لقد أعدم إرنستو (“تشي”) غيفارا على يد القوات البوليفية بالقرب من بلدة لاهيغيرا في 9 أكتوبر 1967، بعد سقوطه في كمين. كانت العملية بتخطيط من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ونظمتها القوات الخاصة الأمريكية. وفي ذكرى وفاته من المناسب أن نقوم بتقييم لهذا الشهيد والثوري العظيم. في هذا المقال، الذي كتب في الأصل في ذكرى مرور أربعين سنة على وفاة تشي، يتتبع آلان وودز تطور تشي جيفارا من أيامه الأولى إلى يوم مقتله.
[Source]
كتب لينين في الدولة والثورة: « إن ما يحدث الآن لنظرية ماركس، سبق أن حدث مرارا عبر التاريخ لتعاليم غيره من المفكرين الثوريين وقادة الطبقات المظلومة المناضلين من أجل التحرر. فأثناء حياة الثوريين العظام تدأب الطبقات الظالمة على ملاحقتهم، وتستقبل تعاليمهم بغيظ وحشي أبعد الوحشية وحقد جنوني أبعد الجنون، وبأشد حملات الافتراء كذبا ووقاحة. وبعد مماتهم تبذل المحاولات لتحويلهم إلى أيقونات لا ضرر منها، ووضعهم في إطار القانون، إن صح القول، وإحاطة أسمائهم إلى حد ما بهالة من التبجيل “تعزية” للطبقات المظلومة وبهدف تضليل هذه الطبقات، بينما – في الوقت نفسه – يسلب من النظرية الثورية جوهرها، ويثلم نصلها الثوري وتبتذل تعاليمها.»
لقد صار غيفارا بعد موته أيقونة الحركات الاشتراكية الثورية ورمزا للثقافة الشعبية المعاصرة في العالم بأسره. وأصبحت صورة تشي، التي التقطها له آلبيرتو غوردا، شهيرة تظهر على الأقمصة ورايات الاحتجاج في كل أنحاء العالم. وهكذا أصبح تشي أيقونة عصرنا الحالي. بعد وفاة لينين، عملت الطغمة الحاكمة في الاتحاد السوفييتي، بقيادة ستالين وزينوفييف، على خلق بدعة تقديس شخصيته. فتم تحنيط جثته، ضدا على رغبة كروبسكايا، ووضعت في مكان عام في متحف بالساحة الحمراء. وقد علقت كروبسكايا على ذلك في ما بعد قائلة: « لقد ناضل فلاديمير إليتش طوال حياته ضد الإيقونات، وهاهم قد حولوه الآن إلى أيقونة.»
شهر نوفمبر من سنة 2005، كتبت الصحيفة الألمانية Der Spiegel مقالا حول “الثوريين المسالمين” الأوروبيين الذين تصفهم بورثة غاندي وغيفارا [!]. هذا تشويه فاضح للحقيقة. يجب علينا أن نعمل على “حماية تشي غيفارا” من هؤلاء الناس الذين ليست لديهم أية علاقة بالماركسية والصراع الطبقي والثورة الاشتراكية، والذي يريدون رسم صورة مغلوطة تماما لتشي وتحويله إلى قديس ثوري، أو بورجوازي صغير رومانسي، أو فوضوي، أو مسالم من أتباع غاندي أو أي شيء من هذا القبيل.
