خلال هذا الأسبوع [21-24 يناير] اجتمع أعضاء النخبة المنفصلة عن الواقع في دافوس في حفلهم السنوي الحصري. لكن المزاج السائد بين هؤلاء الأثرياء وممثليهم هو التشاؤم والكآبة، حيث يواجه نظامهم الليبرالي العالمي تهديدات على جميع الجبهات.
[Source]
تُظهر مواضيع اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي لهذا العام، المخاوف التي تعاني منها الطبقة الحاكمة. تشمل المواضيع الرسمية قضايا مثل: “اقتصاديات أكثر عدالة”؛ “كيفية إنقاذ الكوكب”؛ “التكنولوجيا من أجل الخير”؛ “مستقبل العمل”؛ و”ما وراء الجغرافيا السياسية”.
لكن إذا جردنا تلك العناوين من التعابير المنمقة ستصير معانيها كما يلي: خطر انفجارات اجتماعية بسبب اللامساواة؛ أزمة المناخ؛ هيمنة الشركات التكنولوجية الاحتكارية الكبرى؛ تناقضات الأتمتة في ظل الرأسمالية؛ وصراع الإمبرياليات المتنافسة وخطره على الوضع الراهن.
التشاؤم
في يوليوز من العام الماضي احتفل الرأسماليون بكون الاقتصاد الأمريكي قد سجل رسميا أطول فترة نمو في تاريخه، حيث تجاوز الرقم القياسي السابق البالغ 121 شهرا (أكثر من 10 سنوات) من النمو المستمر.
لكن وعلى الرغم من كل التفاؤل الكاذب بخصوص “براعم الانتعاش الخضراء”، فإن الحقيقة هي أنه لم يكن هناك أي انتعاش حقيقي، ولا سيما بالنسبة للطبقة العاملة.
وللحصول على صورة أقرب إلى الواقع لا يحتاج المرء إلا إلى النظر إلى الأرقام التي نشرها البنك العالمي مؤخرا. ففي آخر توقعاته للنمو العالمي، خفض البنك من تقديراته للسنوات المقبلة، متنبئا بـ “تباطؤ عالمي متزامن”.
قبل ستة أشهر، كانت توقعات النمو اقتصادي العالمي تتحدث عن نسبة 2,6% في عام 2019 و2,7% للعام المقبل. لكن التقديرات الأخيرة خفضت النسبة بـ 0,2%.
تبدو التوقعات في البلدان الرأسمالية المتقدمة أكثر كآبة. من المتوقع أن تتراجع نسبة النمو في الولايات المتحدة من 2,3% عام 2019 إلى 1,8% عام 2020. كما أنه من المتوقع أن تنمو منطقة اليورو بنسبة 1% في عام 2020.
ويبرز تقرير البنك الدولي نفسه عددا من المشاكل طويلة الأمد الأخرى التي تواجه الاقتصاد العالمي، بدءا من ارتفاع المديونية إلى تباطؤ الإنتاجية.
وقد أثار كبير محرري صفحة الاقتصاد في جريدة “فاينانشيال تايمز”، مارتن وولف، نفس المخاوف في مقالتين بعنوان “الرأسمالية المزورة” كتبهما العام الماضي، حيث جذب الانتباه إلى سيطرة “ثالوث غير مقدس يتمثل في تباطؤ الإنتاجية وتزايد اللامساواة والصدمات المالية الضخمة” على الرأسمالية خلال العقود الأخيرة. يقول وولف:
«نحن بحاجة إلى اقتصاد رأسمالي ديناميكي. لكن يبدو أن ما نراه على نحو متزايد هو رأسمالية ريعية غير مستقرة وضعف المنافسة وضعف الإنتاجية وارتفاع اللامساواة، وتدهور متزايد للديمقراطية».
لكن هذا ليس شيئا جديدا. وعلى عكس ما يتوهم وولف، وأمثاله من الليبراليين والكينزيين، ليست هناك رأسمالية “أجمل” يمكن العودة إليها، فقوانين ومنطق النظام الرأسمالي سيؤدي بشكل دائم إلى تركيز الثروة في أيدي الأقلية على حساب الأغلبية.
وكما شرح ماركس في كتابه رأس المال: “إن تراكم الثروة في أحد القطبين هو، في الوقت نفسه، تراكم للبؤس وعذاب العبودية والجهل والوحشية والتدهور المعنوي، في القطب النقيض”.
يخلص وولف، المنظر البرجوازي الذكي، إلى أنه:
«إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، فمن المرجح أن يزداد الأداء الاقتصادي والسياسي سوءا، إلى أن ينهار نظام الرأسمالية الديمقراطية، كليا أو جزئيا. لذا فإنه يجب أن تتغير الطريقة التي تعمل بها أنظمتنا الاقتصادية والسياسية، أو إنها ستهلك».
