استولى جيش التحرير الشعبي على كميات هائلة من الأسلحة التي تخلى عنها اليابانيون، بما في ذلك بعض الدبابات. ولاحقا استسلمت أعداد كبيرة من قوات الكومينتانغ الجيدة التدريب للشيوعيين، وأخذت أسلحتها معها، والتحقت بجيش التحرير الشعبي. وكانت أغلب تلك الأسلحة أمريكية الصنع.
استغلت القوات السوفييتية الوقت لتفكيك البنية الصناعية بمنشوريا (والتي بلغت قيمتها حوالي ملياري دولار)، ورحلت إلى روسيا مصانع كاملة. الواقع هو أن ستالين، كما سبق لنا أن رأينا، كان متشائما بخصوص إمكانية انتصار ماو، وكان يحاول الحفاظ على علاقات جيدة مع تشانغ كاي تشيك، كما وضح شرام (Schram): “بقي الأسلوب غامضا بسبب انشغال ستالين بأمن الدولة السوفييتية، وافتقاره للحماس اتجاه إمكانية حركة ثورية ديناميكية قد لا يكون قادرا على السيطرة عليها.” (Stuart Schram, Mao Tse-Tung, p.239.)
وهكذا كانت بذور الصراع الصيني- السوفييتي موجودة منذ البداية: إنه لم يكن صراعا إيديولوجيا، كما كان يزعم غالبا، بل مجرد صراع مصالح بين نظامين بيروقراطيين متصارعين، كلاهما يدافع بشراسة عن “مصالحه” القومية الضيقة، ومناطق نفوذه وثرواته وسلطته وامتيازاته. لقد كانت هذه النزعة القومية الضيقة مناقضة بشكل مطلق لروح الأممية البروليتارية الشجاعة التي دافع عنها لينين وتروتسكي. لقد أكد لينين في أكثر من مناسبة على أنه سيكون مستعدا للتضحية بالثورة الروسية إذا ما كان هذا ضروريا لتحقيق انتصار الثورة الاشتراكية في ألمانيا.
لو أن ستالين وماو طبقا البرنامج اللينيني، لكان عليهما أن يطرحا فورا شعار تشكيلفدرالية اشتراكية للاتحاد السوفييتي والصين، والتي كانت ستقدم خدمات جليلة لجميع الشعوب. لكن عوض ذلك، كانت علاقاتهما مبنية على أساس المصالح القومية الضيقة والحسابات الحقيرة. وقد أدى هذا في النهاية إلى الوضع البشع الذي تبادل فيه “الرفاق” الروس والصينيون “حوارا” بلغة الصواريخ وقذائف المدفعية حول مشكلة الحدود التعسفية، التي رسمت في القرن التاسع عشر من طرف القيصر الروسي والإمبراطور الصيني.
الولايات المتحدة تساعد تشانغ كاي تشيك
كان لذا الأمريكيين طموح إلى جعل الصين، بعد الحرب، مجالا لنفوذهم (أي جعلها شبه مستعمرة لهم). لكن بعد كل عذابات الحرب العالمية الثانية لم يعد الشعب الأمريكي مستعدا لتحمل حرب أخرى من أجل استعباد الصين. والأهم هو أن الجنود الأمريكيين لم يكونوا بدورهم مستعدين لخوض مثل هذه الحرب. وبالتالي فإن عجز الولايات المتحدة الأمريكية عن التدخل ضد الثورة الصينية كان عاملا مهما في المعادلة.
في ظل هكذا شروط اضطر الإمبرياليون الأمريكيون للمناورة والتآمر. بعثت واشنطن الجنرال جورج، س، مارشال إلى الصين سنة 1946، بدعوى تنظيم مفاوضات بين جيش ماو للتحرير الشعبي وبين تشانغ كاي تشيك. إلا أن الهدف الحقيقي كان هو تقوية تشانغ كاي تشيك، عبر إمداده بالأسلحة والمال والتجهيزات، من أجل بناء قواته المسلحة، تحضيرا لهجوم جديد. لكن هذه المناورات لم تخدع ماو. حيث أنه وافق على المشاركة في المفاوضات، لكنه واصل التحضير لمواجهات جديدة.
بالرغم من أن الإمبريالية الأمريكية كانت عاجزة عن التدخل في الحرب الأهلية الصينية، 1946- 1949، فإنها قدمت مبالغ هائلة من الأموال والأسلحة والإمدادات للوطنيين. لقد دعمت الولايات المتحدة قوات الكومينتانغ بمساعدات عسكرية جديدة بمئات ملايين الدولارات. لكن كل تلك الأسلحة التي بعثتها واشنطن، كانت هي التي استعملتها القوات الفييتنامية لاحقا ضد الجيش الأمريكي، بالنظر إلى أن كل تلك الأسلحة تقريبا استولت عليها قوات ماو.
منذ مؤتمر موسكو لوزراء خارجية الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا، الذي انعقد خلال دجنبر 1945، التزمت الولايات المتحدة بـ “سياسة عدم التدخل في الشئون الداخلية للصين”. لم يكن ذلك، بطبيعة الحال، سوى خداع، بالضبط مثلما كان الحال عليه بالنسبة لسياسة “عدم التدخل” في إسبانيا خلال الحرب الأهلية، عندما عملت الأنظمة الغربية “الديمقراطية” على مقاطعة الجمهورية الإسبانية، بينما كان هتلر وموسوليني يرسلان الأسلحة والرجال لمساعدة فرانكو.
أمدت الولايات المتحدة الكومينتانغ بالقاذفات، والطائرات المقاتلة، والمدافع، والدبابات، وقاذفات الصواريخ، والبنادق الآلية والقنابل الغازية وقاذفات النار وغيرها من الاسلحة. وفي المقابل فوت الكومينتانغ إلى الولايات المتحدة حقوق السيادة الصينية على أراضيه، وتخلى لهم عن المياه والمجال الجوي، وسمح لها بالاستيلاء على حقوق الملاحة الداخلية إضافة إلى امتيازات تجارية خاصة، وكذا الحق في التدخل في الشئون الداخلية والخارجية للصين. لقد كانت القوات الجوية الأمريكية مسئولة عن العديد من الأعمال الوحشية ضد الشعب الصيني: قتل الناس، وضربهم، ودهسهم بالسيارات، واغتصاب النساء، دون أن يتعرضوا لأية عقوبة.