إن موقفنا من هذا الثوري البارز يشبه موقف لينين من روزا لكسمبورغ. ففي نفس الوقت الذي حافظ فيه على نقد حازم لأخطائها، بقي يوليها مكانة عالية كمناضلة ثورية وأممية. هذا ما كتبه بخصوص روزا، مدافعا عن ذكراها ضد الإصلاحيين والمناشفة:
«سنرد على هذا باقتباس جملتين من حكمة روسية، “يمكن للنسور أحيانا أن تطير أدنى من الدجاج، لكن لا يمكن للدجاج أبدا أن ترتفع أعلى من النسور”. لقد كانت [روزا] بالرغم من أخطائها […] وستبقى نسرا بالنسبة إلينا. ولن يعمل الشيوعيون في العالم بأسره على تخليد ذكراها فقط، بل ستنفع سيرتها وأعمالها الكاملة كمؤلفات نافعة لتدريب العديد من أجيال الشيوعيين في كل أنحاء العالم. “لقد صارت الاشتراكية الديمقراطية، ابتدءا من شهر غشت 1914، جثة نتنة” – هذا التصريح سوف يبقي اسم روزا ليكسمبورغ شهيرا في تاريخ حركة الطبقة العاملة الأممية. وطبعا سوف تبقى الدجاجات من قبيل بول ليفي وشيدمان وكاوتسكي وجميع أخواتهن، في الفناء الخلفي للحركة العمالية، بين أكوام الروث، تثرثرن حول الأخطاء التي ارتكبتها هذه الشيوعية العظيمة». (Collected Works, Vol. 33, p. 210, Notes of a Publicist, Vol. 33)
حياته المبكرة
آرنيستو غيفارا دي لا سيرنا (ولد يوم 14 يونيو 1928، توفي يوم 9 أكتوبر 1967)، الشهير بتشي غيفارا، كان مناضلا ماركسيا ثوريا، أرجنتيني المولد لكنه أممي حتى النخاع. أصوله شديدة الاختلاط، مثله في ذلك مثل أغلب شعوب أمريكا اللاتينية. كلمة غيفارا (Guevara) هي الصيغة الإسبانية لنطق غيبارا (Gebara) الباسكية، والتي تعني “من إقليم آرابا (أو آلافا) الباسكي”. أحد أسمائه العائلية هو لينش (Lynch)، وهو اسم ايرلندي (كانت أسرة لينش أحد القبائل الـ 14 الغالية). امتزاج الدماء الباسكية بالدماء الايرلندية يشكل بطريقة ما خليطا شديد الانفجار!
ولد في أسرة تنتمي إلى البورجوازية المتوسطة، لم يعاني الفقر والجوع الذي عاناه الكثير من أطفال أمريكا اللاتينية الآخرين. لكنه عانى من مشاكل صحية. لقد ارتبطت روحه المغامرة والمتمردة بطبيعتها بواقع كونه أصيب منذ سنواته المبكرة بالربو. لقد قضى كل حياته يحاول التغلب على هذا المشكل من خلال التعمد على دفع نفسه إلى أقصى حدوده. يمكننا أيضا أن نرجع تصميمه الفولاذي على التغلب على جميع الصعاب إلى هذا الواقع.
مشاعره الإنسانية وجهته في البداية إلى حقل الطب. حصل على شهادة في الطب. كان تخصصه هو الأمراض الجلدية وكان مهتما على وجه الخصوص بمرض الجذام. خلال تلك الفترة من حياته لم تكن آفاقه أوسع من آفاق أغلبية شباب الطبقة الوسطى الآخرين: العمل بجد، الحصول على شهادة في الطب، الحصول على عمل جيد، ربما القيام بأبحاث أصيلة في علم الطب وتطوير المعرفة البشرية من خلال بعض الاكتشافات الهامة. ولقد كتب عن هذه المرحلة من حياته قائلا:
«عندما بدأت دراسة الطب كانت أغلب المفاهيم التي أتبناها الآن كثوري غائبة عن مجال مثلي العليا. كنت أريد مثلي مثل الجميع أن أصبح ناجحا. كنت أحلم بأن أصير باحثا شهيرا، من خلال العمل بجد من أجل اكتشاف شيء ما يمكنه، بالتأكيد، أن يستخدم في مصلحة البشرية، لكن كل شيء كان آنذاك متعلقا بالمجد الشخصي. لقد كنت، مثلي مثل الجميع، نتاجا لمحيطي.»
لقد كان ارنيستو، مثله مثل أغلب الشباب، يحب السفر. لقد تملكه ما يطلق عليه الألمان اسم: “Wanderlust” [عشق السفر]. كتب قائلا: “أعلم الآن وبمصادفة لا تصدق أنني محكوم بالترحال”. لكنه كان يجهل تماما إلى أية نقطة سيصل في سفره وفي أي اتجاه سيذهب. لا شك أنه كان سيصبح طبيبا بارعا، لكن الـ”Wanderlust” استحوذ عليه. ارتبط بالسفر ولم يعد إلى الأرجنتين طيلة سنوات. دفعت به طبيعته المغامرة إلى القيام برحلة طويلة عبر أمريكا الجنوبية على متن دراجة نارية.