تقدم هذه التوقعات المتشائمة حول مستقبل النظام صورة أكثر دقة من تلك الصورة التي تقدمها تذبذبات مؤشرات البورصة، التي ليست سوى زبد لأمواج ودوامات الاقتصاد الحقيقي المضطرب.
مواد قابلة للاشتعال
الاقتصاد العالمي اليوم أبعد ما يكون عن الاستقرار. يمكن لمنظري الرأسمالية الأكثر ذكاء أن يروا المخاطر التي تلوح في الأفق القريب. وقد أشارت جريدة الإيكونومست -التي هي ناطق جدي بلسان الطبقة السائدة- في مقال لها بعنوان: ملاحظات بخصوص نقاش النمو الاقتصادي التاريخي لأمريكا إلى أنه:
«كانت فترات الركود تنجم عن فقاعات العقار أو ارتفاع الأسعار أو تراجع الانتاج الصناعي، أما الآن فيجب أن نقلق من الشركات المترابطة عالميا، والنظام المالي المدمن على الأموال الرخيصة والنظام السياسي الذي يطبق سياسات متطرفة لأن مستويات المعيشة لا ترتفع بسرعة كافية».
في عام 2008 كان السبب المباشر وراء اندلاع الأزمة هو فضيحة الرهون العقارية عالية المخاطر، والتي أدت إلى سلسلة من ردود الفعل. كان ذلك أحد أعراض الديون المتعفنة التي تراكمت بعد عقود من اعتماد الرأسماليين على الاقتراض من أجل توسيع حدود السوق بشكل مصطنع.
وكان هذا بدوره انعكاسا للسبب الحقيقي للأزمة، أي: مشكلة فائض الإنتاج التي تكمن في نخاع النظام الرأسمالي، حيث تدخل الحاجة للتوسع باستمرار والسعي المحموم وراء الأرباح في تناقض مع حدود السوق.
توجد اليوم كل أنواع الشرارات المحتملة، التي هي على استعداد لإشعال تلك الكمية الهائلة من المواد القابلة للاحتراق الموجودة في الاقتصاد العالمي. فمن الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى التوترات في الشرق الأوسط، إلى أزمة الديون الإيطالية، إلى كارثة المناخ، والكثير من القضايا الأخرى التي يمكن لأي منها أن يؤدي إلى الركود العالمي القادم.
هذا الكم الهائل من محفزات الأزمة يوضح نقطتين مهمتين: النقطة الأولى هي هشاشة النظام الرأسمالي في الوقت الحاضر، بالنظر إلى أن أي حدث من تلك الأحداث الكثيرة يمكنه أن يعجل بالركود المقبل. إن الضرورة، كما أشار هيغل، تعبر عن نفسها من خلال الصدفة. وعندما توجد الكثير من “الصدف” المحتملة التي يمكنها أن تسقط الهيكل الاقتصادي للمجتمع بأكمله، فإن هذا يكشف عن الفساد المطلق للرأسمالية برمتها.
والنقطة الثانية هي أن العديد من عوامل الانفجار المحتملة هذه هي ذات طبيعة سياسية عميقة. هذا يوضح كيف أن النظام غارق في دوامة نازلة، حيث تتغذى الأزمات الاقتصادية والأزمات السياسية من بعضها البعض.
عند حدوث الانهيار الاقتصادي الأخير كانت لدى السياسيين العديد من الأسلحة الاقتصادية في ترسانتهم التي كان بإمكانهم استعمالها لإنقاذ النظام. تم دعم البنوك وشركات التأمين بأموال دافعي الضرائب، كما تم تخفيض أسعار الفائدة، وتدخلت الدولة لامتصاص ديون وول ستريت ولندن.
ونتيجة لتلك التدابير تم استعادة التوازن الاقتصادي (مؤقتا)، لكن فقط على حساب خلق اضطراب اجتماعي وسياسي هائل.
ظهر ذلك بشكل واضح جدا في موجة الثورات التي اجتاحت العالم في العام الماضي: من الجزائر والسودان؛ إلى العراق ولبنان؛ إلى تشيلي والإكوادور. هذا دون أن نذكر الاستقطاب السياسي الحاد الذي حدث في أوروبا وأمريكا، مع انهيار ما يسمى بـ “الوسط” السياسي.
استنفاذ الذخيرة
لكن المشكلة التي تواجهها الطبقة الحاكمة الآن هي أنها استنفذت الذخيرة الضرورية لمواجهة الأزمة المقبلة.