الثورة الزراعية
في شهر يوليوز 1946، وبدعم نشيط من جانب الإمبريالية الأمريكية، أغرق الكومينتانغ الصين في أتون حرب أهلية رهيبة، وبوحشية غير مسبوقة. شن تشان كاي تشيك هجوما معاديا للثورة ضد جيش التحرير الشعبي. كان قد حضر لها بعناية، وكان قد صارت عنده آنذاك قوات تساوي حوالي ثلاثة أضعاف ونصف ما عند جيش التحرير الشعبي؛ كما أن التجهيزات كانت أكثر تفوقا بكثير. لقد كانت لديه الصناعات المتطورة ووسائل الاتصال الحديثة، بينما كان جيش التحرير الشعبي يفتقر إلى كل ذلك. من الناحية النظرية كان من المفترض أنه سيحقق نصرا سهلا.
خلال السنة الأولى من الحرب (يوليوز 1946- يونيو 1947) كان الكومينتانغ في موقع الهجوم، بينما اضطر جيش التحرير الشعبي إلى الدفاع. في البداية تمكنت قوات تشانغ كاي تشيك من التقدم بسرعة، محتلة العديد من المدن والمناطق التي كان جيش التحرير الشعبي يسيطر عليها. لقد حققت قوات الكومينتانغ ما بدا وكأنه انتصار حاسم عندما استولت على عاصمة جيش التحرير الشعبي يينان. اعتبر العديد من الملاحظين ذلك هزيمة ساحقة لجيش التحرير الشعبي. لكن هذا لم يكن صحيحا. إذ أن ماو، وفي مواجهة الظروف الغير المواتية، كان قد قرر القيام بانسحاب استراتيجي. لقد اتخذ قرار عدم محاولة الدفاع عن المدن الكبرى بقوات قليلة، وعوض ذلك ركز قواته في المناطق الريفية حيث كانت لديه قاعدة صلبة بين الفلاحين، وحيث كان في إمكانه اعادة تجميع قواته وتركيزها من أجل القيام بهجوم مضاد.
إن الشيء الذي عجز الإمبرياليون الأمريكيون وتشانغ كاي تشيك عن فهمه هو أن السلاح الأقوى الذي كان جيش التحرير الشعبي يمتلكه لم يكن هو المدافع والدبابات، بل الدعاية. لقد وعد جيش التحرير الشعبي الفلاحين المعدمين والجائعين بأنه سيصبح في إمكانهم الاستيلاء على أراضي كبار الملاكين إذا ما هم قاتلوا إلى جانبه. في أغلب الحالات كانت البوادي المحيطة بالمدن والبلدات الصغيرة هي الأولى التي دخلت تحت سيطرة جيش التحرير الشعبي، قبل المدن بمدة طويلة. كان هذا هو أصل نظرية ماو القائلة بـ”محاصرة المدن بالبوادي”.
عندما غير ستالين خط الأممية الشيوعية من السياسة اليسراوية المتطرفة المسماة “المرحلة الثالثة” (1928-1934) إلى تبني سياسة الجبهات الشعبية النقيضة لها، عمل ماو على مراجعة برنامجه الزراعي، متخليا عن السياسة الراديكالية السابقة: “الأرض لمن يحرثها”، واستبدلها بسياسة تخفيض الإيجار المعتدلة. كانت لديه فكرة كسب دعم “الإقطاعيين المستنيرين” (!). لكنه قام بعد 1946 بتغيير سياسته مرة أخرى.
“السياسة الزراعية التي انتهجها كانت أكثر راديكالية من السياسة التي طبقها خلال مرحلة 1937- 1945، التي تضمنت تخفيض الفوائد والإيجار بدل الإصلاح الزراعي الفوري، إلا أنه كان على التكتيكات أن تسير بتدرج وتتكيف مع الظروف المحلية. كان ماو ما يزال يريد أن يضم ‘النبلاء الوطنيين’ في ‘الجبهة المتحدة الواسعة جدا’، التي كان عازما على الحفاظ عليها. وفقط بعد عدة سنوات من سيطرة الشيوعيين في مجال معين سيصبح من الممكن إعادة توزيع جميع الأراضي؛ لكن في اللحظة الحالية يجب ألا يطال الإصلاح أكثر من 10 % من السكان. وقد عمل ماو أيضا على إعادة إصدار وثيقة ‘ثلاث قواعد للانضباط’ و ‘ثماني نقاط لانتباه”؛ كان هذا، بشكل أو بآخر، يعبر، طيلة ما يقرب من عشرين عاما، عن احترام السكان المدنيين والامتناع عن النهب الذي ميز الجيش الأحمر عن كل الجيوش التي رآها الفلاحون الصينيون في الماضي، وساهم إلى حد كبير في كسبه لدعم السكان “. (Stuart Schram, Mao Tse-Tung, p.242.)
قام جيش التحرير الشعبي في جميع القرى بتوزيع الأراضي على الفلاحين، لكنه احتفظ دائما بعدد من القطع، لصالح جنود تشانغ كاي تشيك. فجنود الكومينتانغ الذين كانوا يسقطون في يد جيش التحرير الشعبي لم يكونوا يقتلون أو يعاملون بشكل سيء، بل يتم إطعامهم وتوفير العناية الطبية لهم وتلقى عليهم خطابات سياسية تدين نظام تشانغ كاي تشيك الفاسد والرجعي. بعد ذلك يطلق سراحهم ليقوموا بنشر الدعاية في ديارهم بين الفلاحين وغيرهم من الجنود بأن جيش التحرير الشعبي يوزع أراضي الإقطاعيين على الفلاحين.
من خلال تقديم الوعد للفلاحين بإعطائهم الأرض، تمكن جيش التحرير الشعبي من تعبئة أعداد هائلة منهم لاستخدامهم في المعركة وكذا توفير الدعم اللوجيستيكي. وقد أعطى هذا التكتيك الدليل على فعاليته القصوى. لقد كان جيش تشانغ يسجل ربما أكبر نسبة لفرار الجنود في التاريخ. الشيء الذي كان يعني أنه بالرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدها جيش التحرير الشعبي، فإنه كان قادرا على مواصلة القتال، بفضل تزود دائم بالمقاتلين الجدد. فخلال حملة هوايهاي وحدها تمكن جيش التحرير الشعبي من تعبئة 5,430,000 فلاح للقتال ضد قوات الكومينتانغ. ويشير ستيوارت شرام إلى الارتفاع السريع لعدد قوات جيش التحرير الشعبي، قائلا:
“خلال سنة 1945، ارتفع عدد القوى المتواجدة تحت قيادة جيش الطريق الثامن والجيش الرابع الجديد من ما مجموعه حوالي نصف مليون إلى حوالي مليون شخص. وقد كانت قوات الكومينتانغ حوالي أربعة أضعاف هذا العدد. ومع حلول منتصف سنة 1947، وبعد سنة من الحرب الأهلية الواسعة النطاق، انتقلت النسبة من واحد إلى أربعة، إلى واحد إلى اثنين. (Stuart Schram, Mao Tse-Tung, p.242.)
