«إذا سمحنا لبلد كبير بالاستئساد على بلد أصغر منه، وغزوه ببساطة والاستيلاء على أراضيه، فستصير تلك ممارسة شائعة، ليس فقط في أوروبا، بل في جميع أنحاء العالم». بهذه العبارات أدان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الغزو الروسي لأوكرانيا في غشت من العام الماضي. ومع ذلك، فإنه يوم الخميس [12 أكتوبر/تشرين الثاني -بينما كانت إسرائيل الإمبريالية المسلحة نوويا تواصل تحويل جيب صغير فقير إلى أنقاض- وقف إلى جانب نتنياهو في مؤتمر صحفي مشترك وتعهد رسميا: «قد تكونون أقوياء بما يكفي للدفاع عن أنفسكم بأنفسكم، لكن طالما أن أمريكا موجودة فلن تضطروا إلى ذلك أبدا». أجل، إنها “ممارسة شائعة” في فلسطين.
[Source]
في أوكرانيا، يتظاهر الإمبرياليون الغربيون بأنهم المدافعون عن أمة صغيرة. واليوم، في فلسطين، يقوم نفس السيدات والسادة بإرسال حاملات الطائرات لحراسة إسرائيل وهي تذبح شعبا أعزلا. في أوكرانيا، تتم إدانة كل صاروخ روسي يضرب البنية التحتية المدنية باعتباره “جريمة حرب”. واليوم، يعتبر تدمير أحياء بأكملها في غزة وتسويتها بالأرض وقصف المدارس والمستشفيات بمثابة “دفاع مشروع عن النفس”.
أوضح السير كير ستارمر، خادم الطبقة السائدة البريطانية، إن «كل شيء يجب أن يتم في إطار القانون الدولي، لكنني لا أريد الابتعاد عن المبادئ الأساسية التي تقول إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها».
آه أجل، “القانون الدولي”، “النظام الدولي القائم على القواعد”. هذا ما يمثل الخط الرفيع الذي يفصل بين الغرب المتحضر وبين أعدائنا الهمجيين، وهو الخط الذي، كما يقال لنا، تنتهكه روسيا بشكل صارخ، في كثير من الأحيان في أوكرانيا.
في تلك الحرب، قام السياسيون الغربيون بإحصاء كل انتهاك ارتكبه الروس -سواء كان حقيقيا أو وهميا- وجمعوه في لائحة اتهام ليتم رفعها إلى المحكمة الجنائية الدولية. ووفقا للمدعي العام الأوكراني، فإن عدد تلك الجرائم يتجاوز 65 ألف جريمة.
تعمل المحاكم البرجوازية في كل مكان على أساس ما يسمى بمبدأ “السابقة القضائية”. حسنا، من المؤكد أنه لن يعترض علينا أي من مؤيدي “القيم الليبرالية” إذا استخدمنا مبدأ السابقة القضائية وورقة الاتهام الموجهة ضد بوتين لمعرفة أين تقف إسرائيل فيما يتعلق بـ “النظام الدولي القائم على القواعد” و”القانون الدولي”.
أو ربما سنجد، كما نعتقد، أن كل الكلام عن “القواعد” و”القانون الدولي” و”القيم الليبرالية” وما إلى ذلك، هو مجرد واجهة منافقة لأبشع سياسات الإمبريالية وأكثرها افتراسا.
جرائم الحرب
بمجرد ما اندلعت الحرب الأوكرانية، لم ينتظر الساسة والصحافة الغربية طويلا حتى وصفوا بوتين بأنه مجرم حرب. وعلى رأس قائمة الاتهامات: إن الروس تعمدوا استهداف المدنيين، وهي ممارسة محظورة بموجب اتفاقية جنيف لعام 1949. وقد سرد وزير الخارجية الأمريكي قائمة الجرائم التالية:
«لقد دمرت القوات الروسية المباني السكنية والمدارس والمستشفيات والبنية التحتية الحيوية والمركبات المدنية ومراكز التسوق وسيارات الإسعاف، مما أسفر عن مقتل أو جرح الآلاف من المدنيين الأبرياء. العديد من المواقع التي ضربتها القوات الروسية كان من الواضح أنها مواقع تستخدم من قبل المدنيين».