قال محافظ بنك إنجلترا، مارك كارني، في مقابلة أجرتها معه فاينانشيال تايمز مؤخرا، إن: «جميع البنوك المركزية الكبرى صارت تمتلك ذخيرة أقل بكثير مما كانت تمتلكه في السابق، وأنا أرى أن هذا الوضع سوف يستمر لبعض الوقت».
السياسة النقدية، كما أشار كارني بأسف، وصلت إلى حدودها، مع وصول أسعار الفائدة إلى ما يقارب الصفر، بل وصارت سلبية في بعض البلدان. والتيسير الكمي، عوض أن يؤدي إلى استقرار الوضع، زاد في تقلبات الأسواق وساعد على تضخيم فقاعات الأصول، وخاصة في ما يسمى بالاقتصادات “الناشئة”. وأصبح ضخ القروض في النظام يؤدي إلى تناقص الأرباح، وكأننا أمام ذلك المدمن على المخدرات الذي يحتاج إلى جرعة أكبر فأكبر من أجل الوصول إلى نفس الشعور.
وهذا هو السبب الذي يجعل كارني ونظيرته في البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، من المدافعين عن تطبيق المزيد من “السياسات المالية”، أي الحوافز الكينزية ورفع الإنفاق الحكومي.
لكن المشكلة التي يواجهها صانعو السياسات هؤلاء هي جبل الديون الضخم الموجود نتيجة للأزمة الأخيرة. وبينما ما تزال الشركات والأسر تدفع فاتورة تلك الديون، وما تزال الأسواق مشبعة بالفعل، فإنه لا يوجد أمل في “تحفيز الطلب” بمعنى زيادة الاستثمار أو الاستهلاك.
وفقًا للتقديرات الأخيرة الصادرة عن معهد التمويل الدولي (IIF)، وصل إجمالي الدين العالمي في نهاية عام 2019 إلى رقم قياسي بلغ 255 تريليون دولار. ويقارن هذا الرقم بما يعادل أقل من 190 تريليون دولار قبل عقد. والأهم من ذلك، كما يلاحظ IFF، أن هناك “القليل من علامات التباطؤ في وتيرة تراكم الديون”.
يعادل جبل الديون هذا أكثر من 300% من الناتج الاقتصادي العالمي السنوي، ويشمل أكثر من 70 تريليون دولار من الدين الحكومي وحده. يضاف إلى ذلك 120 تريليون دولار من ديون الشركات والأسر (ما يعادل حوالي 150% من الناتج الإجمالي العالمي)، بينما يأتي ما تبقى، أي 65 تريليون دولار أو نحو ذلك، من ديون القطاع المالي.
وترسم تقديرات حديثة أخرى صادرة عن S&P Global Ratings الصورة نفسها، حيث تشير إلى أن إجمالي الدين العالمي -ديون الشركات والحكومات والأسر- قد ارتفع بنسبة 50% خلال السنوات العشر التي تلت الأزمة المالية.
وقد مس هذا الارتفاع بشكل خاص الديون الحكومية، التي صارت عام 2018 أعلى بنسبة 77% مقارنة بما كانت عليه قبل عقد. يعني ذلك، بعبارة أخرى، أنه على الرغم من عقد من الاقتطاعات الوحشية في ميزانيات الخدمات الاجتماعية والمعاشات التقاعدية ومناصب الشغل، فقد زادت الديون العامة فعليا بشكل مهول.
ليست هذه مسألة مقتصرة على البلدان الرأسمالية المتقدمة – مثل اليابان (التي بلغت فيها نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 238%، مقابل 201% قبل عقد من الزمن، أي عام 2008)، واليونان (180%، مقابل 126%) وإيطاليا (135%، مقابل 112%). بل تهم أيضا حتى البلدان المستعمرة سابقا، ففي نفس التقرير، يحذر البنك العالمي أيضا من أزمة ديون في الاقتصادات “الناشئة” و”النامية”. وفقا للبنك شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعا هائلا للديون في تلك البلدان. يبلغ الرقم الأخير، الذي سجل عام 2018، 165% من الناتج المحلي الإجمالي – بزيادة قدرها 54 نقطة مئوية منذ عام 2010. هذا المستوى من الديون، كما يلاحظ البنك العالمي، هو الأكبر في تاريخ ما يسمى بالعالم الثالث.
لكن مسألة الديون، في هذا الصدد، ليست مجرد مسألة أرقام. فتلك الديون تمثل أموالا يجب تسديدها، مع الفوائد. وبالتالي فإنها في النهاية مسألة سياسية؛ مسألة الصراع الطبقي حول من عليه أن يدفع الفاتورة؟
أزمة اليورو
على الرغم من عقد من الاقتطاعات، ما تزال مسألة الديون هي الشبح الذي يطارد أوروبا. فخلال السنوات العشر التي أعقبت الانهيار، زادت الديون بشكل كبير في اليونان وخاصة إيطاليا التي أصبحت الآن مركز أزمة اليورو. ولا تظهر هذه الديون أي علامة على إمكانية التراجع.