الهجوم الأخير
عند كلاوزفيتز مقولة شهيرة مفادها أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى. إن السياسة تلعب دورا مهما جدا في جميع الحروب، إلا أن هذا يصدق بشكل أكبر على الحروب الأهلية. على رغم من أن الاميركيين (كما هو الحال دائما) واصلوا الادعاء بأن هذه كانت حربا بين “الشيوعية والديمقراطية”، فإن دميتهم الصينية، تشانغ كاي تشيك، كان في الواقع، دكتاتورا وحشيا. لكنه مع ذلك تظاهر، بضغط من واشنطن ربما، بإدخال عدد من “الإصلاحات الديمقراطية” من أجل إسكات منتقديه في الداخل والخارج.
أعلن عن دستور جديد وعقد جمعية وطنية، أقصى منها الشيوعيين، بطبيعة الحال. إلا أن ماو سارع، على الفور، إلى إدانة هذه “الإصلاحات” باعتبارها مسرحية. كانت الجماهير الواسعة مهتمة أكثر بالفساد المستشري في الحكومة والفوضى السياسية والاقتصادية، ومهتمة على وجه الخصوص بالتضخم الهائل الذي قاد إلى انهيار مستويات العيش. كما كانت هناك مظاهرات طلابية، عبر ربوع البلاد، ضد الإمبريالية الأمريكية.
ساد في المناطق التي سيطرت عليها قوات الوطنيين نظام من الإرهاب الأبيض. لقد طبق تشانغ نفس التكتيكات التي كان الغزاة اليابانيون يطبقونها في السابق: الإحراق، والنهب، والاغتصاب، والقتل. حيث ذبح ملايين الرجال والنساء والشباب والشيوخ. وقد أكسبه هذا مقت السكان وقوى من الدعم الذي يتمتع به جيش التحرير الشعبي.
نظريا كان الوطنيون ما يزالون يتمتعون بتفوق كبير على جيش التحرير الشعبي. فعلى الورق، كانوا يتمتعون بتفوق واضح لا سواء فيما يخص الرجال أو الأسلحة. كانوا يسيطرون على مناطق أكبر وساكنة أكبر من أعدائهم، وكانوا يتمتعون بدعم دولي كبير من جانب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. لكن هذا كان نظريا فقط. أما الحقيقة على الأرض فكانت مختلفة جدا. لقد عانت قوات الوطنيين من انعدام الروح المعنوية والفساد المستشري الذي قلص بشكل هائل من قدرتهم على القتال، كما أن قاعدة دعمهم بين المدنيين كانت قد اختفت.
كانت قوات الوطنيين، المحبطة والغير منضبطة، في طريقها إلى التلاشي في مواجهة المسيرة الحازمة لجيش التحرير الشعبي. كانوا يستسلمون أو يفرون، تاركين أسلحتهم وراء ظهورهم. وقد مكن اعتقال أعداد كبيرة من قوات الكومينتانغ، جيش التحرير الشعبي من الحصول على الدبابات والمدفعية الثقيلة وغيرها من الأسلحة الضرورية للقيام بعمليات هجومية جنوب السور العظيم. لقد كانوا قادرين ليس فقط على الاستيلاء على مدن الوطنيين المحصنة جيدا، بل أيضا على محاصرة وتدمير تشكيلات قوية من قوات الكومينتانغ، مئة ألف أو عدة مئات الآلاف في كل مرة. وخلال شهر أبريل 1948 استولوا على مدينة لويانغ ، وقطعوا طريق جيش الكومينتانغ للخروج من شيان (Xi’an).
كان جيش التحرير الشعبي قادرا على الانتقال إلى الهجوم المضاد، مجبرا الكومينتانغ على التخلي عن خطة الهجوم الشامل، وبعد تمكنه من اعتقال أعداد كبيرة من جنود العدو، تمكن من تحسين قدراته العسكرية، وتشكيل قوات مدفعية خاصة به وصارت لديه فرقة مهندسين، وأتقن تكتيكات اقتحام النقاط المحصنة. قبل هذا، لم يكن جيش التحرير الشعبي يمتلك طائرات ولا دبابات، لكن بمجرد ما شكل قوات مدفعية وفرق مهندسين أفضل من تلك التي كان جيش الكومينتانغ يمتلكها، صار قادرا ليس فقط على شن حرب متحركة، بل حربا موضعية كذلك. ووفقا لتقديرات ماو الخاصة فإن:
“[…] كل شهر كان [جيش التحرير الشعبي] يدمر ما معدله حوالي ثمانية ألوية من جيش الكومينتانغ النظامي (أي ما يعادل ثمانية كتائب حالية)” (Carry the Revolution through to the end, December 30, 1948, Mao, SW, volume IV, p. 299)
كان التحول في الوضع العسكري لا يصدق حقا. فجيش التحرير الشعبي الذي ضل طيلة عدة سنوات ضئيلا بالمقارنة مع قوات الكومينتانغ، نجح أخيرا، ما بين يوليوز ودجنبر 1948، في أن يكتسب التفوق العددي على قوات الكومينتانغ. هذه هي الأرقام التي أعطاها ماو آنذاك:
“خلال السنة الأولى، تم القضاء على 97 لواء، بما في ذلك 46 لواء تم محوه تماما؛ وفي السنة الثانية، قضي على 94 لواء، بما في ذلك 50 لواء تم محوه تماما؛ وخلال النصف الأول من السنة الثالثة، ووفقا لأرقام غير مكتملة، قضي على 147 كتيبة، بما في ذلك 111 كتيبة تم محوها تماما. وخلال الأشهر الستة هذه، كان عدد كتائب العدو التي تم محوها تماما 15 مرة اكثر من المجموع الكلي للسنتين السابقتين. جبهة العدو قد انهارت تماما. قوات العدو في شمال شرق البلاد قد تم محوها تماما، أما تلك الموجودة في شمال الصين فقريبا سيتم محوها تماما، وفي شرق الصين والسهول الوسطى لم يتبقى للعدو سوى عدد قليل من الجنود. إن إبادة قوات الكومينتانغ الرئيسية في شمال نهر اليانغتسى، سهل بشكل كبير العبور المقبل لجيش التحرير الشعبى وحملته جنوبا لتحرير كل الصين. وبالتزامن مع النصر على الجبهة العسكرية، حقق الشعب الصيني انتصارات هائلة على الجبهات السياسية والاقتصادية. لهذا السبب لم يعد الرأي العام في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك كل الصحافة الإمبريالية، ينازع في انتصار حرب التحرير الشعبية الصينية”. (Carry the Revolution through to the end, December 30, 1948, Mao, SW, volume IV, p. 299)
ليس هناك من سبب لكي نشكك في صحة هذه التقديرات. كل المؤرخين البرجوازيين يقبلون بأنه خلال هذه المرحلة، كانت قوات تشانغ تتراجع بشكل غير منظم وأن قوات جيش التحرير الشعبي كانت تتزايد بسرعة.
