توفي أنطونيو غرامشي عام 1937، بعد أن أمضى ما يقرب من عشر سنوات في سجن نظام موسوليني الفاشستي. وبعد كل هذه السنوات، ما تزال أفكاره وإرثه موضع نقاش وإعادة تفسير. من هو غرامشي؟ لقد تم تقديم كل أنواع الإجابات الغريبة عن هذا السؤال، مع الكثير من التشويهات، إن لم نقل التزوير التاريخي الصريح، سواء من جانب الأكاديميين والمثقفين البرجوازيين الصغار، أو من جانب التحريفيين داخل الحركة العمالية.
[Source]
«خلال حياة الثوريين العظماء لاحقتهم الطبقات المضطهِدة باستمرار، واستقبلت نظرياتهم بأشد أشكال الخبث وحشية، وبأشد أشكال الكره عنفا وبأبشع حملات الأكاذيب والافتراءات. لكن بعد وفاتهم جرت محاولات لتحويلهم إلى أيقونات، لتمجيدهم، إذا جاز القول، وتبجيل أسمائهم إلى حد ما من أجل تقديم “العزاء” للطبقات المضطهَدة وبهدف خداعها، مع العمل في نفس الوقت على إفراغ النظرية الثورية من مضمونها، وثلم نصلها الثوري وابتذالها» (ف إ لينين، الدولة والثورة).
لقد بُذلت العديد من المحاولات لتصوير غرامشي كأب مؤسس للأمة الإيطالية، مما سمح حتى للسياسيين البرجوازيين اليمينيين، مثل برلسكوني، بالمطالبة بإرثه. هذه هي القشة الأخيرة: فبعد أن تم تصويره كمنظر لسياسة الجبهات الشعبية، و”التوافق التاريخي”، والحركة الأوروشيوعية؛ ها هو يضاف الآن إلى مجموعة “الآباء المؤسسين للجمهورية”، وهي شخصيات “محايدة” يجب على الجميع أن يحترمها، بغض النظر عن المكان الذي تحتله داخل الطيف السياسي.
إنه من واجبنا، وواجب كل الشيوعيين، أن نقف بحزم ضد كل محاولات تشويه أفكار غرامشي، سواء جاءت من جانب الإصلاحية أو الاشتراكية الشوفينية.
النظام الجديد وانشقاق ليفورنو
أولا يجب القول إن غرامشي ومجموعة تورينو التي انتظمت حول جريدة النظام الجديد (L’Ordine Nuovo)، قد حملوا على كاهلهم إنجاز المهمة الهائلة المتمثلة في تطبيق الدروس العامة لثورة أكتوبر في السياق الإيطالي المحدد، ومثلوا الفئة الأكثر تقدما داخل الحركة العمالية الإيطالية.
لم يكتف أنصار “النظام الجديد” بالدفاع عن العمال خلال عمليات احتلال المصانع في عام 1920 وتنظيمهم، بل أصبحوا القادة النظريين الذين أوضحوا ضرورة سيطرة العمال على الصناعة. كان غرامشي يؤمن بأن لجان المصانع يجب أن تكون أجهزة لسلطة الطبقة العاملة في مجال الإنتاج، وكذلك نواة الديمقراطية العمالية في المجتمع الاشتراكي الجديد.
وخلال الثورة الإيطالية، 1919-2020، التي دخلت التاريخ باسم “السنتين الحمراوتين”، استخدم غرامشي صفحات جريدة النظام الجديد لحث الحزب الاشتراكي الإيطالي على تسليح البروليتاريا الصناعية والفلاحين ببرنامج ثوري يتركز حول شعار: “كل السلطة للجان المصانع!”.
لقد كانت هذه الأفكار بدون شك نتيجة للتجربة الملموسة لعمال تورينو، لكنه لا يمكننا أن نتجاهل تأثير البلاشفة والدور الذي لعبته السوفييتات في ثورة أكتوبر على كتابات غرامشي. ليس من قبيل الصدفة أن غرامشي كتب في “النظام الجديد”:
«لقد أثبت السوفييت أنه شكل خالد من أشكال المجتمع المنظم، بإمكانه التكيف مع مختلف الاحتياجات الدائمة والحيوية، سواء الاقتصادية أو السياسية، للغالبية العظمى من الجماهير الروسية».
