تجادل بعض النسويات بأنه يجب التخلي عن مصطلح ومفهوم “الدعارة” واستبدالهما بمصطلح “العمل بالجنس”. بعبارة أخرى، يجب التعامل مع الدعارة كأي شكل آخر من أشكال العمل والاعتراف بها على هذا النحو. ووفقًا للناشطة النسوية مورغان مرتيل (من بين أخريات)، فإن الدعارة يمكنها أن تكون حتى أداة في الكفاح ضد الرأسمالية ولتحرر النساء. نعتزم في هذا المقال الرد على هذه الأفكار من وجهة نظر ماركسية.
[Source]
أصول الدعارة
رغم أن دعارة الذكور موجودة، إلا أنها تشمل النساء بشكل أكبر بكثير. الدعارة هي أحد الأجزاء المكونة للاضطهاد الذي تعاني منه النساء -ولطالما عانين منه- في المجتمعات الطبقية. ومن أجل تحليل الدعارة بشكل ملموس اليوم، من المفيد إذن أن ننظر إلى الوراء في الأصول والتطور التاريخي لاضطهاد النساء، من أجل إظهار الصلة العضوية بين هذا الاضطهاد وأصول الدعارة.
خلافًا للاعتقاد السائد، لم يكن اضطهاد النساء موجودًا دائمًا. لقد نشأ بالتزامن مع ظهور الاستغلال الطبقي – الذي لم يكن موجودًا دائمًا. تتبع فريدريك إنجلز (صديق ورفيق ماركس) تطور الاضطهاد مع المجتمع الطبقي في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” (1884)، وهو ما أكده بحث علماء الآثار والأنثروبولوجيا خلال أكثر من قرن من الزمان.
لعشرات الآلاف من السنين، عاش الرجال والنساء في مجتمعات متكافئة نسبيا تعتمد على القنص والالتقاط. لم تكن هناك في هذه المجتمعات ملكية خاصة، ولا طبقات اجتماعية، ولا دولة ولا اضطهاد للنساء. ومن ثم وصف إنجلز هذه المجتمعات بأنها “شيوعية بدائية”. كان هناك، بالتأكيد، تقسيم للعمل بين الرجال والنساء، ناشئ عن احتياجات الحمل والرضاعة الطبيعية. كان القنص يميل إلى أن يكون نشاطا ذكوريا، بينما كانت النساء مسؤولات عن الالتقاط وصيانة المأوى، والتي كانت آنذاك مهمة جماعية. ومع ذلك، فإن هذا “التقسيم الجنسي للعمل” لا يعني اضطهاد جنس لآخر. شاركت النساء في العمل الجماعي، ولعب العمل الجماعي دورا رئيسيا في تغذية المجموعة. اليوم، هناك أدلة أثرية على أن النساء شاركن أيضا في إنتاج الفن الصخري، وهي مهمة يدرك جميع المؤرخين أنها مهمة جدا في هذه المجتمعات. علاوة على ذلك، فإن أي قسر أو عدم توازن في القوة في التقسيم الجنسي للعمل لم يكن صارما. شاركت بعض النساء في القنص، كما شارك بعض الرجال في الالتقاط والعمل الجماعي أو رعاية الأسرة.
من حيث الحب والعلاقات الجنسية، اتسمت تلك المجتمعات بالحرية النسبية والمساواة بين الجنسين. لم تكن العائلات أحادية الزواج موجودة بعد؛ كانت مسبوقة بأشكال مختلفة من الزواج “الجماعي”. استندت الأنساب، في ظل تلك الظروف، على النسب الأمومي، حيث كان هذا هو النسب الوحيد المعروف على وجه اليقين. كانت لهذا الوضع عواقب على نقل الملكية. على الرغم من عدم وجود نوع الملكية الخاصة التي تطورت في المجتمعات الطبقية، إلا أن القناص امتلك أسلحته، والحرفي أدواته، وما إلى ذلك، وقد ورثوها لعائلة الأم.
ومع ذلك، لا ينبغي إضفاء صبغة مثالية على تلك المجتمعات. كانت تلك “الشيوعية” أولا وقبل كل شيء تمليها ضرورة ملحة. إن تدني مستوى إنتاجية العمل وغياب أي فائض جعل تلك المجتمعات ضعيفة للغاية؛ هذا جعل التضامن والمساواة ضرورة مطلقة للبقاء.