حسب الأسطورة اليونانية حكمت الآلهة على سيزيف بأن يدفع صخرة هائلة إلى قمة الجبل، لكنه كلما وصل إلى القمة، تتدحرج الصخرة إلى أسفل، مما يجعل سيزيف يعيش عذابا وشقاء أبديين. نفس الشيء بالنسبة للطبقة العاملة، التي بعد أن قاست من أعوام طويلة من التقشف والهجمات، لم تزد آلامها ومعاناتها إلا تفاقما.
مشكلة الطبقة السائدة هي أنها لا تمتلك في أي مكان حكومات “قوية ومستقرة” قادرة على تنفيذ الاقتطاعات اللازمة لحل مشكلة الديون والعجز واستعادة التنافسية والثقة للرأسماليين.
الحكومات في اليونان وإيطاليا وإسبانيا كلها هشة من الناحية السياسية. وفي فرنسا واجه ماكرون مقاومة كفاحية عنيفة لمحاولاته فرض التقشف على العمال الفرنسيين، سواء من جانب حركة السترات الصفراء الرائعة، أو الإضرابات الأخيرة ضد “إصلاح” المعاشات.
وفي غضون ذلك شهدت ألمانيا تحول الأمور إلى نقيضها. فحتى وقت قريب كان يشار إلى الاقتصاد الألماني في كثير من الأحيان بكونه “أساس قوة” أوربا، بفضل صناعاتها ذات القدرة التنافسية العالية، مثل صناعة السيارات والشركات المتوسطة. لكن البلد الآن أمام ركود يلوح في الأفق.
جاء في فاينانشيال تايمز مؤخرا أن: «أكبر اقتصاد في أوروبا نمى بنسبة 0,1% فقط خلال الأشهر الثلاثة حتى شتنبر، وبالتالي فإنه بالكاد تمكن من تجنب الركود». وأضافت: «من المتوقع أن تظهر أرقام النمو الاقتصادي الألماني للعام بأكمله نموا هزيلا بنسبة 0,5% عام 2019، أي أقل من 1,5% الذي سجل في العام السابق».
يشكل هذا، في نهاية المطاف، انعكاسا لترابط السوق العالمية الرأسمالية. ومثل متسلقي الجبال الذين يصعدون المنحدر وهم مرتبطون بنفس الحبل، يرتبط مصير كل بلدان العالم ببعضها البعض، وبالتالي فعندما يسقط أحدهم لا يبقى سقوط الآخرين سوى مسألة وقت فقط.
يصدق هذا بشكل خاص على الاتحاد الأوروبي، وخاصة منطقة اليورو. وكما شرح الماركسيون منذ إعلان العملة الموحدة، فإن المشروع الأوروبي في ظل الرأسمالية كان -وما يزال- محكوما بالفشل.
لفترة من الزمن، عندما كانت الرأسمالية مزدهرة وكان الجميع يسيرون في نفس الاتجاه، كان من الممكن احتواء التوترات بين الاقتصادات المختلفة داخل الكتلة. كان الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو آنذاك يوصفان بكونهما نعمة عظيمة، حيث توفران لبلدان الهامش إمكانية الوصول إلى القروض الرخيصة، وسوقا أكبر لسلع الشركات الأوروبية الاحتكارية الكبرى.
لكن ومع بداية الأزمة، في عام 2008، انقلب كل شيء في الاتجاه المعاكس. فجأة صارت مختلف الاقتصادات تسحب في اتجاهات مختلفة. نفذت الاقتصادات الأضعف والأقل قدرة على المنافسة تخفيضات في الأجور وظروف العمل والمعيشة، التي طالب بها التكنوقراط والسياسيون في بروكسل وبرلين نيابة عن الرأسماليين.
والآن ها هي الدجاجات قد بدأت تعود إلى الخم لكي تضع بيضها. بدأ المصدرون الألمان -الذين يواجهون تباطؤا في الصين وتقلصا للسوق الأوروبية والتهديد بفرض التعريفة الجمركية والقيود البيئيةـ يشهدون انخفاضا في المبيعات وتراجعا في الأرباح.
وقال كارستن برزيسكي، الخبير الاقتصادي في ING، متحدثًا إلى فاينانشيال تايمز: «في النهاية، لا توجد أي علامات على إمكانية أي تحسن بالنسبة للصناعة الألمانية، وبدلا من ذلك يستمر السقوط الحر».