ومثله مثل لينين كان عند غرامشي هدفان اثنان، خلال فترة 1919-1920، اعتبرهما، أساسيان للسيرورة الثورية. الهدف الأول هو تشكيل أجهزة الصراع الطبقي والديموقراطية العمالية التي يمكنها أن تنظم أوسع فئات العمال. والهدف الثاني هو بناء قيادة ثورية من شأنها أن تقطع مع كل الاتجاهات الإصلاحية والوسطية داخل الحزب الاشتراكي الإيطالي والحركة العمالية الأوسع. كان الإصلاحيون، من أمثال توراتي، والوسطيون، من أمثال سيراتي ولازاري، يشكلون عقبة كأداء أمام الثورة: كان الأولون يرفضون ضرورة الثورة، بينما كان الأخيرون يدافعون عنها، لكنهم لا يساهمون في تنظيمها، فكانوا يعرقلونها في الواقع.
بدأ غرامشي نضاله الفصائلي داخل الحزب الاشتراكي الإيطالي في نوفمبر 1920، عندما تم تشكيل الفصيل الشيوعي في إيمولا، بمبادرة من أميديو بورديغا. وفي يناير 1921، في مؤتمر ليفورنو، انشق هذا الفصيل الثوري وأسس الحزب الشيوعي الإيطالي. خلال مؤتمر ليفورنو التحق 58.873 من المناضلين الاشتراكيين وكل منظمة الشباب الاشتراكي بالشيوعيين، بينما دعم 98.023 الفصيل الوسطي وبقي 14.695 مع الإصلاحيين التوراتيين [نسبة إلى توراتي].
أيدت الأممية الشيوعية الانشقاق، وأعلنت لجنتها التنفيذية، التي أخدت بالاعتبار رفض سيراتي طرد الإصلاحيين التوراتيين من الحزب، أن الحزب الشيوعي الايطالي هو الفرع الوحيد للأممية الشيوعية في إيطاليا.
خلال المؤتمر الثالث للكومنترن [الأممية الشيوعية] (يونيو 1921)، أرسل الحزب الاشتراكي الايطالي وفدا مؤلفا من لازاري ومافي وريبولدي للتقدم بطلب الحصول على العضوية في الأممية الشيوعية. تم رفض الطلب، لكن قيادة الأممية اقترحت على الحزب الشيوعي الايطالي تطبيق تكتيك الجبهة الموحدة مع الحزب الاشتراكي الايطالي، بهدف كسب هؤلاء الاشتراكيين الذين يتعاطفون مع الاتحاد السوفياتي ويتطورون في اتجاه ثوري لكنهم لم يتوصلوا بعد إلى استنتاج ضرورة القطع مع حزب سيراتي.
في ذلك المؤتمر، رسم تروتسكي، في تقريره عن الوضع الاقتصادي العالمي، صورة انحسار الحركة الثورية وأكد ضرورة كسب الجماهير من خلال اقتراح جبهة موحدة للنضال من أجل تحقيق مطالب انتقالية ومكافحة الفاشية.
أدركت قيادة الأممية أن العمال خارج الحزب الشيوعي لا يمكنهم أن يفهموا أسباب الانشقاق، وأنه لن يكون كافيا أن يعلن التيار نفسه تيارا ثوريا لكي يكسبهم: لقد سبق لهم أن سمعوا بالفعل مثل هذا الخطاب من سيراتي، وبالتالي كان على الشيوعيين القيام بأعمال ملموسة من شأنها أن تظهر الطابع الثوري الحقيقي لحزبهم الجديد.
علاوة على ذلك كان العمال قد تعرضوا للتو لهزيمة تاريخية، بسبب خيانة قادة الكونفدرالية العامة للشغل (CGL) والحزب الاشتراكي للثورة الإيطالية. في ربيع عام 1921 كانت العصابات الفاشية نشيطة بالفعل في جميع أنحاء البلاد، وتقوم بإشعال النيران في مقرات الفروع النقابية والمنظمات الاشتراكية والشيوعية والصحف العمالية. كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن للشيوعيين بها أن يوقفوهم هي أن يقترحوا على العمال الاشتراكيين العمل كجبهة موحدة.
رفض بورديغا تكتيك الجبهة الموحدة وكان ضد أي “توافق” مع الاشتراكيين. وقد جادله تروتسكي قائلا:
«إن الاستعداد بالنسبة لنا يعني خلق ظروف من شأنها أن تضمن تعاطف الغالبية العظمى من الجماهير (…) أما فكرة استبدال إرادة الجماهير بقرارات من يسمون بالطليعة فيجب رفضها، كما أنها ليست فكرة ماركسية»، وأضاف: «لا يمكن تنفيذ الأعمال الثورية بدون الجماهير، لكن الجماهير لا تتكون من عناصر نقية تماما».