بدت العلاقة بين الطب ومثله العليا السياسية من خلال خطاب ألقاه في سان بابلو بالبيرو بمناسبة عيد ميلاده الرابع والعشرين. قال:
«بالرغم من كوننا أقل من أن نكون ناطقين باسم قضية بكل هذا النبل، نعتقد، وهذه الرحلة لم تزد إلا في تأكيد هذا الاعتقاد، أن تقسيم أمريكا إلى أوطان غير مستقرة ووهمية ليس سوى خدعة. نحن نشكل عرقا مولّدا [في النص الأصلي استعمل مصطلح: mestizo أي ولد من أبوين أحدهما أوربي والآخر هندي أميركي -المترجم-] واحدا، نمتلك تشابهات إثنوغرافية ملحوظة، من المكسيك حتى مضايق ماجلان. وهكذا وفي محاولة للتخلص من كل أشكال النزعة الإقليمية الضيقة الأفق، اقترحت شرب نخب البيرو وأمريكا موحدة» (Motorcycle Diaries, p.135)
بداية الاستيقاظ
كانت هذه الجولة بداية رحلة طويلة فتحت عينه شيئا فشيئا على حقيقة العالم الذي يعيش فيه. دخل، للمرة الأولى في حياته، في علاقة مباشرة مع جماهير القارة المفقرة والمضطهدة. رأى أساسا الظروف البئيسة التي يعيش فيها أغلبية جماهير الشعب. وجود هذا الفقر المدقع بالرغم من كل الثروات الطبيعية والجمال الذي تحتوي عليه هذه القارة الرائعة ترك أثرا عميقا في عقله الشاب.
لقد حركت هذه التناقضات طبيعته العاطفية والحساسة ودفعته إلى البحث في أسبابها. لقد كان تشي يتمتع دائما بعقلية حادة ومنقبة. نفس ذلك الحماس الذهني الذي أبان عنه في دراسته للطب انتقل الآن إلى دراسة المجتمع. لقد تركت التجارب والملاحظات التي اكتسبها خلال هذه الرحلات تأثيرا دائما على وعيه.
فجأة صارت كل طموحاته السابقة إلى الارتقاء الشخصي مجرد أمور تافهة وعديمة الأهمية. إذ أن الطبيب يمكنه أن يعالج مريضا واحدا، لكن من يمكنه أن يعالج مرض الفقر والأمية والتشرد والاضطهاد؟ لا يمكن للمرء أن يعالج داء السرطان بحبة الأسبرين، كما لا يمكن للمرء أن يعالج العلل الكامنة للمجتمع بالمسكنات وأنصاف الحلول.
شيئا فشيئا بدأت تنضج وتتطور الأفكار الثورية في ذهن هذا الشاب. لم يصر فورا مناضلا ماركسيا. لقد فكر طويلا وعميقا وقرأ بنهم: وهي العادة التي لم تفارقه طيلة حياته. بدأ يدرس الماركسية. تدريجيا، بشكل غير ملحوظ، لكن بشكل حتمي، صار مقتنعا أنه لا يمكن حل مشاكل الجماهير إلا بالطرق الثورية.
غواتيمالا
عرف تحوله إلى الوعي الماركسي دفعة حاسمة عندما ذهب إلى غواتيمالا للتعرف على الإصلاحات التي طبقها هناك الرئيس خاكوبو أربينيث غوثمات. خلال شهر دجنبر من سنة 1953 وصل تشي إلى غواتيمالا عندما كان غوثمان يترأس حكومة إصلاحية، تحاول انجاز إصلاح زراعي والقضاء على نظام اللاتيفونديات.
حتى قبل وصوله إلى غواتيمالا كان غيفارا قد صار ثوريا مقتنعا، بالرغم من أن نظرته كانت لا تزال في طور التشكل. يتبين هذا من خلال الرسالة التي كتبها في كوسطا ريكا، يوم 10 دجنبر 1953، والتي يقول فيها: “En Guatemala me perfeccionaré y lograré lo que me falta para ser un revolucionario auténtico” (“في غواتيمالا سأطور نفسي وسأكتسب كل شيء لا زال ينقصني لكي أصير ثوريا حقيقيا”: غيفارا لينش، أرنيستو.) Aquí va un soldado de América. Barcelona: Plaza y Janés Editores, S.A., 2000, p. 26
لكن شركة United Fruit Company ووكالة المخابرات الأمريكية كانت لديهما أفكار أخرى. فقد نظما محاولة انقلاب قادها كارلوس كاستيلو أرماس، بدعم من القوات الجوية الأمريكية. فالتحق غيفارا فورا بميليشيا نظمتها الشبيبة الشيوعية، لكنه أصيب بالإحباط من لا فعالية المجموعة. بعد الانقلاب بدأت حملة الاعتقالات فاضطر تشي إلى البحث عن ملجأ له في قنصلية الأرجنتين حيث بقي إلى حين حصوله على ترخيص مرور-آمن. فقرر عندها الذهاب إلى المكسيك.