سقوط بيبين
مع حلول سنة 1948، تغير مسار الأحداث. حيث تمكن جيش التحرير الشعبي، بعد حملة صعبة، من الاستيلاء على المدن الشمالية. وبعد ستة أشهر من الحصار القاسي لشانغشون، والذي تسبب في مقتل أكثر من 300,000 مدني جوعا، تمكنوا من فرض الاستسلام على قوات الكومينتانغ الجيدة التدريب. وقد فشلت كل مخططات تشانغ كاي تشيك القيام بهجوم مضاد. لم يتمكن جيش التحرير الشعبي فقط من استرجاع أغلب الأراضي التي كان قد فقدها في الشمال الشرقي للصين، بل تمكن أيضا من توسيع جبهة المعركة إلى مناطق نفوذ الكومينتانغ شمال يانغتز ونهر ويشيو. فاحتلوا شيهشياشوانغ، ويونشينغ، وسيبنسغكاي، ولويانغ، وييشوان، وباوكي، وويهسيين، ولينفين وكايفينغ.
وسنة 1949، تقدم جيش التحرير الشعبي جنوب نهر يانغتز، وصارت نهاية الحرب قريبة. بعض التروتسكيين المزيفين بقوا ينكرون الوقائع الواضحة للعيان. ففي أمريكا، سخر ماكس شاتمان من فكرة كانون الذي قال إن ماو سيستسلم لتشانغ كاي تشيك. قال: «نعم، إن ماو يريد الاستسلام لتشانغ، لكن لديه مشكلة، إنه لا يستطيع اللحاق به!»
مع حلول نهاية عام 1948، كان موقف الوطنيين قد صار ميئوسا منه. والآن وبعد أن صار ظهره إلى الحائط، بدأ تشانغ في اقتراح السلام. قبل ثلاث سنوات فقط كان شانغ يتفاخر بأنه سوف يبيد الشيوعيين. وكانت قواته تطبق بحماس سياسته: “انهب واحرق واقتل”. أما الآن وبعد أن صارت الهزيمة محدقة به، بدأ يغني نشيد السلام. إنه تحول غريب جدا!
وقد كان الإمبرياليون الأمريكيون، المدعومين بكل من نظرائهم البريطانيين والفرنسيين، هم من يقف وراء دعوة تشانغ إلى “السلام”، بعد أن استوعبوا جميعا أن الحرب قد خسرت. وبعد أن فشلوا في سحق جيش التحرير الشعبي بالقوة، صاروا يأملون في أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه بواسطة المناورات السياسية. إلا أن تلك المناورات لم تخدع أحدا، وخاصة ماو تسي تونغ.
في معظم الحالات كانت البوادي والبلدات الصغيرة تحت نفوذ جيش التحرير الشعبي قبل فترة طويلة من سيطرته على المدن، الشيء الذي شكل جزءا من إستراتيجية الحرب الشعبية. وفي يناير 1949، سقطت بيبين في يدي جيش التحرير الشعبي دون قتال، فأعيد تغيير اسمها إلى بكين. بين شهري أبريل ونوفمبر، سقطت المزيد من المدن الكبرى الأخرى بدون مقاومة تذكر. يوم 21 ابريل، عبرت قوات ماو اليانغتزى واستولت على نانجينغ، عاصمة حزب الكومينتانغ. وفي غضون فترة قصيرة من الوقت، كان جيش التحرير الشعبي يدفع ما تبقى من قوات الكومينتانغ الغير المنظمة والمحبطة إلى الجنوب.
وفي النهاية، انسحب تشانغ كاي تشيك، وحوالي 2 مليون من الوطنيين، والذين أغلبهم كانوا من بيروقراطيي الحكومة السابقة ورجال الأعمال، وغادروا الصين إلى جزيرة تايوان (التي كانت تعرف آنذاك بفورموزا). وقد أعلن تشانغ مدينة تايبي عاصمة مؤقتة للصين، لكنه حرص قبل أن يفر على نهب الخزينة العامة، حيث سرق 300 مليون دولار لملئ جيوبه وجيوب أتباعه.
وتوج كل هذا يوم 1 أكتوبر، من عام 1949، مع إعلان ماو تسي تونغ عن قيام جمهورية الصين الشعبية. ليتم قلب صفحة جديدة في تاريخ العالم.
الجيش الأحمر والعمال
قبل الحرب، أشار تروتسكي إلى أن المسألة الحاسمة هي ما الذي سيحدث عندما يدخل الجيش الأحمر إلى البلدات والمدن. إن الدولة العمالية الحقيقية تعتمد على الطبقة العاملة وعلى أجهزة سلطتها أي: السوفيات. إن هذه الدولة ستشجع التنظيم الذاتي للعمال، واقامة نقابات عمالية حقيقية، ومستقلة عن الدولة.
لكن ثورة 1949 الصينية أنجزت من طرف قيادة بونابارتية من فوق، وبدل أن تعتمد تلك القيادة على الطبقة العاملة لإسقاط الدولة البرجوازية، عملت على تشكيل حكومة ائتلافية مكونة من مختلف مكونات حكومة الكومينتانغ السابقة. وعوض تشجيع الحركة المستقلة للجماهير، قامت تلك القيادة بقمع أي مظهر من مظاهر العمل المستقل من جانب العمال.