كان بورديغا هو القائد الأبرز للحزب الشيوعي في ذلك الوقت، وكانت مواقفه مهيمنة على الحزب الجديد ولم يكن غرامشي وحده من يشاركه إياها، بل كل قادة الحزب الشيوعي الآخرين.
وهكذا فقد عارض الحزب، على الرغم من إعلانه أنه يريد كسب الجماهير، تكتيك الجبهة الموحدة، مؤكدا على أن الطريقة الوحيدة لفضح خيانة الاشتراكيين هي رفض أي تعاون معهم. وأنهم في أقصى الحالات سيقبلون جبهة موحدة داخل النقابات، لكن ليس على الواجهة السياسية للصراع الطبقي.
بهذا الموقف ساهم الحزب الشيوعي في انتصار العصابات الفاشية. عندما تم إنشاء لجان “Arditi del Popolo” (وهي أجهزة للنضال ضد الفاشية)، بهدف مواجهة استعراضات الفاشيين في الشوارع، أثارت حماس العمال واجتذبت الكثير من الاشتراكيين والشيوعيين، إضافة إلى كامل فروع النقابات المحلية. لكن الموقف المشين لقيادة الحزب الشيوعي، ضدا على نصيحة الأممية الشيوعية، كان هو تهديد جميع أعضاء الحزب الشيوعي الذين انضموا إلى Arditi del Popolo بالطرد من الحزب.
كان بورديغا يتوهم بأنه يمكن للحزب أن يوقف تقدم الفاشية من خلال الاقتصار على قواته المنظمة وميليشياته. فكانت الهزيمة حتمية.
غرامشي والنضال ضد العصبوية
خلال الفترة الممتدة ما بين ماي 1922 وماي 1924، أُرسل غرامشي إلى الخارج (أولا إلى موسكو، ثم إلى فيينا) للمشاركة في الأجهزة التنفيذية للكومنترن. أتيحت له في تلك الفترة الفرصة لكي يعيد التفكير في بعض المواقف التي تبناها سابقا، ويعود الفضل في ذلك جزئيا إلى المناقشات الحادة التي أجراها مع قادة الكومنترن.
لقد اعتبر أن يناير 1921، تاريخ ميلاد الحزب الشيوعي، «اللحظة الأكثر أهمية، سواء بالنسبة للأزمة العامة للبرجوازية الإيطالية، أو لأزمة الحركة العمالية. ورغم أن الانشقاق كان ضروريا وحتميا من الناحية التاريخية، فإنه وجد أن الجماهير الواسعة غير مستعدة ومترددة».
وهكذا بدأ الجدالَ ضد بورديغا، منتقدا تصوره للحزب الذي كان يتسبب في انفصال واضح بشكل متزايد عن الجماهير.
وقد رفض توقيع نداء أطلقه بورديغا والذي هاجم فيه قيادة الأممية الشيوعية لمحاولتها توحيد الحزب الشيوعي الإيطالي مع الفصيل الأممي داخل الحزب الاشتراكي الإيطالي (ما يسمى بـ “تيرزيني”). وكان نداء بورديغا مدعوما من طرف بالميرو توغلياتي.
في دجنبر 1923، طرح غرامشي فكرة تشكيل فصيل “وسطي” داخل الحزب الشيوعي الإيطالي، من شأنه أن يعارض كل من مواقف بورديغا العصبوية المتطرفة ومواقف أنخيلو تاسكا اليمينية. وقد بدأ النضال ضد فصيل بورديغا في مؤتمر كومو عام 1924 وتُوج في مؤتمر ليون عام 1926.
في ذلك المؤتمر، أكدت الموضوعات التي قدمها غرامشي، ووافق عليها أكثر من 90% من أعضاء الحزب، ما يلي:
- يجب أن تكون الثورة الاشتراكية الإيطالية بقيادة الطبقة العاملة الصناعية والزراعية والفلاحون في البلد بأسره؛
- تتولى الطبقة العاملة قيادة السيرورة الثورية، على رأس الجماهير الواسعة؛
- إن تحويل المجتمع هو سيرورة تتطلب قطيعة ثورية مع النظام الحالي، أي انتفاضة جماهيرية من إعداد الحزب وتنظيمه؛
- تعزى هزيمة العمال خلال فترة السنتين الحمراوتين إلى عدم وجود حزب ثوري؛
- يجب على الحزب الشيوعي الايطالي كسب غالبية الطبقة العاملة من خلال النضال داخل المنظمات الجماهيرية من أجل المطالب والأهداف الفورية التي ستكون مفهومة للجماهير الواسعة. هذه هي الطريقة الوحيدة لإنضاج وعيها ودفعها للقطيعة مع المنظمات الإصلاحية.