تجربته مع الانقلاب الممول من طرف الأمريكيين ضد آربينيث رسخت لديه أفكاره وقادته إلى تكوين بعض الخلاصات. فقد ركزت فكر تشي غيفارا على الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، كقوة إمبريالية هي حصن كل القوى الرجعية في القارة. وأية حكومة تحاول تغيير المجتمع ستواجه حتما معارضة شديدة من عدو قوي وقاس.
بعد انتصار الانقلاب الموجه من طرف وكالة المخابرات الأمريكية، وجد تشي نفسه مجبرا على الهروب إلى المكسيك، حيث التقى، سنة 1956، بالحركة الثورية 26 يوليوز التي يقودها فيديل كاسترو، والتي كانت منخرطة في صراع شرس ضد دكتاتورية الجنرال فولخينشيو باتيستا في كوبا. منذ لقائهما الأول نسج الرجلان علاقة راسخة بينهما. كان كاسترو في حاجة إلى رجال يمكن الاعتماد عليهم وكان تشي في حاجة إلى منظمة وقضية يناضل من أجلها.
كان تشي قد رأى بأم عينيه العجز المطلق الذي تعاني منه الإصلاحية ورسخ هذا لديه القناعة بأنه لا يمكن تحقيق الاشتراكية سوى بالكفاح المسلح. وصل إلى مدينة مكسيكو خلال بدايات شهر شتنبر من سنة 1954، ودخل في علاقة مع بعض المنفيين الكوبيين الذين كان قد التقاهم في غواتيمالا. خلال شهر يونيو 1955، التقى أولا براؤول كاسترو، بعدها التقى أخاه فيديل، الذي كان قد استفاد من عفو وأطلق سراحه من سجن في كوبا، حيث كان معتقلا بعد فشل عملية الهجوم على ثكنات المونكادا.
التحق تشي فورا بحركة 26 يوليوز التي كانت تخطط لإسقاط دكتاتورية فولخينشيو باتيستا. في البداية كان من المفترض أن يلعب تشي دور الطبيب داخل الحركة. فصحته العليلة (عانى من الربو طيلة حياته) لم تكن تؤهله ليكون محاربا. إلا أنه بالرغم من ذلك شارك في التداريب العسكرية جنبا إلى جنب مع باقي أعضاء الحركة، وأبان عن جدارته.
غرانما
يوم 25 نوفمبر من سنة 1956، انطلق المركب غرانما من مرفأ توكسبان فيراكروس متجها نحو كوبا، وعلى متنه العديد من الثوريين. كان الغرانما مركبا قديما وكان يحمل عددا أكبر بكثير من قدرته. كان يمخر العباب وهو على وشك الغرق وسط الطقس العاصف الذي أصاب العديد من الركاب بدوار رهيب. لكن كل هذا لم يكن سوى بداية مشاكلهم.
كادت الحملة أن تفشل من بدايتها. رسوا في المكان الخطأ ووقعوا في مستنقعات. هاجمتهم القوات الحكومية مباشرة بعد نزولهم، وقتل حوالي نصف الثوار أو أعدموا بعد إلقاء القبض عليهم. لم ينج سوى مابين 15 و20 مقاتلا. وقد تمكنت هذه القوات المسحوقة والمنهكة، بطريقة ما، من إعادة التجمع والفرار إلى جبال سييرا ماسترا حيث شنوا حرب عصابات ضد دكتاتورية باتيستا.