تغير ذلك الوضع بشكل كبير مع العصر الحجري الحديث، منذ حوالي عشرة آلاف سنة. مع تربية الحيوانات، تليها الزراعة، أصبحت المجتمعات قادرة على إنتاج فائض من الطعام، يمكن تخزينه أو تداوله مع المجتمعات الأخرى. بدأت التجارة في التطور. وقد أثار ذلك مسألة ملكية هذه الموارد الجديدة -التي يمكن أن تصبح سلعا- ووسائل إنتاجها. ظهرت الملكية الخاصة للأراضي والثروة الحيوانية، إلى جانب العبودية واللامساواة الاجتماعية. ونشأت المجتمعات الطبقية الأولى.
ونظرا لأن الزراعة وتربية الحيوانات كانت في المقام الأول أنشطة يسيطر عليها الذكور، فقد أصبح الرجال حينها يتمتعون بميزة كبيرة: فقد كان عملهم هو الذي ينتج غالبية المنتجات التي يحتاجها المجتمع، وتقريبا كل ما يمكن استبداله كسلع. أدى هذا التطور إلى اضطراب في العلاقات الأسرية، والتي وصفها إنجلز بأنها “الهزيمة التاريخية العامة لجنس الإناث”. من خلال السيطرة على الموارد الاقتصادية، أراد أغنى الرجال نقلها إلى أبنائهم، وليس لعائلات أمهاتهم بعد الآن. في المقابل، تم استبدال النسب الأمومي بالنسب الأبوي. ومن أجل التأكد من أن الأبناء هم من والدهم الرسمي، فقد تم فرض الزواج الأحادي على النساء (والنساء فقط).
تحول المنزل العائلي من مكان للعمل الجماعي إلى ملكية خاصة وسجنا للزوجات. تم طرد النساء من الإنتاج الاجتماعي، وحصرهن في دور الأمهات والإماء المنزليين (والجنس). لقد تم تحويلهن إلى سلع: يمكن بيعهن كإماء من قبل أزواجهن أو آبائهن. يمكن لعائلاتهن التخلي عنهن أو بيعهن كزوجات دون استشارتهن.
في تلك المرحلة بدأت الدعارة بالظهور. فبعد إبعادهن عن المجال الإنتاجي، أُجبرت النساء من أفقر الطبقات الاجتماعية، من أجل البقاء على قيد الحياة، على بيع السلعة الوحيدة التي كانت لديهن: أجسادهن. وعلاوة على ذلك، كما أشار إنجلز، بينما كان الزواج الأحادي القسري للنساء يتم بشكل صارم، فإن الدعارة كانت إحدى الوسائل التي يتم من خلالها الحفاظ على تعدد الزوجات للذكور بحكم الواقع.
شهد التاريخ، في الغرب، تعاقب مجتمعات العبيد في العصور القديمة، تلاها الإقطاع، وأخيرا الرأسمالية، دون القضاء على اضطهاد النساء. كما عانين تحت وطأة الدعارة لأنها مرتبطة عضويا ببنية الأسرة. الإدانة المنافقة من قبل الكنيسة للدعارة، في العصور الوسطى وعصر النهضة، لم تجعل الدعارة تختفي. في الواقع، كان الباباوات والكاردينالات في روما أو أفينيون من بين أفضل زبائن البغايا، هذا إن لم يكونوا هم أنفسهم قوادين. تعرضت النساء للاضطهاد في جميع المجتمعات القائمة على الاستغلال الطبقي، وبالتالي كانت الدعارة أحد أشكال هذا الاضطهاد.
الاضطهاد والرأسمالية
أدخلت الرأسمالية تغييرا كبيرا في وضع النساء. في أوروبا القرن التاسع عشر، أدت الحاجة إلى قوة العمل من أجل ازدهار الصناعة إلى إخراج بعض أفقر النساء من المجال المنزلي إلى الإنتاج الاجتماعي. شاركن في الصراع الطبقي وفي تطوير الحركة العمالية، كجزء لا يتجزأ من الطبقة العاملة. كانت العاملات، على سبيل المثال، في طليعة كومونة باريس عام 1871 والثورة الروسية عام 1917.