إن الجبهة الموحدة هي الأداة الأساسية في هذا النضال؛ ويتم تطبيق هذا التكتيك، في ظل الوضع الملموس، برفع مطلب حكومة العمال والفلاحين.
لقد استندت الاستراتيجية الجديدة للحزب على أطروحات المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية: حيث استوعبت توجهاتها وطبقتها على الوضع الملموس في إيطاليا.
هذا صحيح إلى حد كبير، على الرغم من أن تلك الأطروحات احتفظت ببعض التصريحات العصبوية تجاه الماكسيماليين (التيار الوسطي داخل الحزب الاشتراكي الإيطالي المتحلق حول لازاري وسيراتي) والإصلاحيين، الذين وصفوا بأنهم يسار القوى البرجوازية بدلا من اعتبارهم الجناح اليميني للحركة العمالية.
وعلاوة على ذلك فإن تلك الشعارات لها في الواقع طابع إصلاحي، عوض أن تكون مطالب انتقالية تجاه مجتمع اشتراكي.
ومع ذلك، فإن أكبر أخطاء غرامشي في مؤتمر ليون [1926] كان هو دعمه للحملة الغامضة التي أطلقتها الأممية من أجل “بلشفة” الحزب. وهي الحملة التي لم تكن، كما في السنوات الأولى للسلطة السوفياتية، حملة لتثقيف الأحزاب الشيوعية الناشئة على أساس التجربة الروسية، بل تم فهمها على أنها صراع إداري يقوم على اتباع أساليب تأديبية ضد “الصراع الفصائلي” ومطاردة المعارضين السياسيين، وعلى دعم الإجراءات التأديبية وعمليات الطرد التعسفية.
لا يمكن فهم هذه السياسة إلا في سياق انحطاط الأممية الشيوعية بعد وفاة لينين. كانت الأممية، التي صارت تحت سيطرة الستالينيين، قد بدأت حملة افتراءات وتشويهات ضد المعارضة اليسارية، وضد تروتسكي على وجه الخصوص.
ليس هذا هو المجال المناسب لتحليل أسباب ذلك الانحطاط بالتفصيل، والذي لفهمه نوصي القراء بكتابات تروتسكي بما في ذلك: “الستالينية والبلشفية” و”دفاعا عن أكتوبر” و”الدولة العمالية، التيرميدور والبونابرتية”.
ومع ذلك، فإن غرامشي، وعلى الرغم من الجو الذي بدأ يتطور على المستوى الأممي، وعلى الرغم من ظروف السرية التي اضطر الحزب الشيوعي إلى العمل فيها، استمر في الدفاع عن حق الفصائل في تنظيم نفسها داخل الحزب (وهو الحق الذي رفضه الحزب الشيوعي الايطالي طوال فترة وجوده).
موقف غرامشي من الستالينية
قبل وقت قصير من اعتقاله، عام 1927، كتب غرامشي رسالة إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، بالنيابة عن الحزب الشيوعي الإيطالي، والتي يمكنها أن تساعدنا على فهم موقفه من الصراع الذي كان يدور داخل الحزب البلشفي.
وعلى الرغم من أن غرامشي لم يتطرق بشكل صريح للأسئلة التي كانت مدرجة على جدول الأعمال في الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، فإن معظم المواقف التي عبر عنها في تلك الرسالة لا تؤيد المعارضة اليسارية.
ومع ذلك فقد دافع عن المعارضة اليسارية ضد حملة المطاردات المستمرة، والتي كانت تمهد الطريق لقمع كل أشكال الديمقراطية داخل الحزب.
ورغم الجو الذي ساد الأممية آنذاك فقد سبح غرامشي ضد التيار من خلال الدفاع عن تروتسكي والمعارضة اليسارية ضد عمليات الطرد واعترف بدوره، ودور زينوفييف وكامينيف، باعتبارهم ثوريين ومعلمين عظماء، الشيء الذي لم يكن هينا آنذاك بالنظر إلى أن هؤلاء القادة كانوا يتعرضون للتشهير في تلك الفترة بكونهم معادين للثورة.