في البداية بدأ ماو ببرنامج لا يتجاوز أبدا حدود الرأسمالية. بل إنه في فترة معينة كان لديه الوهم في إمكانية الوصول إلى اتفاق مع الأمريكيين، مثلما يشير ستيوارت شاتمان:
«أغدقت افتتاحية صحيفة Liberation Daily، ليوم 4 يوليو 1944، المديح على التقاليد الديمقراطية الأميركية، وعملت على تشبيه نضال أمريكا من أجل الديمقراطية والاستقلال الوطني في القرن الثامن عشر، بكفاح الصين في القرن العشرين، قائلة:
«لقد عثرت الديمقراطية الأمريكية على رفيق لها، كما عثرت قضية صين يات صن على خلف لها في الحزب الشيوعي الصيني وسائر القوى الديمقراطية الأخرى… إن العمل الذي ننجزه اليوم، نحن الشيوعيون، هو نفس العمل الذي أنجزه، في الولايات المتحدة في الماضي، واشنطن، وجيفرسون، ولينكولن؛ وسوف يحصل هذا العمل بالتأكيد، بل لقد حصل بالفعل، على تعاطف أمريكا الديمقراطية.» (مقتبس من Stuart Schram, Mao Tse-Tung, pp.225-6).
ينبع هذا الحديث عن الديمقراطية البرجوازية من مفهوم ماو عن الثورة الصينية. لقد تذبذب ماو بين البرجوازية والعمال والفلاحين لكي يرسخ أسس الدولة الجديدة ويركز السلطات بين يديه. خلال المراحل الأولى بذل كل مجهوداته لمنع العمال من حسم السلطة وسحق كل مؤشرات استقلالية الحركة العمالية. وكما كان الحال عليه في اسبانيا، لم يشكل ماو ائتلافا مع البرجوازية، بل مع شبح البرجوازية فقط. لكن بينما سمح في إسبانيا للشبح بأن يتجسد، فإنه في الصين لم يسمح له بذلك. وعندما دخل الجيش الأحمر المدن، أمر العمال بألا ينظموا الإضرابات أو يتظاهروا. وقد شكلت النقاط الثمانية التالية أساس دعايته:
«1) ستتم حماية أرواح الناس وملكيتهم. حافظوا على النظام ولا تنصتوا إلى الإشاعات. النهب والقتل أعمال ممنوعة بشكل مطلق.
«2) الملكية الخاصة التجارية والصناعية الصينية ستتم حمايتها. لن يتم المس بالمصانع الخاصة والأبناك والمستودعات، الخ، وبإمكانها الاستمرار في العمل.
«3) سيستولي جيش التحرير على الرأسمال البيروقراطي، بما في ذلك المصانع، والمحلات التجارية، والأبناك، والمستودعات، والسكك الحديدية، ومكاتب البريد، وتجهيزات الهاتف والتلغراف، وشركات إنتاج الكهرباء، الخ، على الرغم من أن أسهم القطاع الخاص فيها سيتم احترامها. على هؤلاء الذين يعملون في هذه المؤسسات أن يعملوا في سلام وينتظروا عملية المصادرة. سيتم إعطاء جوائز لهؤلاء الذين سيحمون الممتلكات والوثائق؛ أما هؤلاء الذين ينظمون الإضراب أو يخربون فسيعاقبون. وسيتم توظيف هؤلاء الذين يريدون الاستمرار في الخدمة.
«4) ستتم حماية المدارس والمستشفيات والمؤسسات العمومية. على الطلاب والمعلمين وجميع العمال أن يحموا سجلاتهم. سيتم تشغيل جميع من يستطيعون العمل.
«5) باستثناء بعض مجرمي الحرب والرجعيين السيئي السمعة، فإن جميع مسئولي الكومينتانغ والبوليس وقوات الباو شيا[1]في المقاطعات والبلدات، والحكومات المحلية (Hsien)، سيتم العفو عنهم، إذا لم يقوموا بالمقاومة المسلحة. ينبغي عليهم أن يحموا سجلاتهم. سيتم تشغيل جميع من يستطيعون العمل.
«6) بمجرد ما يتم تحرير مدينة ما، يجب على الجنود الفارين أن يسلموا أنفسهم فورا لقيادة الحامية العسكرية الجديدة، أو مكاتب الشرطة، أو السلطات العسكرية. لن تتم متابعة كل من يسلم سلاحه. أما هؤلاء الذين يختبئون فسيعاقبون.
«7) ستتم حماية أرواح وممتلكات كل الأجانب. ويجب عليهم أن يحترموا قوانين جيش التحرير والحكومة الديمقراطية. لن يتم التساهل مع أية أنشطة تجسسية أو غير شرعية. يجب ألا تتم حماية أي مجرم حرب. وستتم متابعتهم أمام المحاكم العسكرية أو المدنية بسبب الانتهاكات.
«8) يجب على الشعب عموما أن يحمي جميع الممتلكات العامة ويحافظ على النظام.» (A. Doak Barnett, China on the Eve of Communist takeover, pp. 327-8)
وسيرا على نهج ستالينيي روسيا، قام الستالينيون الصينيون بتحويل النقابات إلى “مدارس للإنتاج، تشجع الإنتاجية والطبيعة الإيجابية عند البروليتاريا”. منعوا حق الإضراب وفرضوا نظام التحكيم الإجباري. وتمت إدانة كل الإضرابات، والنضالات الأخرى من أجل الدفاع عن مصالح العمال، باعتبارها: “مغامراتية يسراوية”.
في البداية، لم يعمل الستالينيون الصينيون على المس بالشركات الرأسمالية الخاصة. ولم يتم تأميم سوى ملكية “الرأسمال البيروقراطي”. لكن في هذه الشركات كانت السلطة ممركزة في يدلجنة الرقابة، حيث مدير المصنع بمثابة رئيس، وتتشكل من ممثلين عن المالكين السابقين، وممثلين عن المراقبين وممثلين عن العمال. لم يكن للعمال سوى رأياستشاري، بينما كان المدير هو صاحب الكلمة العليا في جميع القرارات.