كان ذلك بعد مرور شهر على اندلاع الحرب الأوكرانية.
لكن بالنسبة للحملة الإسرائيلية فخلال بضعة ساعات فقط تمت تسوية ثاني أطول مبنى في مدينة غزة -وهو مبنى سكني- بالأرض. وكان هذا مجرد مقدمة لتسوية أحياء بأكملها بالأرض.
ووفقا لصحيفة نيويورك تايمز، فإنه يوم 10 أكتوبر -أي بعد يومين فقط من القصف- دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية المساجد، وأصابت مستشفيين على الأقل، ومركزين تديرهما جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، ومدرستين يتجمع فيهما اللاجئون.
وبعد ليلتين فقط من القصف، تم تهجير 187 ألف فلسطيني، أي ما يقرب من واحد من كل عشرة من سكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة. يقيم 130 ألفا منهم في المدارس، والباقي مع الأصدقاء. ولا نعرف آخر الأرقام.
من المؤكد أن أعداد النازحين كانت ستكون أعلى بكثير لو كان لدى سكان غزة مكان يذهبون إليه. نصح نتنياهو بشكل مقزز سكان غزة بالفرار، لكن الجيش الإسرائيلي كان قد فرض بالفعل إغلاقا كاملا على قطاع غزة، مانعا دخول أو خروج أي شيء. كما تم قطع إمدادات الوقود والغذاء والمياه.
ولما كان الناس يحاولون الفرار عبر معبر رفح إلى مصر، رد الجيش الإسرائيلي بقصف المعبر.
انتقد السفير الأمريكي مايكل كاربنتر الهجوم قائلا: «كم السفالة في كل ذلك يحير العقل، [أولا] وافقوا على فتح ممر إنساني […] لكنهم بعد ذلك قصفوا طريق الخروج بينما كان المدنيون في طريقهم للفرار. إنه شر خالص».
نعم، لقد اعترض على قصف ممر إنساني، لكن ذلك كان… خارج ماريوبول العام الماضي. عندما كانت ماريوبول تحت الحصار، وعندما كانت موانئ أوكرانيا على البحر الأسود تحت الحصار، شكلت الإمبريالية الغربية جوقة واحدة من الإدانة. وقد أدان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، ومسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، والعديد من المسؤولين الآخرين، تلك الجرائم ووصفوها بأنها “جرائم حرب”.
أوضحت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في إحدى التغريدات إن «هجمات روسيا على البنية التحتية المدنية، وخاصة الكهرباء، هي جرائم حرب». لكن بعد يوم من نفاد الوقود من محطة الكهرباء الوحيدة في غزة بسبب الحصار، انطفأت الأضواء وبدأ الطعام يفسد… رئيسة المفوضية الأوروبية في رحلة “تضامن” مع الشعب الإسرائيلي ولم تغرد ولو بكلمة واحدة بعد عن محنة سكان غزة. لا يعني ذلك أنها لم تجد الوقت الكافي لتسجيل الدخول إلى تويتر، إذ وجدت الوقت في 10 أكتوبر/تشرين الأول لتغرد لـ”تدين بشدة أي عمل من أعمال تدمير البنية التحتية الحيوية”… في إشارة إلى تسرب في خط أنابيب الغاز بين إستونيا وفنلندا!
يمكن للمرء أن ينقب في تويتر والصحف عبثا لإيجاد ولو إدانة واحدة للجرائم الشنيعة ضد الفلسطينيين، من جانب وزراء خارجية الولايات المتحدة والسفراء ورؤساء المفوضية الأوروبية.
وذلك رغم أنه، من الناحية القانونية، ينبغي أن تكون مهمة المدعي العام أسهل بكثير في حالة إسرائيل.
يكون من الصعب دائما تثبيت التهم عندما ينكر المتهم الاتهامات الموجهة إليه. لقد نفى الروس دائما أن يكونوا قد تعمدوا ضرب أهداف مدنية أو قاموا بتجويع المدنيين. وعلى العكس من ذلك، كانت الحكومة الإسرائيلية واضحة تماما بشأن هذه الحقيقة: فهي تستهدف جميع سكان غزة، ولا تقدم أي اعتذار عن القيام بذلك! صرح وزير الطاقة الإسرائيلي:
«المساعدات الإنسانية لغزة؟ لن يتم تشغيل أي مفتاح كهربائي، أو فتح صنبور مياه، أو دخول أي شاحنة وقود، حتى عودة المختطفين الإسرائيليين إلى منازلهم. الإنسانية للإنسانيين. ولن يعظنا أحد بالأخلاق».