بالرغم من الانتكاسة التي تعرضوا لها في البداية، وجه الثوار ضربة شجاعة خلفت صدى لها في قلوب وعقول الجماهير والشباب على وجه الخصوص. فالتحقت بهم قوات جديدة لملء صفوفهم المنهكة. امتدت حرب العصابات على طول شرق كوبا. كان تشي قد التحق بالحركة كطبيب، لكن خلال المعركة كان عليه أن يحسم فيما إذا كان سيخدم القضية بشكل أفضل كطبيب أم كمقاتل. ولقد قرر:
«ربما كانت تلك المرة الأولى التي واجهت اللغز بعبارة عملية، هل سأكرس نفسي للطب أو لواجبي كجندي ثوري. انتصبت أمامي حقيبة طبية مليئة بالأدوية وصندوق رصاص، وكان الصندوقان أثقل من أن يحملا معا، أخذت صندوق الرصاص وتركت الحقيبة…»
(Quizás esa fue la primera vez que tuve planteado prácticamente ante mí el dilema de mi dedicación a la medicina o a mi deber de soldado revolucionario. Tenía delante de mí una mochila llena de medicamentos y una caja de balas, las dos eran mucho peso para transportarlas juntas; tomé la caja de balas, dejando la mochila….”)
كانت قوة حركة التمرد تلك تكمن أساسا في الضعف الكبير الذي كان يعانيه النظام القديم، الذي كان قد تعفن كليا باستشراء الفساد فيه وانحطاطه. كان نظام باتيستا، بالرغم من كل الدعم والأموال والأسلحة التي كانت الولايات المتحدة تمده بها، عاجزا عن وقف تقدم الثورة. جنوده كانوا غير راغبين في المخاطرة بحياتهم للدفاع عن نظام محتضر. الجيش وبعد إضعافه وضرب معنوياته، بسبب تعرضه لسلسلة من الهزائم في مرتفعات السييرا ماسترا، غويسا وكاوطو، كان قد صار منحط المعنويات عندما تم شن الهجوم الأخير.
صار تشي خلال هذه الحملة يحتل منصب Comandante (قائد)، ونال الشهرة بفضل شجاعته وإقدامه ومهاراته الحربية. صار الآن الرجل الثاني بعد فيديل كاسترو. خلال الأيام الأخيرة من شهر دجنبر 1958، سار القائد غيفارا وكتيبة المقاتلين الذين تحت إمرته شرقا من أجل القيام بالهجوم الأخير على هافانا. تكلفت هذه الكتيبة بالقيام بأخطر المهام خلال الهجوم الحاسم على سانتا كلارا. وقد أشار كاسترو في خطاب له ألقاه في بالما سوريانو، يوم 27 دجنبر 1983، إلى أهمية هذا الهجوم قائلا:
«أقمنا خطوطنا الدفاعية على نهر كاوتييو. كنا قد حاصرنا مابوس، لكن كانت بالما لا تزال خارج سيطرتنا. كان هناك حوالي 300 جندي من قوات العدو. كان علينا أن نستولي على بالما. كنا مهتمين أيضا بالاستيلاء على الأسلحة التي كانت موجودة في بالما، لأننا عندما غادرنا لا بلاتا، في سييرا ماسترا، بسبب الهجوم الأخير، تركنا هناك 25 جنديا مسلحا و1000 ملتحق غير مسلح. سلحنا تلك القوات خلال الحرب. سلحناهم خلال المواجهات، لكننا لم نكمل تسليحهم كليا بالفعل إلا في بالما.»
صدرت الأوامر الأخيرة إلى جيش المتمردين من بالما يوم الفاتح من يناير 1959. لكن الضربة الأخيرة التي قضت على الدكتاتورية كانت هي الإضراب العام الذي نظمه عمال هافانا. البنيان كله انهار كبيت من الورق. كان جنرالات باتيستا يحاولون التفاوض للوصول إلى اتفاقية سلام مع المتمردين من وراء ظهر باتيستا. وعندما علم الدكتاتور بهذا، استوعب أن اللعبة انتهت وفر إلى جمهورية الدومينيكان خلال اليوم الأول من سنة 1959.