خلال تلك الفترة، تم وضع أسس التشريع “الليبرالي” للمساواة بين الجنسين تدريجيا في الغرب: الاستقلال الاقتصادي للمرأة عن زوجها (على الأقل رسميا)، وحرية الإقامة والزواج والطلاق، وكذلك الحق في التصويت، المساواة الرسمية أمام المحاكم، والحق في الإجهاض. ومع ذلك، يجب التأكيد على أن البرجوازية لم تقدم هذه الحقوق للنساء عن طيب خاطر بأي حال من الأحوال. كان لابد من كسبها جميعا من خلال النضالات الجماهيرية، التي كانت صراعات طبقية منهجية. إن مثال الثورة الروسية واضح: بعد أن تولى البلاشفة السلطة، فازت النساء الروسيات، في غضون أشهر، بالمساواة القانونية والسياسية الكاملة مع الرجال، فضلا عن الحق في الطلاق والإجهاض، وهي المكتسبات التي لم يتحقق أي منها في معظم البلدان الغربية إلا بعد عقود. لم تتعزز حقوق النساء إلا نتيجة للتعبئة الجماهيرية. في فرنسا، على سبيل المثال، حيث تم كسب الحق في الإجهاض في أعقاب الإضراب العام الضخم في مايو 1968.
لكن رغم كل ذلك التقدم، لم يختف اضطهاد النساء. لدى البرجوازية أسباب عديدة لإدامة هذا الاضطهاد. الرأسمالية، مثلها مثل كل المجتمعات الطبقية قبلها، تقوم في نهاية المطاف على الملكية الخاصة والميراث، والتي هي حجر الزاوية في الأسرة الأبوية منذ العصر الحجري الحديث. يضاف إلى ذلك الحاجة إلى تقسيم الطبقة العاملة لمنعها من الاتحاد وإدراك قوتها وتهديد هيمنة البرجوازية. إن التحيز الجنسي واضطهاد النساء، مثل العنصرية وكراهية المثليين وجميع أشكال الاضطهاد الأخرى، هي جزء لا يتجزأ من ترسانة البرجوازية لتحريض العمال ضد بعضهم البعض.
كما استمرت الدعارة في الوجود. ففي مجتمع تكون فيه أجساد النساء سلعة، تضطر شريحة من أفقر النساء لبيع أنفسهن من أجل البقاء. في نهاية القرن التاسع عشر، أشار الاشتراكي الألماني أوجست بيبل إلى أن معظم البغايا تم جلبهن من بين أفقر العاملات، لا سيما العاملات في صناعة النسيج، لأنهن يتقاضين رواتب منخفضة بشكل خاص. ومثل ماركس وإنجلز من قبله، أشار بيبل إلى نفاق البرجوازية التي أدانت الدعارة رسميا، لكنها أنشئت مجتمعا جعلها حتمية. علاوة على ذلك، دعت هذه البرجوازية نفسها إلى الإخلاص الزوجي، مع الحفاظ على جيوش من العشيقات والمحظيات.
مفهوم “العمل بالجنس”
اجتاحت العالم موجة من التحركات الجماهيرية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وشمل ذلك مايو 1968 في فرنسا، وموجات الإضرابات في إيطاليا (1968-1969)، والثورة البرتغالية عام 1974، والثورة التشيلية 1970-1973، وسقوط الديكتاتوريات العسكرية في اليونان وإسبانيا.
ومع ذلك، وبسبب خيانة القادة الإصلاحيين، لم تؤد تلك التحركات الثورية إلى الإطاحة بالرأسمالية. تبع ذلك موجة من الرجعية: حدثت انقلابات عسكرية (تشيلي والأرجنتين، إلخ)، وصعود قادة محافظين إلى السلطة -مثل ريغان وتاتشر- وهجوم أيديولوجي واسع النطاق ضد الأفكار الماركسية. خلال تلك الفترة، تطورت نظريات “ما بعد الحداثة” بدعم من الطبقة السائدة. في هذا السياق العام ظهرت نظرية جديدة داخل الحركة النسوية أعادت توصيف الدعارة على أنها “عمل بالجنس”.