هذا واضح تماما، أليس كذلك؟ غزة تحت الحصار، وجميع سكانها البالغ عددهم مليوني نسمة رهائن. لقد ضاعت حياتهم، وما هي إلا فترة حتى يبدأون في الموت جوعا (إذا لم يقتلوا أولا بالصواريخ)، حتى يتم إطلاق سراح جميع الإسرائيليين الـ 150 المختطفين.
وقد طرح رئيس الوزراء السابق، نفتالي بينيت، الأمر بعبارات وقحة للغاية في مقابلته المتوترة إلى حد ما مع مذيع قناة سكاي نيوز. ففي إشارة إلى قطع الكهرباء عن غزة، سأل المحاور: «ماذا عن الأطفال في الحضانات في غزة الذين انقطعت أجهزة دعم الحياة عنهم لأن الإسرائيليين قطعوا الكهرباء؟».
رد بينيت قائلا: «هل تسأل بجدية عن المدنيين الفلسطينيين؟ ما هي مشكلتك؟».
صاح بينيت في وجه المحاور الذي تجرأ على طرح السؤال عما إذا كان ينبغي علينا التفكير في إنقاذ حياة الفلسطينيين الأبرياء، وقارن الحملة الإسرائيلية بالقصف الحارق سيء السمعة لمدينة دريسدن، عندما استخدم سلاح الجو الملكي عمدا الأجهزة الحارقة لخلق عاصفة نارية التهمت المدينة وأودت بحياة 25 ألف مدني.
وفي سياق الحديث عن الأسلحة الحارقة، استخدمت إسرائيل خلال الأسبوع الماضي الفوسفور الأبيض على مناطق مكتظة بالسكان، والتي، أجل، هي أيضا جريمة حرب.
في وقت لاحق، أوضح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ موقفه تجاه الفلسطينيين في غزة بشكل واضح للغاية. إنهم يتحملون اللوم بشكل جماعي، وبالتالي سيواجهون عقابا جماعيا:
«ليس صحيحا هذا الخطاب حول عدم وعي المدنيين أو عدم تورطهم. هذا ليس صحيحا على الإطلاق. كان بإمكانهم أن ينتفضوا، كان بإمكانهم القتال ضد النظام الشرير الذي استولى على غزة بواسطة انقلاب».
وبينما نكتب هذه السطور، فإن العقاب الجماعي ضد الشعب الفلسطيني يتصاعد بشكل سريع. واليوم، منحت الحكومة الإسرائيلية جميع سكان شمال غزة، البالغ عددهم مليون نسمة -أي 50% من إجمالي سكان القطاع- موعدا نهائيا: إما الإخلاء إلى الجنوب خلال 24 ساعة أو المخاطرة بحياتكم. لقد أعطت الولايات المتحدة دعمها الكامل للإسرائيليين الذين، كما ترون، يقومون بتهجير شعب بأكمله فقط من أجل إنقاذ الأرواح.
من الصعب العثور حتى على سابقة لمثل هذه الجرائم.
أسوأ جريمة حرب على الإطلاق
في مقال نشرته عام 2001، وصفت المؤرخة البلجيكية آن موريلي ما أسمته “الوصايا العشر” للدعاية الحربية. نقرأ في النقطة الثالثة في قائمتها ما يلي: “زعيم عدونا شرير بطبيعته ويشبه الشيطان”.
عندما كانت الدول الغربية تبني الدعم الشعبي لحربها بالوكالة في أوكرانيا، لم تكتف باتهام بوتين وروسيا بارتكاب “جرائم حرب”. كلا، فامتثالا منهم لهذه “الوصية”، ومن أجل جعل بوتين يبدو وكأنه شيطان حقيقي، اتهموه بارتكاب أسوء جريمة حرب على الاطلاق، تلك الجريمة التي تفوق كل الجرائم الأخرى وتستدعي مقارنته بهتلر: الإبادة الجماعية.