أما توغلياتي، الذي كان آنذاك في موسكو، فقد قام في الواقع بكل ما في وسعه لمنع رسالة غرامشي هذه وكان معارضا شرسا لمواقفه. كان يعتقد أنه ينبغي على الحزب الشيوعي الايطالي أن يقف دون أي تحفظات إلى جانب أغلبية الحزب الشيوعي السوفياتي. فكان رد غرامشي على توغلياتي قاسيا، حيث قال:
«(…) سنكون ثوريين مثيرين للشفقة وغير مسؤولين إذا سمحنا ببساطة للأحداث بأن تسير كما اتفق، ونبرر ضرورتها بشكل مسبق (…) طريقتك في التفكير أثارت عندي أشد مشاعر الحزن».
باختصار يمكننا القول إنه على الرغم من أن غرامشي يتحمل بعض المسؤولية عن الانحطاط البيروقراطي لكل من الأممية والحزب الشيوعي الإيطالي، فإنه يجب علينا أن نعترف له باستقلالية موقفه، وأنه رفض في آخر المطاف تبني مفهوم أحادي للحزب حيث كان يتم سحق المعارضة ببساطة.
وفي هذا الصدد فإن الاختلافات بينه وبين توغلياتي، الذي تولى قيادة الحزب الشيوعي الايطالي عندما اعتقل غرامشي، هائلة.
الانحطاط البيروقراطي للحزب الشيوعي الايطالي وطرد “الثلاثة”
كان توغلياتي سعيدا بأن يطبق ببساطة السياسة الستالينية، ويحول الحزب أكثر فأكثر إلى مجرد أداة للسياسة الخارجية للبيروقراطية السوفيتية. وقد ساهم في تسهيل هذه السيرورة حقيقة أن القيادة الستالينية كان ما يزال في إمكانها أن توظف هيبة ثورة أكتوبر، وكذلك الصعوبة البالغة التي كان أعضاء الحزب الشيوعي الايطالي يواجهونها في الحصول على معلومات دقيقة حول ما كان يحدث بالفعل في الاتحاد السوفياتي، بالنظر إلى أنهم كانوا مضطرين للعمل في السرية.
في عام 1928 تبنت الكومنترن سياسة “الاشتراكية الفاشية”، والمعروفة أيضا باسم المرحلة الثالثة. جوهر هذه النظرية هو أنه توجد على الصعيد الأممي موجة جديدة من الحركات الثورية، وأن العدو الرئيسي في هذا السياق هو الأحزاب الإصلاحية والاشتراكية، وخاصة اليسارية منها والتي تلعب دور الطابور الخامس للإمبريالية داخل الحركة العمالية.
ووفقا للخطاب الشهير الذي ألقاه مولوتوف في مؤتمر الأممية فإن الفاشيين والاشتراكيين “توأمان”، ومن هنا نشأ اللقب الذي أعطي للإصلاحيين بوصفهم “اشتراكيين فاشيين”.
كانت هذه النظرية خاطئة في كل أوروبا وقد فندها تروتسكي في كتابه “المرحلة الثالثة لأخطاء الكومنترن“.
لكن في حالة إيطاليا كانت هذه النظرية أكثر غباء. فالحديث عن أن وضعا ما قبل ثوري على وشك أن يبدأ في إيطاليا، مع وجود الفاشية في السلطة، وعندما كانت لدى موسوليني قاعدة دعم قوية، وكانت الجماهير البروليتارية خاملة وكانت لدى الحزب الشيوعي الإيطالي شبكة صغيرة جدا من المناضلين السريين، وبوجود بعض من القادة الرئيسيين في السجن، كلام مفصول تماما عن الواقع.
في عام 1930، بدأت تتشكل معارضة لخط توغلياتي، بقيادة ثلاثة من الأعضاء السبعة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الإيطالي. عارض تريسو وليونيتي ورافازولي نظرية الاشتراكية الفاشية ودافعوا بدلا من ذلك عن مواقف تروتسكي والمعارضة الأممية.
دعم “الثلاثة” العديد من الأفكار الأساسية التي جاءت في أطروحات ليون ضد التحول العصبوي للحزب الشيوعي الايطالي تحت قيادة بورديغا. لكن توغلياتي لجأ في النقاش إلى الشتائم بدلا من الحجج، وسارع إلى طرد الثلاثة، إلى جانب ثلاثين شخصا، أو نحو ذلك، من الشخصيات القيادية في الحزب.
يبدو أن غرامشي، حسب شهادة بعض رفاقه، قد عارض طرد الثلاثة. كان تريسو أحد تلاميذه المفضلين، لكن أكثر ما أثار قلقه ربما هو أنه كان يتفق مع الرفاق المطرودين في بعض الآراء.