في السلطة
تم تحطيم الدولة البورجوازية القديمة وتشكيل سلطة جديدة، بطريقة مرتجلة في الواقع، على أساس جيش المغاوير. انتقلت السلطة الآن إلى أيدي جيش المغاوير. لقد سعد الماركسيون في جميع أنحاء العالم بانتصار الثورة الكوبية. لقد شكلت ضربة قوية للإمبريالية والرأسمالية والملكية العقارية على أعتاب أقوى دولة امبريالية في التاريخ. لقد أعطت أملا للجماهير المضطهدة في كل مكان. إلا أن الطريقة التي تحققت من خلالها كانت مختلفة عن ثورة أكتوبر 1917 الروسية. فلم تكن هناك سوفييتات، والطبقة العاملة، بالرغم من أنها أمنت النصر النهائي للثورة عبر إضراب عام، لم تلعب دورا قياديا.
هناك من سيقول أن هذا الكلام لا معنى له، وأن كل ثورة مختلفة عن الثورات الأخرى، وأنه لا يمكن أن يكون هناك نموذج يمكن تطبيقه على جميع الحالات، وهكذا دواليك. هذا صحيح إلى حد ما. فكل ثورة لديها ملامحها الخاصة ومميزاتها التي ترتبط بالظروف الملموسة المختلفة، بموازين القوى بين الطبقات والتاريخ والتقاليد الخاصة بكل بلد على حدة. لكن هذه الملاحظة لا تحسم المسألة.
“دكتاتورية البروليتاريا”
لقد وضح ماركس أنه لا يمكن للعمال أن يكتفوا بالاستيلاء على جهاز الدولة القديم واستخدامه من أجل تغيير المجتمع. لقد طور نظريته عن السلطة العمالية في كتابه: الحرب الأهلية في فرنسا: رسالة إلى المجلس العام للجمعية الأممية للعمال، 1871. ما هو جوهر هذه النظرية؟ شرح ماركس أنه لا يمكن للدولة القديمة أن تعمل كوسيلة لتغيير المجتمع. يجب تحطيمها واستبدالها بسلطة دولة جديدة، دولة عمالية، ستكون مختلفة بشكل مطلق عن آلة الدولة القديمة، أي عن « سلطة الدولة الممركزة، مع أجهزتها المنتشرة في كل مكان والقائمة على مبدأ تقسيم العمل تقسيما منتظما وهرميا، مع الجيش الدائم والشرطة والبيروقراطية ورجال الدين والهيئة القضائية». ستكون تلك الدولة الجديدة، على حد تعبير ماركس، شبه دولة تسير نحو اضمحلالها:
«تشكلت الكومونة من أعضاء المجالس البلدية الذين اختيروا بالاقتراع العام في مختلف دوائر باريس. كانوا مسئولين وكان من الممكن إلغاء التفويض الممنوح لهم في أي وقت. كانت أغلبية أعضائها، بطبيعة الحال، من العمال أو من ممثلي الطبقة العاملة المعترف بهم. كان يراد للكومونة أن تكون، ليس هيئة برلمانية، بل هيئة عاملة تتمتع بالسلطتين التشريعية والتنفيذية في الوقت نفسه.
«وبدل أن تضل الشرطة أداة في يد الحكومة المركزية، تم تجريدها في الحال من جميع وظائفها السياسية وتحولت إلى هيئة للكومونة مسئولة ويمكن عزلها في كل حين. وعلى هذا النحو كان مسئولو سائر فروع الإدارة بأسرها، ومن فوق إلى أسفل، ابتداء من أعضاء الكومونة، كان يتعين أداء الخدمة العامة لقاء أجرة تساوي أجرة العامل. وقد اختفت جميع الامتيازات والعلاوات التي كان يتقاضاها كبار موظفي الدولة مع اختفاء هؤلاء الموظفين. وكفت الوظائف العامة عن أن تكون ملكا خاصا للموظفين الذين تعينهم الحكومة المركزية. وانتقلت إلى أيدي الكومونة لا إدارة البلدية فحسب، بل أيضا كامل المبادرة التي كانت تمارسها الدولة حتى ذلك الحين.