ظهر هذا الاتهام بشكل مكثف في الدعاية الغربية. كما قال بايدن في أبريل 2022: «لقد أسميتها إبادة جماعية لأنه أصبح من الواضح أكثر فأكثر أن بوتين يحاول القضاء حتى على فكرة كون المرء أوكرانيا».
وقد تم دعم ادعاء الإبادة الجماعية بالإشارة إلى المبررات التي قدمها بوتين للحرب، حيث ادعى فيها أن الروس والاوكرانيين شعب واحد، وأنه لا توجد أمة “أوكرانية” منفصلة، وإن أوكرانيا كانت اختراعا بلشفيا. ووفقا لبايدن، فإن هذا يشكل إبادة جماعية.
والأكثر من ذلك، هو أنه نقل عن مسؤولين روس أنهم أشاروا إلى مسؤولي الحكومة الأوكرانية على أنهم “صراصير”. ويُقال لنا إن هذه اللغة “تجرد الإنسان من إنسانيته”، ومن ثم فهي على ما يبدو “إبادة جماعية”. بصراحة، سيكون من الصعب الجدال ضد الوصف الروسي، الذي يمكن أن يمتد ليشمل المسؤولين الغربيين. وفي الوقت نفسه، يبدو أن هؤلاء الأخيرين ليس لديهم مشكلة في قيام الجيش والحكومة الأوكرانيين بوصف الجنود الروس بأنهم “مسوخ”.
لكن إذا كنتم تريدون لغة تجرد الإنسان من إنسانيته، لكنها بالألوان، فإننا نحيل قرائنا إلى تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، الذي أعلن في اليوم الأول من القصف الإسرائيلي على غزة: “إننا نقاتل ضد حيوانات بشرية”. ومرة أخرى، بطبيعة الحال، لم يتم إبداء أدنى اعتراض في الغرب، حيث أكدت الطبقات السائدة على دعمها الكامل وغير المحدود لجنون إسرائيل عند كل منعطف.
لكن دعونا نترك الكلمات القاسية جانبا وننظر إلى النية، التي تمثل في المحاكم الجنائية الخط الفاصل بين القتل غير العمد والقتل العمد، وبين القتل الجماعي والإبادة الجماعية.
لقد أوضح النظام الإسرائيلي تماما ما يهدف إليه. الأمر يتعلق بالانتقام: الانتقام الجماعي من الشعب الفلسطيني بأكمله. أوضح متحدث رسمي باسم الجيش الإسرائيلي للقناة 13 الإسرائيلية ما قد يبدو عليه الأمر: “ستصبح غزة مدينة خيام”.
وفي الوقت نفسه، اقترحت عضو الكنيست عن حزب الليكود، ريفيتال غوتليف، استخدام الأسلحة النووية لتسوية غزة بالأرض. أين هو ضجيج السيدات والسادة الديمقراطيين في الغرب؟ أين هو الاهتمام بالإنسانية الذي أعربوا عنه بكل وضوح بخصوص أوكرانيا، عندما يقترح مشرعو الحزب الحاكم القضاء على ملايين البشر بالقنابل النووية؟
دعونا نستمع إلى خطط الإبادة الجماعية الباردة والمدروسة بعناية أكبر من قبل وزير المالية الإسرائيلي الحالي، بتسلئيل سموتريتش.
في عام 2017، اقترح هذا السيد الأنيق “خطة حاسمة” للتعامل مع المشكلة الفلسطينية، وهي الخطة التي تشبه من جميع النواحي سياسة الحكومة الحالية في العام الماضي. أولا، تقديم الدعم الكامل لسياسة الاستيطان العدوانية في الضفة الغربية. ثانيا، فرض هذه السياسة بالعنف. وفي هذا السياق طرح سموتريش توقعا بأن “قوى الإرهاب العربي ستزداد”. لكن تلك “القوى” سيكون مرحبا بها، لأن إسرائيل سوف تسحق الفلسطينيين بلا رحمة، وسوف يعم اليأس.
قال: «إن القول بأنه لا يمكن “قمع” الرغبة العربية في امتلاك وطن على أرض إسرائيل غير صحيح». وأوضح أن حل الدولتين قد فشل، لأنه «لا يوجد في أرض إسرائيل مكان لحركتين قوميتين متعارضتين».