وقد اعترف الحزب الشيوعي الايطالي نفسه في ستينيات القرن الماضي بأن غرامشي لم يتفق في تلك الفترة مع مواقف الحزب والكومنترن. ووفقا لتقرير كتبته ناشطة في الحزب، آثوس ليزا، عام 1933، فإن غرامشي نظر بسخط إلى التحليل السطحي لبعض الشيوعيين الذين رأوا انهيار الفاشية وشيكا واعتقدوا أن إيطاليا سوف تنتقل بسلاسة من ديكتاتورية فاشية إلى ديكتاتورية البروليتاريا.
شهد شقيق غرامشي، جينارو، بعد سنوات عديدة بأن أنطونيو اتفق مع ليونيتي وتريسو ورافازولي، ولم يدافع عن طردهم، ولم يقبل بخط الكومنترن. ووفقًا لشهادة ساندرو بيرتيني فإن غرامشي لم يوافق على فكرة “الاشتراكية الفاشية” أيضًا.
ليس من قبيل الصدفة، في الواقع، أن غرامشي قد صاغ في مقال كتبه في السجن مطلب انتخاب جمعية تأسيسية على أساس الاقتراع العام السري المباشر المفتوح أمام جميع المواطنين من الجنسين البالغين 18 عاما فما فوق، وهو نفس المطلب الذي أشار إليه الثلاثة في رسالة كتبوها إلى تروتسكي عام 1930.
في رده على تلك الرسالة، كتب تروتسكي:
«بمساعدة هذه الشعارات الانتقالية على وجه التحديد، والتي تبرز منها الحاجة إلى دكتاتورية البروليتارية، ستتمكن الطليعة الشيوعية من كسب كل فئات الطبقة العاملة والتي يجب عليها أن توحد حولها كل الجماهير المستغَلة».
في الواقع كان تروتسكي وغرامشي هما القائدان الوحيدان على المستوى الأممي اللذين تمكنا من إعطاء تحليل صحيح للفاشية، ليس فقط باعتبارها ردة رجعية رأسمالية، بل أيضا كحركة جماهيرية للبرجوازية الصغيرة الحضرية والريفية تهدف إلى استعمال العنف لتحطيم الحركة العمالية المنظمة، بدءا من أحزابها ونقاباتها، وحتى تعاونياتها وأنديتها الترفيهية.
لا يمكننا أن نعرف ما الذي كان سيحدث لو لم يكن غرامشي في السجن خلال “المرحلة الثالثة”؛ ربما كان سينضم إلى المعارضة اليسارية، أو ربما كان سيطرح نداء من أجل “وحدة الحزب” كما فعل عام 1926.
ومع ذلك فإن النقطة المهمة هي أن غرامشي، ورغم الظروف الرهيبة التي كان يعيشها، معزولا والصعوبات الكبيرة التي كان يواجهها في تلقي المعلومات، قد طور موقفا كان أصح بكثير من موقف قادة الكومنترن الذين كانوا منخرطين في النضال السياسي وكانت تحت تصرفهم التجربة والمعلومات المقدمة من عدة أحزاب جماهيرية لمساعدتهم في بناء مواقفهم.
يوضح لنا هذا عظمة غرامشي من الناحية السياسية، لكنه يوضح أيضا الكوارث التي سببتها الستالينية للحركة العمالية.
دفاتر السجن
لقد كتب غرامشي الكثير خلال السنوات العشر التي قضاها في السجن. ودفاتر السجن، التي نُشرت لأول مرة في عام 1948، كتبها تحت مقص الرقابة الفاشية. ولهذا السبب فإن اللغة التي اضطر إلى استخدامها جاءت في غالب الأحيان غامضة وذات طابع سوسيولوجي وليس سياسي. في الواقع إن غرامشي في دفاتر السجن مختلف تماما عن غرامشي في النظام الجديد أو في أطروحات ليون.
ومع ذلك فإن الدفاتر تتضمن أفكارا مثيرة للاهتمام تم استخدامها (وخاصة من قبل قادة الحزب الشيوعي الإيطالي في فترة ما بعد الحرب) للقول بأن غرامشي كان في طور تبني مفهوم تدريجي للاستيلاء على السلطة السياسية من قبل العمال.
ويعتبر العنصر الأكثر إثارة للجدل في هذا المجال هو تفسير مفهوم الهيمنة.
أولاً وقبل كل شيء لا بد من القول إن مفهوم الهيمنة ليس مفهوما غرامشيا محضا، لأنه يشكل جزءا من التراث النظري للحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية منذ بداية القرن العشرين.