«وبعد أن أزالت الكومونة الجيش الدائم والشرطة، وهما أداتا الحكم المادي في يد الحكومة القديمة، أخذت في الحال تكسر أداة الاستعباد الروحي، “قوة الكهنة”، وذلك بفصل الكنيسة عن الدولة ومصادرة جميع الكنائس لكونها هيئات تملك الأموال. وتعين على رجال الدين أن يعودوا إلى حياة متواضعة كأفراد بسطاء يعيشون مثل أسلافهم – الرسل، على صدقات المؤمنين.» (ماركس: الحرب الأهلية في فرنسا، الرسالة الثالثة، ماي 1871 [كومونة باريس])
ليس لهذا أية علاقة إطلاقا مع النظام البيروقراطي الكلياني الذي ساد في روسيا الستالينية حيث كانت الدولة سلطة قمعية رهيبة تقف فوق المجتمع. حتى كلمة “دكتاتورية” كان لها في زمن ماركس معنى مختلف تماما عن المعنى الذي تحتويه اليوم. فبعد تجارب ستالين وهتلر وموسوليني وفرانكو وبينوتشي صارت الكلمة تعني معسكرات الاعتقال، الغستابو والكا جي بي. لكن ماركس كان يقصد في الحقيقة دكتاتورية جمهورية روما، حيث كانت آليات الديمقراطية المعتادة تلغى مؤقتا خلال حالات الطوارئ (زمن الحرب عادة) ويعطى الحكم مؤقتا لدكتاتور يتمتع بسلطات استثنائية.
لقد كانت كومونة باريس أبعد ما تكون عن وحش كلياني، كانت شكلا جد ديمقراطي للحكومة الشعبية. لقد كانت دولة مبنية لكي تنتهي بالزوال، كانت شبه دولة على حد تعبير إنجلز. لقد بنا لينين والبلاشفة الدولة السوفييتية بعد ثورة أكتوبر على أساس نفس النموذج. مارس العمال السلطة عبر مجالس السوفييتات، التي كانت أكثر أجهزة التمثيلية الشعبية ديمقراطية على الإطلاق.
تمتع العمال بالحقوق الديمقراطية بالرغم من ظروف التخلف الرهيب الذي كانت تعرفه روسيا. ولقد أكد برنامج الحزب سنة 1919 على: « يجب إقناع كل فئات الجماهير العاملة، بدون استثناء، بالمشاركة في مهمة تسيير الدولة». كانت إدارة الاقتصاد المخطط موضوعة أساسا بين أيدي النقابات. وقد تمت ترجمة هذه الوثيقة فورا إلى جميع لغات العالم الرئيسية وتم توزيعها على أوسع نطاق. إلا أنه خلال تطهيرات 1936 صار ينظر إليها كوثيقة خطيرة وصودرت جميع نسخها من كل المكتبات وأكشاك بيع الكتب في الاتحاد السوفييتي.
جميع الثورات التي لا تلعب فيها الطبقة العاملة الدور القيادي، بل تلعب قوى أخرى هذا الدور، تظهر فيها بشكل حتمي مجموعة من المميزات. هناك دائما ميل لدى الدولة إلى أن ترتفع فوق بقية المجتمع ويمكن حتى لأشد الناس إخلاصا أن يتعرضوا، في ظل شروط معينة، للإفساد أو فقدان العلاقة مع الجماهير. هذا هو السبب الذي جعل لينين يصوغ شروطه الأربعة الشهيرة للسلطة العمالية:
- انتخابات حرة وديمقراطية لجميع المسئولين مع الحق في عزلهم.
- ليس من حق أي مسئول أن يتقاضى أجرة أعلى من أجرة عامل مؤهل.
- لا للجيش الدائم بل الشعب المسلح.
- تدريجيا يمارس الجميع بالتناوب كل مهمات تسيير المجتمع (عندما يصير الجميع بيروقراطيا لا يبقى هناك بيروقراطي).
لم تكن هذه الشروط نزوة أو فكرة متعسفة اخترعها لينين. إذ في ظل اقتصاد مؤمم مخطط من الضرورة المطلقة ضمان أقصى أشكال المشاركة الجماهيرية في تسيير الصناعة والمجتمع والدولة. بدون هذا الشرط سيكون هناك حتما ميل نحو البيروقراطية والفساد وسوء الإدارة، التي يمكنها أن تؤدي في النهاية إلى تلغيم أسس الاقتصاد المخطط وتدميره من الداخل. هذا هو ما حدث بالضبط للاتحاد السوفييتي. لقد كان للنقاط التي أشار إليها لينين تأثير هام على الأحداث في كوبا وعلى تطور تشي.