وكريستين لاغارد، التي بدأت للتو عملها الجديد في البنك المركزي الأوروبي، وجدت نفسها أمام مشكلة لملمة شظايا أزمة اليورو، التي ما تزال بعيدة عن الحل. لكن ما هي الآليات التي تمتلكها للقيام بذلك؟ وبأي دعم سياسي؟ ومرة أخرى، فإن السؤال هو نفسه: من عليه أن يدفع؟
من الواضح أن من عليه أن يدفع لن يكون تلك الاقتصادات الأضعف في إيطاليا واليونان، ولا حتى فرنسا حيث يطالب الرأسماليون بالمزيد من التقشف والهجمات. كما لن يكون تلك الاقتصادات الأقوى والأكثر قدرة على المنافسة في “الرابطة الهانزية الجديدة”، التي تعارض بحزم أن يقوم الشماليون “المسؤولون” و”الحكماء” بدعم العمال “الكسالى” في الجنوب.
وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي، في ظل النظام الرأسمالي، يتجه نحو التفكك. وحده مطلب الولايات المتحدة الاشتراكية الأوروبية ما يشكل الحل أمام الطبقة العاملة.
أمريكا أولا
كما تجد أوروبا نفسها عالقة بين نيران الحرب التجارية الجارية بين دونالد “أمريكا أولا” ترامب وبين بقية العالم.
قال الرئيس الأمريكي في اجتماع لنادي نيويورك الاقتصادي في نوفمبر من العام الماضي: إن: «وضع الاتحاد الأوروبي صعب، صعب للغاية، إن الحواجز التي يواجهونها رهيبة، رهيبة للغاية. أسوأ، في نواح كثيرة، من الصين».
وفي الآونة الأخيرة عبر الممثل التجاري البارز لواشنطن، روبرت لايتيزر، عن نفس هذه المشاعر، عندما وصف المبادلات التجارية الأمريكية الأوروبية بأنها: “علاقة غير متوازنة نهائيا”.
وفي أعقاب نزاع حول الدعم الأوربي لشركة صناعة الطائرات الأوروبية، إيرباص، فرض الأمريكيون، في أكتوبر الماضي، تعريفة على صادرات الاتحاد الأوروبي بقيمة 7,5 مليار دولار. وتهدد إدارة ترامب الآن بزيادة تلك العقوبات، كما لم يستبعد مسؤولو البيت الأبيض اتخاذ المزيد من التدابير ضد شركات صناعة السيارات الأوروبية المنافسة.
يضيف لايتيزر قائلا: «لدينا مشكلة تجارية أساسية مع أوروبا. علينا ايجاد طريقة لرفع صادراتنا إلى أوروبا. وأعتقد أننا سنتمكن من بذلك».
يوضح هذا هدف الحرب التجارية التي يشنها ترامب، أي: زيادة أرباح الشركات الأمريكية الكبرى، على حساب بقية العالم.
لكن رغم تعرض أوروبا للنيران مؤخرا، فمن الواضح أن الهدف الرئيسي لحملة “أمريكا أولا” التي يشنها الرئيس الأمريكي هو الصين.
ظل النزاع بين أكبر اقتصادين وأقوى إمبرياليتين في العالم مستعرا منذ حوالي 18 شهرا.
الولايات المتحدة التي بدأت بفرض مجموعة من الرسوم الجمركية على السلع والخدمات الصينية بقيمة 50 مليار دولار في صيف عام 2018، سرعان ما ألقت بثقلها وفرضت رسوما بنسبة 25% على السلع الصينية، بما قيمته 200 مليار دولار، في شتنبر من العام نفسه، تلتها 25% (200 مليار دولار) أخرى في ماي 2019. لم يكن أمام الصين إلا أن ترد في كل مرة بفرض رسوم بنسبة 25%، ما قيمته 60 مليار دولار.
أدت الصفقة الأخيرة التي توصل إليها مفاوضو الطرفين إلى الاتفاق على خفض بعض الرسوم الجمركية الأمريكية مقابل رفع الصين لمشترياتها من المنتجات الأمريكية. لكن التعريفة الجمركية البالغة 25% على الصادرات الصينية ما تزال سارية المفعول.
تعتبر هذه الهدنة المؤقتة انعكاسا لقلق الطبقات السائدة في كلا البلدين، لأن النزعات الحمائية على جه الخصوص هو الخطر الذي يهدد بدفع الاقتصاد العالمي إلى الكساد التام.
جاء في مقالة افتتاحية في فاينانشال تايمز، في أكتوبر من العام الماضي، إنه: «يجب على السياسيين أن ينظروا إلى ما هو أبعد من صراعاتهم الوطنية قصيرة الأجل. عليهم أن ينظروا إلى الصورة الأكبر لاقتصاد عالمي بدأ يتراجع تحت وطأة الحروب التجارية التي تخاض على جبهات متعددة».