إن التطلعات الوطنية لـ”الشعب الفلسطيني” (مزدوجتي التحفظ لسموتريش) يمكن، بل ويجب، أن يتم سحقها.
هذه، بكل المقاييس، دعوة إلى الإبادة الجماعية، أكثر وقاحة بكثير من أي دعوة خرجت من فم بوتين، وهي تشكل جوهر الأيديولوجية المتطرفة لليمين والعناصر الفاشية التي تدعم حكومة نتنياهو.
أين هي إدانة “الإبادة الجماعية” من الغرب المتحضر؟ لا شيء.
إن نظرة سريعة على ناغورنو كاراباخ، التي شهدت تطهيرا اثنيا كاملا لسكانها الأرمن على يد أذربيجان في الأشهر القليلة الماضية، تخبرنا بكل ما نحتاج إلى معرفته عن موقف الحكومات الغربية في مواجهة مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية… عندما يتم تنفيذها من قبل “حلفائنا”.
ومع ذلك، فإننا نتفق مع سموتريش على شيء واحد وهو أنه: على أساس الرأسمالية، لا يمكن أن يكون هناك “حل” للقضية الإسرائيلية الفلسطينية لا ينطوي على التطهير الاثني والدمار لشعب فلسطين. ومن الواضح إن قسما كبيرا من الطبقة السائدة الصهيونية يريد نكبة جديدة ويعمل على تحقيق هذه الغاية.
فقط انتفاضة تمتد إلى ما هو أبعد من فلسطين -ثورة اشتراكية لإنشاء فيدرالية اشتراكية للشرق الأوسط، والإطاحة بالدولة الصهيونية وحلفائها الإقليميين وداعميها الإمبرياليين- هي وحدها القادرة على ضمان الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
مزحة سخيفة
سنسقط الحديث عن “النظام الدولي القائم على القواعد” هنا. إنها مزحة سخيفة من القوى الغربية، لكن ما يجري في غزة حاليا ليس مزحة على الإطلاق.
يعبق الوضع برمته برائحة النفاق النتن. ينبغي للأحداث التي تتكشف في غزة أن توضح للجميع، باستثناء من يتعمدون التغاضي عن الواقع، أن الإمبرياليين الغربيين غير مهتمين على الإطلاق بانتهاك حقوق “الأمم الصغيرة” وذبح المدنيين الأبرياء. وكل ادعاءاتهم حول العدالة هي مجرد أوراق تين لستر مصالحهم الإمبريالية.
إن غضبهم المبرر تجاه بوتين حديث نسبيا. لقد مر وقت اعتقد فيه الإمبرياليون الغربيون أنهم قادرون على التحكم في رجل الكرملين، كما تلاعبوا بسلفه، يلتسين. لكن “جريمة” بوتين الكبرى كانت هي دفاعه عن مصالح الطبقة السائدة الروسية ضد مصالح الإمبريالية الغربية: في جورجيا وسوريا وأوكرانيا.
ليس النظام الأوكراني، في ذلك الصراع، سوى دمية، وليس الشعب الأوكراني سوى وقود للمدافع، كما صرح الإمبرياليون الغربيون أنفسهم بوضوح. على حد تعبير المرشح الرئاسي الجمهوري السابق ميت رومني: «إن دعم أوكرانيا يضعف الخصم، ويعزز أمننا القومي، ولا يتطلب إراقة الدماء الأميركية».
كما أننا سنسقط الحديث عن أي مقارنة بين حرب أوكرانيا وما يجري في غزة. لا يوجد أي وجه للمقارنة، على الرغم من أن زيلينسكي ألقى مزحة سخيفة من جانبه في اجتماع لحلف شمال الأطلسي (الناتو) يوم الاثنين حين قال: إن هناك تشابها بين أوكرانيا وإسرائيل وبين روسيا وحماس: “الجوهر هو نفسه”.