في البداية كان منظور ماو يتأسس على أنه على الصين المرور من خمسين سنة أو مائة سنة من الرأسمالية. لقد أكد على أنه لن يصادر سوى “الرأسمال البيروقراطي”. لكن بعد حسمه للسلطة، سرعان ما تبين له أن البرجوازية الصينية، المتعفنة والفاسدة، عاجزة عن لعب أي دور تقدمي. وهكذا، عمل على الاستناد إلى الطبقة العاملة وشرع في تأميم الأبناك والصناعات الكبرى ومصادرة ممتلكات كبار الملاكين العقاريين والرأسماليين. لم يكن هذا صعبا جدا. إذ كما سبق لتروتسكي أن أشار، لكي تقتل نمرا تحتاج إلى رصاصة، لكنك لا تحتاج إلا إلى ضغطة أصبع لكي تقتل ذبابة.
شبح البرجوازية
كانت فكرة ماو الأصلية هي تشكيل حكومة ائتلافية بمشاركة ممثلين عن العمال والفلاحين والمثقفين والبرجوازية الوطنية، بل وحتى الإقطاعيين التقدميين. إلا أنه بالرغم من ذلك، واجه مشكلة صغيرة. فالبرجوازية فرت إلى فورموزا (تايوان) مع تشانغ كاي تشيك. من الناحية الرسمية كانت تلك حكومة جبهة شعبية. لكن كان هناك اختلاف جوهري بين هذه الحكومة وحكومة الجبهة الشعبية في إسبانيا سنة 1936.
كانت القوة المسلحة الوحيدة في الصين هي جيش التحرير الشعبي، أي جيش الفلاحين بقيادة الستالينيين الصينيين. سبق للينين أن شرح أن الدولة هي، في آخر التحليل، فرق من الرجال المسلحين. وسنة 1949 أعلن الحزب الشيوعي الصيني أن عدد أعضائه يصل إلى 4,5 مليون شخص، 90 % منهم فلاحون. كان ماو رئيس الحزب وكان يسيطر فعلا على الأمور بين يديه، بالرغم من أن الحكومة كانت من الناحية الرسمية برئاسة يده اليمنى شو إن لاي. لقد كانت قوات الجيش والشرطة والبوليس السري كلها تحت أيديهم. إن هذه فقط طريقة أخرى لكي نقول: إنهم يسيطرون على سلطة الدولة. كانت هذه هي قاعدة سلطتهم الحقيقية، وكانت هي العنصر الحاسم في المعادلة.
من الناحية النظرية، كانت حكومة الجمهورية الشعبية ائتلافا بين أحزاب مختلفة، لكن، باستثناء الحزب الشيوعي الصيني، لم يكن جميع الآخرين سوى عصب صغيرة، بعضها لم يكن يوجد سوى على الورق فقط. يوم فاتح ماي، أصدر الحزب الشيوعي الصيني نداءا من أجل جبهة موحدة واسعة ضد الوطنيين:
«أيها الشعب الكادح في جميع ربوع البلد، اتحد، تحالف مع المثقفين والبرجوازية اللبرالية وجميع الأحزاب والمجموعات الديمقراطية، والمتنورين وغيرهم من العناصر الوطنية؛ رسخ ووسع الجبهة المتحدة ضد الإمبرياليين والإقطاعيين والبيروقراطيين وقوى الرأسماليين البيروقراطيين؛ ناضلوا جميعا من أجل تدمير رجعيي الكومينتانغ وبناء صين جديدة. على جميع الأحزاب والمجموعات الديمقراطية والمنظمات الشعبية والمتنورين، الإسراع بتشكيل مؤتمر استشاري سياسي، للنقاش والدعوة إلى تشكيل جمعية ممثلي الشعب لإقامة حكومة ائتلافية ديمقراطية!»
ماذا كان الرد؟ قبلت مجموعة صغيرة من اللاجئين السياسيين الصينيين، الذين كانوا في المنفى الاختياري بجزيرة هونغ كونغ، بالدعوة. وبغرور أعلنوا في البرقية التي أرسلوها إلى ماو تسي تونغ، يوم 05 ماي: «نحن هنا نعرب عن استجابتنا ودعمنا لدعوتكم، ونتمنى أن نتمكن بتحقيقها تحقيق نهضتنا الوطنية.»
كانت البرقية موقعة من طرف قادة لجنة الكومينتانغ الثورية، والرابطة الديمقراطية، وحزب الفلاحين والعمال الديمقراطي، وجمعية الإنقاذ الوطني، وجمعية التقدم الديمقراطي الصيني، وجمعية رفاق صان مين شو إي، وجمعية الكومينتانغ للتقدم الديمقراطي، وشيه كونغ تانغ.
وقد علق دوك بارنيت على ذلك قائلا: «عدد هائل من هؤلاء الناس كانوا في السابق أعضاء محترمين داخل الكوميتانغ، والعديد منهم كانوا يحتلون مواقع سامية في ظله، لكنهم الآن انشقوا عنه جميعا لأسباب شخصية أو أيديولوجية» (A. Doak Barnett, China on the Eve of Communist takeover, pp.85-6)
وهكذا، نظم الحزب الشيوعي الصيني القوي ائتلافا، ليس مع البرجوازية الصينية، بل فقط مع شبحها. لم تكن تلك “الأحزاب” سوى مجموعات هامشية في هونغ كونغ. وقد تم إخراج أسمائهم من غياهب الظلمة إلى النور بفضل الهدية الكريمة من جانب الستالينيين. وقد أدى هذا الاجراء الى خلق تكهنات محمومة. بل كانت هناك شائعة مفادها أن قائدي الكومينتانغ الكبيرين، لى تشى شين وفنغ يو هسيانغ (قبل وفاته)، سيصبحان، على التوالي، قائدين سياسيين وعسكريين، إلى جانب القادة الشيوعيين ماو تسي تونغ وشو تيه!
طبعا لم يكن لهذه الإشاعات العجيبة أي أساس من الصحة في الواقع، فماو قد استولى على السلطة، “من خلال فوهة البندقية”، إذا ما استعملنا عبارته الشهيرة، ولم يكن يفكر في إعطاء سلطة حقيقية للبرجوازية الصينية، فبالأحرى إلى أشخاص لا يمثلون سوى أنفسهم.