إن التشابه مع سنوات الثلاثينيات واضح. ففي ذلك الوقت لم يكن انهيار وول ستريت وحده هو الذي أغرق العالم في ركود عميق، بل كذلك سياسات “إفقار الجار” التي تبعت الانهيار المالي الأول، عندما سعى كل بلد إلى تصدير الأزمة إلى أماكن أخرى.
تتجلى أزمة التجارة العالمية الحالية في شلل منظمة التجارة العالمية. لقد أصبحت مؤسسة بريتون وودز قشرة فارغة، غير قادرة على الفصل في المنازعات التجارية الدولية لأن إدارة ترامب رفضت تعيين القضاة الضروريين للبث في القضايا المعروضة على المنظمة.
وهذا المأزق، بدوره، يعكس انهيار النظام العالمي القديم، الذي بني حول الإمبريالية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب.
فول الصويا وأشباه الموصلات
خلال محادثات التجارة في أكتوبر من العام الماضي، حاول المفاوضون الأمريكيون ربط التهديد بفرض رسوم جمركية بمسألة انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها الدولة الصينية في شينجيانغ. وفي الاتجاه الآخر دعا القادة الأوروبيون إلى فرض رسوم متعلقة بانبعاثات الكربون على المنتجات الأمريكية.
وفي كلتا الحالتين ليس هذا الكلام سوى نفاق بحت. حيث أن الإمبرياليين في كل مكان يعطون الأولوية للأرباح والوصول إلى الأسواق، على الديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية البيئة.
وليس هناك من مكان يتضح فيه هذا أكثر مما هو عليه في الصين، حيث تسعى الشركات الغربية بشدة إلى الوصول إلى السوق الصينية الهائلة بأي ثمن. لقد أظهرت الشركات المتعطشة للربح مثل ديزني (من بين العديد من الشركات الأخرى) أنها مستعدة للركوع أمام بكين من أجل الحفاظ على مصالحها التجارية.
لكن في حين تسعى الشركات الغربية بشدة إلى بيع منتجاتها في السوق الصينية سريعة النمو، فإن الشركات الأمريكية الكبرى (على وجه الخصوص) تشعر بالقلق أيضا من المنافسة المتزايدة من جانب منافسيها الصينيين، وخاصة في مجال التكنولوجيا.
هذا هو السبب وراء واحد من المطالب الرئيسية الصادرة عن المفاوضين الأمريكيين فيما يتعلق بالحرب التجارية الأمريكية – الصينية، أي: أن تتراجع بكين عن دعمها للقطاعات المتطورة مثل قطاع الذكاء الاصطناعي.
وباختصار فإن هذا الصراع التجاري الأخير لا يتعلق بفول الصويا أو الصلب، بل يتعلق أكثر بأشباه الموصلات وأجهزة الكمبيوتر عالية التقنية، أي وسائل الإنتاج التي من شأنها أن تهدد الوضع المهيمن للصناعة الأمريكية (والأوروبية) على المدى البعيد.
لكن هذا بالضبط هو ما يرغب القادة الصينيون في تحقيقه من خلال اتفاقياتهم مع الولايات المتحدة. يمكنهم قبول زيادة طلباتهم لشراء المزيد من المنتجات الأمريكية (ضمن حدود معينة)، لكنهم لن يسمحوا لأحد بأن يعرقلهم عندما يتعلق الأمر بمهمة “جعل الصين عظيمة مجددا”.
وهذا هو السبب الذي يجعل التسوية التجارية الحالية مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار، وليس اتفاقا دائما (وهو الشيء المستحيل بين قوتين إمبرياليين متنافسين، أحدهما في مرحلة تراجع والأخرى صاعدة)، خاصة في الوقت الذي يعرف فيه السوق العالمي إشباعا كبيرا، بل وقد يعاني في وقت قريب جدا ربما من خطر الركود مرة أخرى.
عندما تعطس أمريكا…
إن أمريكا وبسبب مكانتها المهيمنة في الاقتصاد العالمي، عندما تعطس يصاب العالم بالزكام. تظهر الأهمية العالمية للرأسمالية الأمريكية في قوة الدولار الذي يعمل في الواقع كعملة عالمية. وهذا بدوره يجعل من الدولار والبنوك الأمريكية ملاذا آمنا للمستثمرين القلقين. وبالتالي فإن القرارات التي يتخذها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يكون لها تأثير ملحوظ في جميع أنحاء العالم.