وفقا لمروجي هذه النظرية، يجب أن نتخلى عن مفهومي “الدعارة” و”البغايا” لصالح “العمل بالجنس” و”المشتغلات بالجنس”. بعبارة أخرى، لا ينبغي اعتبار الدعارة أحد مكونات اضطهاد النساء، بل يجب اعتبارها وظيفة “مثل أي وظيفة أخرى”، وبالتالي يجب رفض جميع الدلالات السلبية المرتبطة بها، يجب، قبل كل شيء، التخلي عن هدف إنهاء الدعارة، ومناهضة ذلك الهدف. وهكذا، في عام 2013، أكدت الناشطة “الأفرو-نسوية” رقية ديالو أن الدعارة هي مسألة اختيار فردي، والتي -بالنسبة للنساء المعنيات- كانت مسألة “التصرف الحر” في أجسادهن.
لجأت بعض النسويات، من أجل تبرير هذا الموقف، إلى ما يسمى بالحجج “الماركسية”، بحيث يزعمن أن البغايا، خلال بيع أجسادهن، تواجهن في الواقع نفس وضع العاملات بأجر. والخلاصة: لا يجب أن نناضل من أجل اختفاء الدعارة، ولكن من أجل “الاعتراف بها” كوظيفة قائمة بذاتها، والتي تختار النساء القيام بها “بحرية”.
تذهب بعض الناشطات، مثل مورغان مرتيل، إلى أبعد من ذلك وتجادلن بأن الاعتراف بالعمل بالجنس هو خطوة ضرورية في النضال ضد الرأسمالية، لأنه من شأنه أن يشجع الاعتراف بالجنس بشكل عام على أنه “عمل”، وهو ما سيمثل تحديا للأبوية. وما تزال أخريات تجادلن بأن الدعارة في حد ذاتها ثورية، لأنه يمكنها أن تشجع الحرية الجنسية للنساء. لذلك قد تجد السلطة الأبوية نفسها تمول تدميرها من خلال “العمل بالجنس”!
حقيقة الدعارة
تتجاهل أفكار تلك النسويات -بشكل أو بآخر- حقيقة الدعارة لغالبية ضحاياها. لنبدأ بالإتجار بالبشر ودوره في الدعارة. في مقال نشر عام 2016، اعتبرت مورغان مرتيل أنه في هذه القضية، كان من الضروري “تجاوز تبادل الإحصائيات والخبرات هذه”.
لكن وبالرغم من خطر إزعاج مورغان مرتيل، دعونا نمضي قدما ونقدم بعض “الإحصائيات” و”الخبرات” لرسم صورة عامة للوضع السائد. في عام 2016، قدرت منظمة العمل الدولية (ILO) أن 40 مليون شخص في جميع أنحاء العالم قد تم الاتجار بهم من أجل الزواج القسري أو العبودية أو شبكات الدعارة أو الاتجار بالأعضاء. تشكل الدعارة الغالبية العظمى من ضحايا الاتجار بالبشر. وفي عام 2018، وفقا لتقرير الأمم المتحدة العالمي حول الاتجار بالبشر، كان 70% من ضحايا الاتجار بالبشر من النساء، وتم الاتجار بنسبة 83% منهن بغرض الاستغلال الجنسي.
على عكس ما يقوله بعض دعاة إضفاء الشرعية على الدعارة، فإن هذه الظاهرة تتعلق أيضا ببلدان مثل ألمانيا وهولندا، حيث تم تقنين الدعارة. في هذين البلدين، تشير التقديرات إلى أن ما بين 75% و80% من البغايا في بيوت الدعارة قد تم الاتجار بهن. وبالتالي فإنه عوض القضاء على الاتجار بالبشر، فإن إضفاء الشرعية على الدعارة يسهل ذلك من خلال السماح للمتاجرين بالبشر بعرض ضحاياهم في العلن، في نوافذ بيوت الدعارة في هامبورغ وأمستردام.
في كل من أوروبا وفي جميع أنحاء العالم، تعيش النساء ضحايا الاتجار بالبشر جحيما حقيقيا. وغالبا ما يصادر المهربون جوازات سفرهن. يتعرضن باستمرار للتهديد والضرب والاغتصاب في كثير من الأحيان. إنهن يعشن في وضع لا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بالعمل المأجور، بل بالعبودية. يتم تحويل تلك النساء إلى سلع لصالح الشبكات الإجرامية. علاوة على ذلك، فإن وضعهن كمهاجرات غير شرعيات في كثير من الأحيان يمنعهن من طلب أي مساعدة من خدمات الدولة البرجوازية (التي تضطهدهن هي نفسها). بين عنف القوادين والشرطة، غالبا ما يكون من المستحيل بالنسبة لهن إسماع أصواتهن، وبالتالي يمكن أن يبدو أن “الناشطات النسويات” يتحدثن نيابة عنهن.