كما استُخدمت كلمة “الهيمنة” أيضا في أطروحات المؤتمر الثالث للكومنترن، بمعنى أن البروليتاريا تسعى إلى الدور الريادي في قيادة حركة جميع الطبقات المضطهَدة في الكفاح ضد رأس المال.
وفي إحدى فقرات أطروحات المؤتمر الرابع تم توسيع المفهوم واستخدم مصطلح “الهيمنة” لوصف التفوق الذي تتمتع به البرجوازية على البروليتاريا في ظل الرأسمالية.
كان هذا هو المثال الوحيد عن استخدام مصطلح الهيمنة بذلك المعنى، وكانت تلك نقطة انطلاق غرامشي، والتي طور منها تحليلا عميقا لهيمنة البرجوازية على الطبقات العاملة.
كانت المسألة التي يحاول غرامشي تحليلها هي طبيعة الثورة في الغرب، حيث كانت البرجوازية بالتأكيد أكثر ثباتا ورسوخا من نظيرتها الروسية، وأقامت شبكة من الآليات لممارسة السيطرة الاجتماعية، وكذلك لكسب الإجماع من جانب العمال أنفسهم. وفقا لغرامشي:
«في الشرق كانت الدولة كل شيء، أما المجتمع المدني فكان بدائيا وهلاميا؛ بينما في الغرب فقد كانت هناك علاقة سليمة بين الدولة والمجتمع المدني، وعندما اهتزت الدولة في الغرب ظهرت على الفور بنية المجتمع المدني القوية. لقد كانت الدولة مجرد خندق خارجي، يقف خلفه نظام قوي من القلاع والحواجز الترابية (…)».
ما هي الاستراتيجية الثورية الضرورية للغرب؟ يعتبر غرامشي أن تكتيك “حرب الحركة” الذي استُخدم في الثورة الروسية، غير عملي وأكد أن التكتيك الصحيح هو “حرب الموقف”. ويقول إن لينين بدوره كان قد توصل إلى هذا الاستنتاج وأن تكتيك الجبهة الموحدة كان هو جواب لينين على هذا السؤال.
وفي هذا السياق يوجه النقد لتروتسكي، بشكل غير عادل من وجهة نظرنا، عند تعريفه لنظرية الثورة الدائمة بكونها نظرية حرب الحركة والصدام المباشر على الجبهة السياسية والعسكرية. يربط غرامشي بشكل خاطئ بين تروتسكي وبين بورديغا والشيوعيين الألمان، الذين قاموا، في مارس 1921، بإعلان انتفاضة دون دعم من جانب الجماهير، مما أدى إلى خسائر فادحة وبالتالي هزيمة الحزب الشيوعي الألماني، الذي دفع ثمنا باهظا نتيجة هذا السلوك الانقلابي.
يدل هذا على أن غرامشي ربما لم يقرأ أبدا كتاب “الثورة الدائمة”. تفسيره للنظرية تعسفي، إذا أخذنا في الاعتبار أن تروتسكي كان إلى جانب لينين أحد المهندسين الرئيسيين لتكتيك الجبهة الموحدة، وأنه انتقد بشدة السلوك العصبوي للشيوعيين الألمان في مارس 1921، وأنه كان، كما توضح كتاباته العسكرية، يعارض أيضا “المنظِّرين الهجوميين” مثل فرنز وتوخاشيفسكي على الصعيد العسكري.
لكن وبصرف النظر عن حقيقة أن المجتمع المدني في روسيا ما قبل الثورة لم يكن “هلاميا”، فإن غرامشي يطرح على نفسه في الواقع سؤالا لم يكن يمكنه الإجابة عنه بسهولة في تلك العزلة التي كان يعيشها في سجن توري. إنه في الواقع لم يعط إجابة محددة لمشكلة الثورة في الغرب.
إن أحد العناصر الرئيسية في أفكاره هي مسألة الإجماع. فعند نقطة معينة من دفاتره يبدو أن غرامشي يدعي (على الرغم من وجود فقرات متناقضة) أنه في الغرب على الحزب أن يحقق إجماعا أوسع مما كان عليه الحال في روسيا عام 1917 لأن العدو [في الغرب] أقوى بكثير ويحكم من خلال الإجماع أكثر مما يحكم من خلال الإكراه. وهذا صحيح، بلا شك، في ظل الديمقراطية البرلمانية، على الرغم من أن الإجماع والإكراه وجهان لعملة واحدة يستخدمها البرجوازيون للحفاظ على سيطرتهم، ويتناوبون في استعمالهما وفقا لمتطلبات الوضع.