لرؤية ذلك لا يحتاج المرء إلا إلى النظر إلى مثالين فقط من أمريكا اللاتينية، التي تعتبر الفناء الخلفي للإمبريالية الأمريكية:
فمن جهة نرى في فنزويلا وأماكن أخرى كيف تستعمل إدارة ترامب الدولار سلاحا في ترسانتها، من خلال فرض عقوبات تهدف إلى شل اقتصاديات تلك البلدان التي تخرج عن طوع الإمبريالية الأمريكية.
ومن جهة أخرى نرى كيف تم إغراق اقتصاد الأرجنتين، وغيرها من البلدان “الصاعدة” الأخرى، في حالة من الفوضى نتيجة لقرار الاحتياطي الفيدرالي “تقليص” التيسير الكمي، أي التخفيض التدريجي من ضخ المال الرخيص في النظام العالمي.
شكلت أموال التيسير الكمي رساميل “ساخنة” تتدفق إلى داخل البلدان وخارجها؛ وتسعر المضاربة على الممتلكات والأسهم؛ وتتسبب في تضخيم فقاعات الأصول بدلا من الاستثمار في الإنتاج الحقيقي. وهذا ما يوضح مرة أخرى أن سياسة التيسير الكمي لم تؤد إلى استقرار الاقتصاد العالمي، بل زادت من حدة تقلبات الرأسمالية على المستوى العالمي.
تظهر هذه المضاربة في سوق الأوراق المالية المشبع بالفقاعات، كما تظهر في أسعار السلع الأساسية مثل الذهب. وتظهر أيضا في “جنون العملة الرقمية” والمطاردة المحمومة للمستثمرين لركوب الموجة الجديدة من شركات وحيد القرن الناشئة، وكذلك في تدفق الأموال نحو أسواق الفن وأجود أنواع الخمور.
هناك أيضا طلب كبير على السندات الحكومية، التي توفر ملاذا للمستثمرين القلقين، الذين لم يعد في إمكانهم إيجاد أي طريقة أخرى لاستثمار أموالهم بشكل مربح. هذا هو السبب وراء ظاهرة “منحنى العائد المقلوب“، حيث تحصل القروض طويلة الأجل على أسعار فائدة أقل من القروض قصيرة الأجل، مما يشير إلى أن الرأسماليين يفقدون ثقتهم في نظامهم بالذات.
مشاكل الصين
تشهد الصين تباطؤ النمو إلى مستويات خطيرة. يتوقع البنك العالمي الآن أن الصين ستسجل، لأول مرة منذ عام 1990، انخفاضا في معدل نموها السنوي إلى أقل من 6%. تعتبر السلطات هذا الرقم “6%” الحد الأدنى الذي بدونه لن يصبح الاقتصاد قادرا على مواكبة الطلب على مناصب الشغل، مع تدفق الملايين من الأرياف إلى المدن.
وفي الوقت نفسه يواجه النظام الصيني معضلة اقتصادية عويصة، حيث عليه أن يوازن بين توسع اقتصادي يتغذى على الديون وبين انكماش في القروض يقود إلى الركود.
إن تراكم الديون -ولا سيما عند الحكومات المحلية التي تضخ الأموال في مشاريع استثمارية عمومية كينزية- أثار بالتأكيد القلق الشديد في القمة. يبلغ إجمالي الدين الصيني (الشركات والأسر والحكومة) الآن 40 تريليون دولار أو 300% من الناتج المحلي الإجمالي، حسب تقديرات معهد التمويل الدولي العام الماضي. وهو ما يشكل 15% من مجموع الدين العالمي.
لكن إغلاق الثقب في الوقت الحالي أمر خطير بنفس القدر. فالرأسماليون الصينيون، مثلهم مثل نظرائهم في الغرب، صاروا مدمنين على الأموال الرخيصة. “رأسمالية الزومبي” -أي تلك الشركات غير التنافسية التي تبقى على قيد الحياة فقط بفضل استمرار انخفاض أسعار الفائدة وبفضل الدعم الحكومي- تتفشى في كل مكان.
وفي الوقت نفسه يزيد دعم الدولة من تفاقم أزمة فائض الإنتاج في العالم، حيث تغرق الأسواق العالمية تحت جبال من السلع المختلفة.
يمكن ملاحظة تأثير ذلك على الجانب الآخر من العالم، في إغلاق الشركات والمصانع في بريطانيا، والتسبب في ضياع فرص عمل في مصانع الصلب الويلزية أو في أحواض بناء السفن بهارلاند وولف في أيرلندا الشمالية. كما ينعكس أيضا في تراجع أرباح شركات التكنولوجيات العالية التقنية مثل Apple، التي تكافح من أجل بيع تلك الكميات الكبيرة من المنتجات في السوق العالمية المكتظة.