عندما تزعم النسويات، مثل رقية ديالو، أن الدعارة مرادفة لحرية أكبر للنساء فيما يتعلق بأجسادهن، يبقين على اتفاق تام مع مبادئ الرأسمالية والسوق الحرة، وهي مبادئ تنص على أن العمل المأجور هو عقد مبرم “بحرية تامة” بين صاحب العمل والعامل. في الواقع، هذا ليس هو الحال أبدا، وهو أقل صحة بالطبع عندما يتعلق الأمر بالدعارة.
في ظل الرأسمالية، الناس ليسوا متساوين وليس لديهم جميعا نفس الوسائل. تنقسم الغالبية العظمى من السكان إلى فئتين: من ناحية، أولئك الذين يمتلكون وسائل الإنتاج (المصانع، الشركات، إلخ) ويعيشون من استغلال عمل الآخرين، ومن ناحية أخرى، جماهير الأجراء الذين لا يمتلكون سوى قدرتهم على بيع قوة عملهم. معظم الناس ينتمون إلى الفئة الثانية. ولذلك، فهم ليسوا “أحرارا” على الإطلاق في اختيار ما إذا كانوا سيعملون أم لا. إنهم مجبرون على بيع قوة عملهم مقابل أجر.
في هذا السياق، يتم إجبار جزء صغير من النساء اللواتي لا يملكن وسائل الإنتاج ولا يجدن وظيفة (بسبب البطالة الجماعية) على ممارسة الدعارة من أجل البقاء. يوضح مثال اليونان هذا بطريقة جلية. بعد أزمة عام 2008، عندما وصلت البطالة إلى ما يقرب من 25% من السكان اليونانيين، زاد عدد البغايا هناك بنسبة 7%. أدت نفس الأسباب الاقتصادية والاجتماعية إلى نمو ظاهرة “Camgirl” والحملات الإعلانية للدعارة التي تستهدف الطالبات، وما إلى ذلك.
وعوض أن يؤدي إضفاء الشرعية على الدعارة إلى الاعتراف بـ”الاختيار الحر”، فإنه لن يؤدي إلا إلى إضفاء الشرعية على حقيقة أن النساء الفقيرات يتم تحويلهن إلى أشياء وسلع، وإجبارهن على تسليم أجسادهن لعملائهم وللقوادين.
يمكن القول إن البغي لها الحرية دائما في رفض العروض التي تعتبرها مهينة أو التي تجعلها تشعر بعدم الارتياح. لكن في الواقع، غالبا ما تكون هذه الحرية وهمية تماما. فمن ناحية، يعرض الرفض البغي لرد فعل عنيف من مستغلها (العميل أو القواد). ومن ناحية أخرى، في اقتصاد السوق، يسود قانون المنافسة. البغي التي ترفض بعض العملاء أو بعض طلباتهم تخاطر بفقدان مصدر رزقها. لذلك فهي مدفوعة -من خلال المنافسة- لقبول كل شيء.
تؤثر الدعارة على النساء بشكل عام، لكن المتحولات جنسيا هن الأكثر تضررا بشكل خاص. فبسبب القهر والبطالة المتفشية، تُجبر الكثيرات على ممارسة الدعارة لكسب لقمة العيش. ليس من قبيل المصادفة أن المطالبة بـ”الاعتراف بالعمل بالجنس” غالبا ما تكون مرتبطة بدعوات لدعم حقوق المتحولات جنسيا، من أجل إضفاء الشرعية على النشاط الذي يُجبر البعض منهن على الانخراط فيه. وهذا يأتي بنتائج عكسية تماما: فبدلا من محاربة التحيز ومحاربة اضطهاد وتهميش المتحولات جنسيا، يعزز هذا النهج التحيز من خلال الإيحاء -بل والتأكيد في بعض الأحيان- على أن الدعارة ستكون النشاط الوحيد المناسب لهن.