«في الوقت الراهن، يعمل ممثلون عن هذه الجماعات المتواجدة بهونغ كونغ، المجتمعة مع الشيوعيين في هاربين (Harbin)، على المساعدة في تنظيم المؤتمر الاستشارى السياسى، الذي سيقام برعاية الشيوعيين، والذي من المقرر أن ينعقد في بداية السنة القادمة، على الارجح في بيبين، إذا ما سمح الوضع العسكري بذلك، “للتحضير لجمعية تمثيلية شعبية من أجل تشكيل حكومة ائتلاف ديمقراطي”- كما قال لي لي تشى شين مؤخرا-. من ابرز هؤلاء الممثلين كان هناك الجنرال تساي تينغ كاي (من الكومينتانغ)، —-وشين تشون جو، وتشانغ بو شون (على التوالي زعيمي جمعية الإنقاذ الوطني وحزب الفلاحين والعمال الديمقراطي، لكن كلاهما يمثلان الرابطة الديمقراطية فى هاربين). إضافة إلى عدة أنواع من الـ”مستنيرين” المؤيدين للشيوعيين، بمن فيهم السيدة فنغ يو هسيانغ، كلهم اجتمعوا في مدينة هاربين حيث تنظم هذه الاجتماعات، وهناك المزيد من الممثلين عن المجموعات الأخرى الموجودة في هونج كونج هي الآن في طريقها إلى هاربين، ربما عن طريق البحر عبر شمال كوريا.» (A. Doak Barnett, China on the Eve of Communist takeover, pp.83-4)
وقد وصف الصحفي الأمريكي، دوك بارنيت، الذي كان متواجدا في الصين آنذاك، الوضع بشكل جيد، قائلا:
«قبل أن نعمل على وصف كل تلك المجموعات التي تشتغل في الوقت الحالي في هونغ كونغ، يمكننا تقديم بعض الإشارات العامة بخصوصها، لأنها تمتلك الكثير من أوجه التشابه. أولا، لا أحد منها يشكل في الواقع حزبا سياسيا في الوقت الحاضر، بالرغم من أن بعضها يتمنى أن يصير كذلك.إنها في الواقع مجرد مجموعات سياسية صغيرة، كل واحدة منها مشكلة من بضعة مئات إلى بضعة آلاف من الأعضاء. ثم ليس من بينها ولا منظمة واحدة تمتلك أتباعا كثيرين أومنظمة سياسية قوية. كما أنها لا تمتلك جيشا، وهو ما يشكل الشرط المسبق للقوة السياسية في الصين طيلة العقود الأخيرة.باختصار، ولا واحدة من بينها تمتلك المؤهلات الضرورية لكي تلعب دورا مستقلا في خضم الحياة السياسية الصعبة والمضطربة الصينية المعاصرة. إنها لا تستطيع تحقيق أية نتائج فيما يتعلق بصراع القوى.
«جميع تلك المجموعات المتواجدة في هونغ كونغ تطلق على نفسها اسم ‘لبرالية’، وغالبا ما يطلق عليها ببساطة اسم ’المجموعات الديمقراطية الصينية‘. توجد من بينها، بدون شك، من يمكن أن تدعي بحق كونها لبرالية (بالرغم من أنه من الصعب تحديد المعنى الدقيق للكلمة)، لكن الآخرين ليسو سوى سياسيين انتهازيين. وفيما يتعلق ببعض قادتها السياسيين، من الصعب اكتشاف نقاط اختلاف جوهرية تميزهم عن زعماء الحكومة المركزية، باستثناء أنهم يوجدون الآن على الجانب الآخر من متراس الحرب الأهلية.» (A. Doak Barnett, China on the Eve of Communist takeover, p.85، التشديد من عندي: آ. و)
الدولة الجديدة
أقام ماو أسس دولة جديدة، ليس بالاستناد مباشرة على الطبقة العاملة، بل من خلال التذبذب بين الطبقات، وبواسطة هذه الدولة قام بمصادرة أملاك الملاكين العقاريين الكبار والرأسماليين. وبالرغم من الطريقة المشوهة التي تم بها ذلك، فإن إقامة اقتصاد مؤمم ومخطط شكل إجراءا تقدميا وخطوة هائلة إلى الأمام بالنسبة للصين. إلا أنها لم تكن ثورة بروليتارية بالمعنى الذي حدده ماركس ولينين. لقد عمل الستالينيون الصينيون، باسم البروليتاريا، على إنجاز المهام الاقتصادية الأساسية للثورة الاشتراكية، إلا أن العمال الصينين لم يلعبوا دورا نشيطا خلال الحرب الأهلية، ولم يلعبوا دورا مستقلا في السيرورة بأسرها.
نتيجة لذلك، أنجزت الثورة بطريقة بونابرتية، من فوق، بدون مشاركة العمال ورقابتهم الديمقراطية. أقامت البيروقراطية نظاما ديكتاتوريا كليانيا أحادي الحزب، على شاكلة روسيا الستالينية. وقد كانت هذه النتيجة متوقعة بشكل كامل بالنظر إلى الطريقة التي أنجزت بها الثورة، وبالنظر إلى وجود نظام ستاليني قوي على حدود الصين.
استخدم ماو جيش الفلاحين قوة ضاربة لإسقاط الدولة القديمة. لكن طبقة الفلاحين هي الطبقة الأقل قدرة على امتلاك وعي اشتراكي. يمكن للفلاحين، في البلدان المتخلفة المستعمرة والشبه مستعمرة، أن يلعبوا بطبيعة الحال، دورا هاما جدا، لكنه لا يمكن أن يكون سوى دور مساعد، ورهين بالحركة الثورية للعمال في المدن.
يجب علينا أن نتذكر أنه إلى حدود الثورة الروسية، حتى لينين نفسه كان ينفي إمكانية “انتصار الثورة الاشتراكية في بلد متخلف”. وحده تروتسكي من طرح مسبقا منظور قدرة الطبقة العاملة الروسية على الوصول إلى السلطةقبلبروليتاريا أوروبا الغربية. وقد كان هذا ما حصل بالضبط سنة 1917. حيث قاد الحزب البلشفي، تحت قيادة لينين وتروتسكي، العمال إلى حسم السلطة في روسيا، التي كانت، مثلها مثل الصين سنة 1949، بلدا جد متخلف وشبه إقطاعي. قامت الطبقة العاملة، التي كانت أقلية صغيرة في المجتمع، (فالأغلبية كانت للفلاحين)، بوضع نفسها على رأس المجتمع وأنجزت ثورة اشتراكية كلاسيكية في أكتوبر 1917.