في هذه القصة الخيالية، تنخرط أوكرانيا وإسرائيل في صراع مانوي بين الخير والشر. الشيء الوحيد المشترك بين أوكرانيا وإسرائيل هو أن كلتيهما معقلان للإمبريالية الغربية: فكلتاهما مسلحتان حتى الأسنان من قبل الولايات المتحدة والناتو – ولكن في حين أن أحدهما منخرط في حرب نظامية مع منافس قوي للإمبريالية الغربية، فإن الآخر في حرب انتقامية، من جانب واحد، ضد شعب أعزل وفقير لا يمتلك جيشا أو بحرية أو قوة جوية، ودون اقتصاد يمكن الحديث عنه، ولا يمتلك سوى وسائل الدفاع عن النفس الأكثر بدائية.
تتمتع إسرائيل بأهمية بالنسبة للغرب باعتبارها معقلا آمنا لمصالح الإمبريالية الأمريكية في منطقة ذات أهمية استراتيجية تاريخيا. لم يتوقف الإمبرياليون قط عن التدخل في المنطقة، حيث استمرت الولايات المتحدة تكافح من أجل إقامة قلعة حصينة، الأمر الذي أدى إلى خلق جحيم حقيقي للملايين من البشر. مع ذلك، وعلى الرغم من جهودها الدموية، فقد عانت من انتكاسة تلو الأخرى خلال السنوات الأخيرة. وكل انتكاسة تجبرها على الاعتماد أكثر فأكثر على حليفتها: إسرائيل.
لذلك فإن جماهير المنطقة تنظر إلى نضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرر على أنه امتداد لنضالها ضد الإمبريالية. ولهذا السبب تحظى القضية الفلسطينية بمثل هذا التعاطف الساحق بين الشعوب المضطهَدة في الشرق الأوسط وفي كل مكان. إن انتصار الفلسطينيين سيكون بمثابة انتصار لجميع أولئك الذين عانوا، على مدى أجيال، من القمع والموت والدمار على أيدي القوة الأكثر رجعية على هذا الكوكب: الإمبريالية الأمريكية وحلفائها الإقليميين.
نادرا ما عرف تاريخ البشرية مثل هذه الهمجية غير المتكافئة التي نشهدها الآن. عندما شن الجيش الروسي هجومه الأولي في فبراير/شباط 2022، فعل ذلك بـ 200 ألف جندي منتشرين على جبهة طولها 1000 كيلومتر. في إسرائيل، تم استدعاء 380 ألف جندي احتياطي، بالإضافة إلى 200 ألف جندي منتشرين بالفعل، لشن الحرب ضد جيب بحجم فيلادلفيا.
يواجه هذا الجيش الضخم، الذي هو من أكثر الجيوش تقدما في العالم، 40 ألف رجل مسلحين بأسلحة خفيفة وأجهزة بدائية الصنع. في ستة أيام فقط، ألقت إسرائيل 6000 قنبلة على غزة. وهذا هو نفس عدد القنابل التي أسقطتها الولايات المتحدة على أفغانستان خلال عام كامل.
يمكن لآلة الدعاية الغربية أن تحاول بكل ما في وسعها لتحويل هذا الأمر إلى حرب “دفاع عن النفس”، لكنها غير قادرة على تحقيق المعجزات. الملايين يرون بالفعل ما يحدث، وسيتمكن ملايين آخرون من رؤية الحقيقة مع تصاعد همجية الجيش الإسرائيلي في فلسطين.
قبل هذا الغزو، كان بإمكان أي شخص ساذج، لكن ربما حسن النية، أن يتحدث عن الحاجة إلى “الدبلوماسية” لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وعن الحاجة إلى “المجتمع الدولي” لممارسة “الضغط” على إسرائيل لاحترام “القانون الدولي”.
لكن الآن، فإن النفاق والكذب المحيط بالكلمات نفسها يترك طعما مرا في الفم. أما بالنسبة لـ”المجتمع الدولي” للحكومات الإمبريالية الغربية: فيجب أن يكون من الواضح الآن أنهم يتحملون نفس القدر من المسؤولية التي تتحملها دولة إسرائيل نفسها، عن المذابح الحالية، إن لم يكن أكثر.
أما بالنسبة لمؤيدي قضية التحرر الفلسطيني في الغرب، فإن النضال الثوري ضد طبقتنا السائدة يمثل الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن نقدم بها أي مساعدة لنضال الشعب الفلسطيني. إن الأمر متروك للطبقة العاملة لإصدار الحكم على طبقاتنا السائدة الإجرامية.