وينطبق الشيء نفسه على الثورة. فخلال السيرورة الثورية، تصبح الطبقة العاملة القوة المهيمنة في المجتمع لكن كسب الإجماع يجب أن يلتقي بالضرورة مع استخدام القوة (على أساس جماهيري، بطبيعة الحال، وليس فردي، أي قوة الأغلبية ضد الأقلية) ضد قوى الردة الرجعية.
حقيقة أنه على الطبقة العاملة أن تكسب إجماع غالبية السكان، حتى إن اضطرت في بعض الحالات إلى منح تنازلات للطبقات الوسطى (ومثال السياسة الاقتصادية الجديدة يوضح ذلك) لا ينفي ضرورة الطريقة الثورية لتغيير المجتمع من خلال الانتفاضة.
لا نجد في الدفاتر أي تعارض مع هذا المفهوم الماركسي الكلاسيكي عن الدولة، مما يعطي الدليل على الطبيعة الثورية والشيوعية لفكر غرامشي.
يجب أن نضيف إلى ذلك أن مفهوم غرامشي للحزب هو ذلك المفهوم النموذجي للحزب الثوري المكون من كوادر ماركسية مثقفة. لكنه عندما يتحدث عن حزب مؤلف بالكامل من المثقفين، فإنه لا يعني، طبعا، أنه يجب إغلاق أبواب الحزب في وجه العمال أو الجماهير عموما. إنه يشير إلى حزب ذي مستوى سياسي عال، لا يتألف من مجرد أسماء على الورق، بل من مناضلين واعين يشاركون ويساهمون في كل جانب من جوانب نشاط الحزب.
ولدا غرامشي أيضا ميزة كبيرة تتمثل في تزويدنا بتحليل تاريخي لمرحلة توحيد إيطاليا (Risorgimento) من وجهة نظر بروليتارية، ضد المديح الذي يكيله البرجوازيون لتلك المرحلة، وعلى عكس ماركس وإنجلز اللذان لم يناقشا هذه المسألة كثيرا بسبب محدودية معلوماتهما عنها، وخاصة في انتقاد الدور المعادي للثورة الذي لعبه، خلال مرحلة التوحيد، الديموقراطيان مازيني وغاريبالدي، اللذان كانا في البداية عضوين في الأممية الأولى.
يقدم غرامشي نقدا حازما لتبعية غاريبالدي والمعسكر الديمقراطي لليبراليين بقيادة كافور والملكية. لقد كان التوحيد ثورة برجوازية لم تكتمل بسبب جبن البرجوازية الإيطالية التي لم تكن لديها الشجاعة للتخلص من الملك والنبلاء.
البرجوازية الإيطالية وبسبب تأخر دخولها إلى المسرح العالمي وبسبب ضعفها الاقتصادي، كانت مختلفة تمامًا عن اليعاقبة الفرنسيين، وبدلاً من مهاجمة الأرستقراطية بشكل مباشر، قررت في النهاية التحالف معها. وقد خضع الديمقراطيون لهذا التحالف، وفي النهاية ساعدوا على تنفيذه.
في الواقع عندما قرر الفلاحون الفقراء في صقلية، الذين شجعهم وصول قوات غاريبالدي، الاستيلاء على أرض كبار ملاك الأراضي، الشيء الذي كان يمثل أحد المهام الرئيسية للثورة البورجوازية، فقد تم ذبحهم ليس من قبل قوات آل بوربون بل على يد قوات غاريبالدي وبيكسيو بالذات.
تمثل هذه الخيانة التاريخية أحد جذور التخلف الذي يعرفه جنوب إيطاليا، والذي ترتب، وفقا لغرامشي، عن عجز البرجوازيين عن حل المسألة الزراعية. لا يمكن حل هذه المسألة إلا عن طريق الثورة الاشتراكية، من خلال التحالف بين البروليتاريا والفلاحين، وهو التحالف الذي على الثورة أن تقوم عليه. وهكذا فإنه، بالنسبة لغرامشي، لا يمكن حل مشكلة الجنوب المتخلف في ظل الرأسمالية.
إنه لأمر مدهش كيف أن هذه الأفكار ما تزال راهنية حتى وقتنا الحالي، كما أنه من المدهش عدد اليساريين الذين يحتفلون بغرامشي لكن دون أن يفهموا حقا رسالته الثورية العميقة.