قامت البروليتاريا، في ظل قيادة لينين وتروتسكي، بإنجاز فوري لمهام الثورة البرجوازية الديمقراطية، ثم عملت على مصادرة ملكيات الرأسماليين وأقامت نظام الديمقراطية العمالية. كان من الممكن للثورة الصينية أن تتطور في نفس المسار الذي سارت عليه ثورة أكتوبر في روسيا. لكن ما كان ينقص هو العامل الذاتي، أي: حزب لينين وتروتسكي البلشفي.
شكل النظام الذي أقيم في الصين انحرافا عن القاعدة الكلاسيكية، لكن في واقع الحياة، لا تسير الأحداث دائما بشكل مطابق للمعايير المثالية. فجميع أنواع التشوهات والمتغيرات الخاصة ممكنة. وقد كان تيد غرانت المنظر الماركسي الوحيد الذي شرح دور النظام البونابارتي البروليتاري بوصفه تنويعة خاصة لنظرية الثورة الدائمة لتروتسكي. عندما كان ماو ما يزال يدافع عن منظور مرحلة طويلة من الرأسمالية، شرح تيد حتمية انتصار ماو وإقامة دولة عمالية مشوهة. كما أنه توقع مسبقا أن البيروقراطية الصينية سوف تدخل في صراع مع موسكو. (انظر: Reply to David James، ربيع 1949)
خطوة عظيمة إلى الأمام
لقد شكلت الثورة الصينية خطوة عظيمة إلى الأمام. لو أنها لم تنتصر، لكان البلد قد تحول بالتأكيد إلى شبه مستعمرة للإمبريالية الأمريكية في ظل دكتاتورية تشانغ كاي تشيك. لكن بدل ذلك، تمكن الشعب الصيني، سنة 1949، من أن يحقق، للمرة الأولى في تاريخه، تحرره الكامل من نير الهيمنة الأجنبية. لقد كانت الثورة ضربة هائلة للإمبريالية على الصعيد العالمي. لقد أعطت دفعة هائلة لتمرد الشعوب المستعمرة المستعبدة. وقد شكل هذا، في حد ذاته، سببا كافيا للترحيب بها ودعمها.
لكن هذا لم يكن كل شيء. فالثورة انتهت بإسقاط الملكية العقارية الكبرى والرأسمالية. إن القضاء على الملكية العقارية الكبرى حرر الصين من عبئ العلاقات الشبه الإقطاعية، كما أن القضاء على الملكية الخاصة للصناعات وتطبيق احتكار الدولة للتجارة الخارجية أعطيا دفعة جبارة لتطور الصناعة الصينية. إلا أن تأميم وسائل الإنتاج ليس بعد اشتراكية، بالرغم من أنه الشرط المسبق لها.
إن السير نحو الاشتراكية يفترض الرقابة والتسيير والمشاركة الديمقراطية للبروليتاريا. إن حكم أقلية محظوظة منفلتة من أية رقابة يتناقض تماما مع الاشتراكية الحقيقية. حيث سيؤدي ذلك إلى خلق كل أنواع التناقضات الجديدة. الرقابة البيروقراطية تعني الفساد والمحسوبية والتبذير وسوء الإدارة والفوضى، الشيء الذي يقوض في النهاية مكتسبات الاقتصاد المؤمم والمخطط. ولدينا في التجربة الروسية والصينية دليل على هذا.
إن السبب الحقيقي وراء التنويعات الخاصة والتشوهات التي حدثت للثورات في البلدان المستعمرة سابقا، طيلة مرحلة كاملة، كان هو تأخر الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية المتقدمة. إلا أن هذا الوضع قد بدأ يتغير بسرعة. جميع الظروف الموضوعية للثورة الاشتراكية صارت تنضج الآن على الصعيد العالمي. لكن ضعف القوى الماركسية الحقيقية يعني أن هذا السيرورة ستأخذ مدة طويلة.
لولا ثورة 1949، لما كانت الصين قادرة على تحقيق التقدم الهائل الذي حققته. يمكن لعمال العالم أن يشيروا إلى التقدم العظيم الذي حققته الصين بعد الثورة باعتباره دليلا على إمكانيات الاقتصاد المؤمم والمخطط. لقد صار من الشائع في أيامنا هاته شجب التأميم والاقتصاد المخطط، لكن المزاعم بخصوص تفوق ”اقتصاديات السوق“ قد انفضحت باعتبارها مجرد أكاذيب على ضوء الأزمة الاقتصادية الحالية، التي تعتبر أعمق أزمة يعرفها العالم الرأسمالي منذ 1929.
لقد شكلت منجزات الاقتصاد المؤمم والمخطط القاعدة التي قامت على أساسها الصين باعتبارها بلدا مصنعا جبارا. يكفينا أن نقارن الصين مع الهند لكي نرى الفرق. كلا البلدين انطلقا من مستوى متشابه خلال أواخر الأربعينات، لكن الصين تطورت بمعدل أسرع.
لكن، وبعد ستين سنة على إسقاط الرأسمالية والملكية العقارية الكبرى في الصين، ها هي الفئة الحاكمة في الصين قد أخذت طريقها لإعادة الرأسمالية (انظر: road back to capitalism). لقد كانت هذه الإمكانية متظمنة في ثنايا الوضع الذي رفعت فيه البيروقراطية نفسها فوق المجتمع. وقد بدأت بتطبيق الأساليب الرأسمالية كإجراءات لتشجيع النمو الاقتصادي في ظل النظام المخطط، لتصل إلى تبني تلك الأساليب. لكن، وبالرغم من النمو الاقتصادي، فإن تطبيق ”اقتصاد السوق“ في الصين لا يخدم مصالح العمال والفلاحين الصينيين. إنه يخلق تناقضات جديدة ورهيبة، لا سواء في المدن أو في القرى، الشيء الذي سوف يؤدي، عند نقطة معينة، إلى اندلاع نهوض ثوري جديد.
سوف يتمكن العمال والفلاحون والطلاب والمثقفون الصينيون، من خلال التجربة، إلى إعادة اكتشاف تقاليد الماضي الثورية العظيمة. وسوف يعانق الجيل الجديد أفكار ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وشين دوكسيو، مؤسس الحزب الشيوعي الصيني وزعيمه الحقيقي. سبق لنابليون أن قال مرة عن الصين: “عندما سيستيقظ العملاق، سيهتز العالم”. ونحن بدورنا سنردد هذه المقولة، مع إجراء تعديل عليها: إن العملاق الذي سيهز العالم ليس سوى البروليتاريا الصينية الجبارة. إننا نتطلع بفارغ الصبر إلى اليوم الذي ستستيقظ فيه.