من ناحية أخرى، يتم في بعض الأحيان إعطاء أمثلة لنساء من الطبقة الوسطى والثرية اللواتي يمارسن الدعارة “باختيارهن”، بدافع الانجذاب إلى “المهنة”. ويقال إن الاعتراف بالدعارة سيحميهن. لكن في الواقع، إذا كان هؤلاء الأشخاص محميون حقا من الحاجة، فلن يحتاجوا إلى أي حماية خاصة، لأن الأغنياء في ظل الرأسمالية هم بالفعل، وبحكم الأمر الواقع، “محميين” بثرواتهم. لذا فإن عاداتهم الجنسية هي مسألة خاصة، ولا تهمنا أو تدخل في هذا النقاش، خاصة وأن هذه الحالات القليلة، كما أوضحنا بالفعل، تمثل نسبة ضئيلة من أولئك الذين يمارسن الدعارة. إن الكلام عن “البغايا الثريات” -وهذه الحالات النادرة وغير النمطية تماما- يعمل بمثابة ورقة تين لإخفاء حقيقة الدعارة الدنيئة والوحشية.
كثيرا ما نسمع أيضا عن البغايا “المستقلات”، وهن “عاملات الجنس” الحقيقيات اللائي يعشن حياة مختلفة تماما عن أولئك اللواتي يعملن تحت سيطرة القوادين. هنا مرة أخرى، من المثبت ووفقا لمعظم الاستطلاعات الإحصائية، أن غالبية البغايا يخضعن للقوادين، أي المجرمين الذين يطلبون نسبا باهظة من ضحاياهم، تحت التهديد بالعنف الجسدي والنفسي. البغايا “المستقلات” أقلية. بالإضافة إلى ذلك، فإنهن أنفسهن ضحايا لنظام قمعي، حيث إن وسائلهن محدودة للغاية لترك الدعارة.
وعلاوة على ذلك، فنادرا ما كان دخولهن إلى “المهنة” سلسا. في عام 2014، أكد تقرير للبرلمان الأوروبي أن ما بين “80% و95% من البغايا قد تعرضن لشكل من أشكال العنف قبل دخولهن عالم الدعارة (الاغتصاب، سفاح القربى، الاعتداء عليهن في الطفولة)”، وأن “62% منهن صرحن بأنهن تعرضن للاغتصاب” ، وأن “68% يعانين من اضطراب ما بعد الصدمة، وهي نسبة مماثلة لتلك المسجلة عن ضحايا التعذيب”. هذه الإحصائيات وحدها كافية للكشف عن نفاق أولئك الذين يلوحون بعلم “الحرية” دفاعا عن الدعارة.
يشير التقرير نفسه إلى أن البغايا “يواجهن معدل وفيات أعلى من متوسط السكان”، لا سيما لأنهن يعانين في كثير من الأحيان من “الإدمان على الكحول والمخدرات”، أو لأن “العديد من مشتري الخدمات الجنسية يطلبون الجنس التجاري غير المحمي، مما يزيد من مخاطر الآثار الصحية الضارة”. هذا هو واقع الدعارة، بعيدا عن خطاب بعض النسويات حول “العمل بالجنس”.
كيف نكافح الدعارة؟
لا يمكن لأي قانون يوضع من قبل الديمقراطيات البرجوازية أن يقضي على الدعارة. على سبيل المثال، القوانين القمعية الصارمة للدول الاسكندنافية -أو فرنسا- لم تضع حدا للدعارة ولا للإتجار بالبشر. إن القوانين التي أقرتها الحكومات البرجوازية لا تؤدي، في الواقع، إلا إلى تفاقم الاضطهاد الذي تعاني منه اللواتي يعملن في الدعارة.
بدعم من جمعيات إصلاحية مثل “Osez le féminisme”، صدر قانون من قبل الجمعية الوطنية الفرنسية في عام 2016 يعاقب عملاء بيوت الدعارة ويجعلهم عرضة للغرامة. لكن عوض أن يساعد ذلك القانون البغايا، فقد دفعهن إلى أحلك وأخطر أركان المدن الفرنسية. فكما أوضحنا، في الغالبية العظمى من الحالات، لا يعد البغاء “اختيارا”، لذلك يتعين على البغايا متابعة عملائهن إلى مناطق أقل ازدحاما، حيث تقل احتمالية إيقاف العملاء، ولكن في المقابل، تصبح البغايا أكثر عرضة للعنف وسوء المعاملة. وعلاوة على ذلك، يوفر هذا ذريعة جديدة للشرطة لاضطهادهن.