وهذا ما يفسر تصاعد النزعات الحمائية، مما يدل بدوره على أن القوى المنتجة على الصعيد العالمي قد تجاوزت الحدود الضيقة للدولة القومية والسوق الرأسمالية. إنه حكم نهائي على نظام الربح، كما شرح ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي:
«فجأة يجد المجتمع نفسه وقد أعيد إلى وضع من الهمجية المؤقتة، ويبدو كما لو أن مجاعة وحرب إبادة شاملة قد قطعتا كل وسائل المعيشة؛ فتبدو الصناعة والتجارة وكأنهما خراب؛ لماذا؟ لأنه يوجد الكثير جدا من الحضارة، والكثير جدا من وسائل العيش، والكثير جدا من الصناعة، والكثير جدا من التجارة».
الانهيار
كما يشرحان في نفس المؤلف كيف أن: «حاجة البرجوازية إلى سوق متنامية باستمرار لتصريف منتجاتها تدفعها إلى كل أنحاء الكرة الأرضية. تفرض عليها أن تعشش في كل مكان، وأن تستقر في كل مكان، وأن تقيم علاقات في كل مكان».
كانت “العولمة” ذات يوم مصدر قوة للرأسماليين، حيث ساعدتهم على الوصول إلى العمالة الرخيصة والمواد الخام (وكذلك الأسواق)، وبالتالي كسب أرباح أكبر. ولهذا السبب لعق المدراء التنفيذيون والمستثمرون شفاههم وهم يرون الآفاق التي انفتحت أمامهم مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانتقال الصين إلى الرأسمالية.
لكن سلاسل التوريد المترابطة عالميا تخلق اليوم الصداع للرأسماليين، فمع ارتفاع الرسوم والحواجز التجارية في كل مكان، صارت الشركات متعددة الجنسيات تكافح لإيجاد موردين محليين، الشيء الذي أدى إلى زيادة التكاليف وارتفاع الأسعار.
الاضطرابات في الشرق الأوسط وصوت طبول الحرب بين الولايات المتحدة وإيران، لها نفس التأثير، مما يتسبب في ارتفاع أسعار النفط، والذي بدوره يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الطاقة وبالتالي ارتفاعا عاما في أسعار السلع. وهذا ما يفسر جزئيا تردد واشنطن في تصعيد الصراع مع طهران.
وفي الوقت نفسه ليس خطر التضخم هو ما يشكل مصدر قلق بالنسبة لكثير من صانعي القرار السياسي، بل نقص التضخم هو مصدر القلق الأكبر. فمع اكتظاظ الأسواق و”الطاقة الانتاجية الزائدة” في كل القطاعات، هناك ضغط هائل لهبوط الأسعار أدى إلى تراجع التضخم بل ويهدد بحدوث “انكماش في الأسعار”.
إجراء الموازنة الذي يضطر رؤساء البنوك المركزية إلى القيام به لتجنب كل من التضخم الصاروخي والانكماش الاقتصادي، يعكس الاضطراب العام للنظام الرأسمالي.
نماذجهم الاقتصادية تنهار أمام أعينهم. و“منحنى فيليبس” الذي كان يربط بين التضخم والبطالة قد صار الآن متجاوزا إلى حد كبير. وبالعودة إلى العالم الحقيقي، فإذا ما حدثت صدمات الإمداد بشكل متزامن مع الانكماش المقبل، فسوف يجد الرأسماليون أنفسهم في مواجهة عاصفة مدمرة من “الكساد التضخمي” (Stagflation)، كما حدث خلال الأزمة العالمية في سبعينيات القرن الماضي، حيث تزامن ارتفاع الأسعار مع الركود الاقتصادي والكساد.
الواقع الجديد
يشكل كل هذا وصفة مثالية لزيادة التقاطب السياسي والاضطرابات الاجتماعية، واحتداد الصراع الطبقي. ومن هنا تنبع أهمية تحليل السيرورات التي تجري في الاقتصاد العالمي، لفهم تأثير أزمات الرأسمالية على الوعي وتطور الثورة العالمية.
الواقع الأكيد هو أنه لن تكون هناك أي إمكانية للعودة إلى الماضي. الوضع القائم قد تحطم، ولا إمكانية للعودة إلى “الحياة الطبيعية”. لقد دخلنا، كما أثبت العقد الماضي بعواصفه وتوتراته ونضالاته وأزماته، حقبة جديدة و”واقعا جديدا”.
هذا يعني أن مسألة الثورة الاشتراكية ستكون على رأس جدول الأعمال خلال الفترة المقبلة. والمهمة الماثلة أمامنا هي الإطاحة بهذا النظام الفاسد ورمي الرأسمالية في المكان الذي تستحقه، أي: مزبلة التاريخ.