هذا مثال نموذجي للمقترحات الإصلاحية لإلغاء العبودية، والتي تريد إلغاء الدعارة في إطار الرأسمالية، في حين توفر للسياسيين البرجوازيين فرصا لاستعراض ما يسمى بـ”النزعة الإنسانية”.
حل المشكلة واضح: إذا تم تقديم الدعم المالي لجميع البغايا، بغض النظر عن وضعهن أو أصلهن، وتمكن من الحصول على سكن، وعلاج الصحة العقلية، والتدريب المهني، وإذا تم تجنيس جميع ضحايا الاتجار بالبشر غير المسجلات، فكم منهن سيخترن الاستمرار؟
يقال لنا إن هذا مستحيل تحقيقه. في الواقع، في ظل الرأسمالية، هذا مستحيل، ليس بسبب نقص المال، بل لأن هذه الثروة تحتكرها أقلية على حساب بقية السكان. إن الدعارة، مثلها مثل العديد من الأمراض الاجتماعية الأخرى، تنشأ من الفقر والبطالة، مما يجبر الناس على بيع أجسادهن/م من أجل البقاء أو الفرار من بلادهم في ظروف بغيضة، معرضين لخطر الوقوع في شبكات الاستغلال التي تديرها عصابات الجريمة المنظمة. يتفاقم هذا الاستغلال بسبب اللامساواة بين الجنسين والعنصرية والحروب الإمبريالية.
يمكن اتخاذ تدابير جادة على الفور لمكافحة الدعارة من خلال معالجة جميع التناقضات الاقتصادية التي تقوم عليها. تم اتخاذ مثل هذه الإجراءات خلال السنوات الأولى لروسيا السوفياتية. كانت مكافحة الدعارة تتمثل في تنظيم خدمات الرعاية للنساء العاطلات عن العمل، قبل منحهن إمكانية الحصول على عمل، وكذلك إنشاء دور حضانة عامة ومساكن للنساء المشردات. أنشأت شبكة من العيادات العامة لعلاج الأمراض المنقولة جنسيا، بينما نُظمت في نفس الوقت حملات توعية لشرح العلاقة بين انتشار الدعارة والأمراض المنقولة جنسيا. وبالتعاون مع المنظمات النسائية الجماهيرية بشكل رئيسي، وفرت الحكومة السوفياتية الجديدة الإمكانية للوصول إلى فرص ملموسة للنساء لترك “المهنة”.
في الوقت نفسه، حظرت الحكومة البلشفية أي شكل من أشكال التنظيم القانوني للدعارة. لم يعاقب قانون العقوبات البغايا، لكنه نص على عقوبات قاسية للقوادين وأصحاب بيوت الدعارة. لكن وبسبب الدمار الهائل الذي سببته الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية، لم يتم القضاء على الدعارة بشكل كامل بالطبع. ومع ذلك، فإن من خلال استهداف قاعدتها الاقتصادية والاجتماعية من جهة، واستئصال إمكانية التربح منها من جهة أخرى، أدت هذه الإجراءات إلى تقليصها بشكل كبير.
تم التخلي عن هذه السياسة بالكامل في عهد الثورة المضادة الستالينية، مما تسبب في تدهور سريع في مكانة النساء في المجتمع. عادت الدعارة إلى الظهور كظاهرة جماهيرية في ثلاثينيات القرن العشرين. وتبنى قانون العقوبات الستاليني الجديد الأساليب البرجوازية بمهاجمة البغايا مرة أخرى.
نحن نؤيد تنفيذ تدابير ديمقراطية مماثلة لتلك التي اعتمدها البلاشفة في السنوات الأولى للنظام السوفياتي. بالطبع، نحن نكافح من أجل تنفيذها الآن أيضا. ومع ذلك، فإننا ندرك جيدا أنه لا توجد دولة رأسمالية ستنفذها. إن مكافحة الدعارة، بالنسبة للماركسيين، مهمة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنضال ضد الرأسمالية.
تقوم الدعارة على اضطهاد النساء والبؤس المعممان بفعل مجتمع منقسم طبقيا. لن يكون أي خيار حرا حقا ما دامت الرأسمالية قائمة ولم تتم الإطاحة بها، ولن يتم القضاء بشكل كامل على اضطهاد النساء بجميع أنواعه.