وزير ثوري
احتل تشي العديد من المناصب في الحكومة الثورية. اشتغل في المعهد الوطني للإصلاح الزراعي، وكان رئيسا لبنك كوبا الوطني، حيث وقع الأوراق النقدية باسمه المستعار “Che”. خلال كل هذا الوقت كان غيفارا يرفض تلقي الأجور مقابل هذه المهام مكتفيا فقط بأجرته الهزيلة كقائد في الجيش.
هذا الملاحظة الصغيرة تخبرنا بالكثير حول هذا الرجل. لقد أكد أنه يقوم بهذا لكي يعطي “مثالا ثوريا”. إنه كان في الواقع يطبق حرفيا المبدأ الذي سطره لينين في الدولة والثورة بأنه لا يجب على أي موظف في الدولة السوفييتية أن يتلقى أجرا أعلى من أجرة عامل مؤهل. لقد كان هذا إجراءا مضادا للبيروقراطية. كان لينين، مثله في ذلك مثل ماركس، واعيا أشد الوعي بمخاطر قيام جهاز الدولة برفع نفسه فوق المجتمع وأكد على أن هذا الخطر موجود حتى في الدولة العمالية.
عمل لينين، آخذا كمنطلق له تحاليل ماركس وإنجلز لكومونة باريس، على وضع أربعة نقاط أساسية للنضال ضد البيروقراطية في الدولة العمالية سنة 1917.
«ولسوف نقلل من دور موظفي الدولة إلى مجرد تنفيذ تعليماتنا باعتبارهم ملاحظين ومحاسبين مسئولين قابلين للعزل ويتقاضون أجورا متواضعة (ويتم هذا بالطبع بالاستعانة بكافة الفنيين على اختلاف أنواعهم وأشكالهم ودرجاتهم). هذه هي مهمتنا البروليتارية، هذا ما يمكننا ويجب علينا أن نبدأ به عند القيام بالثورة البروليتارية.» (LCW, Vol. 25, p. 431.)
خلال الأشهر الأخيرة من حكم السوفييتات كان أجر مفوضي الشعب (بمن فيهم لينين نفسه) يساوي فقط ضعفي الحد الأدنى للأجور التي يتلقاها المواطن السوفييتي العادي. خلال السنوات اللاحقة غالبا ما كانت الأسعار وقيمة الروبل تتغير بسرعة وتبعا لها كانت تتغير الأجور. لكن حتى في ظل هذه الظروف كان لينين يصر على ألا يتجاوز الفرق بين أدنى أجر وأعلى أجر في أجهزة الدولة الحد المثبت، وطيلة حياته لم يتجاوز الفرق أبدا معدل 1 إلى 5.
في ظل ظروف التخلف، كان من الطبيعي أن يتم اللجوء إلى العديد من الاستثناءات التي كانت تشكل تراجعا عن مبادئ كومونة باريس. من أجل إقناع “الاختصاصيين البورجوازيين”(spetsy) بالعمل من أجل الدولة السوفييتية، كان من الضروري إعطائهم أجورا كبيرة جدا. كانت مثل تلك الإجراءات ضرورية إلى حين تتمكن الطبقة العاملة من خلق انتلجينسيا خاصة بها. إضافة إلى ذلك كان بعض العمال يتقاضون أجورا استثنائية مقابل بعض أنواع الوظائف في المصانع والمكاتب وهلم جرا.
إلا أنه بالرغم من ذلك، لم تكن هذه التنازلات تقدم للشيوعيين. لقد كانوا ممنوعين بحزم من تلقي أجر أكبر من أجر عامل مؤهل. وكان عليهم أن يقدموا للحزب أي مدخول آخر يتلقونه فوق هذا الأجر. كان رئيس مجلس ممثلي الشعب يتلقى 500 روبل، أي نفس الأجر الذي يتلقاه عامل مؤهل. وعندما قام مدير مجلس ممثلي الشعب، ف. د. بونش بروفيتش، بإعطاء لينين أجرا أكبر من أجره العادي، شهر ماي 1918، تعرض لتوبيخ شديد من طرف لينين، الذي وصف هذه الزيادة بـ “الغير مشروعة”.
بسبب العزلة التي عانت منها الثورة، والحاجة إلى تشغيل المختصين والتقنيين البورجوازيين تم الرفع من أجورهم، صار بإمكانهم الحصول على أجر أعلى بـ 50 % من الأجر الذي كان أعضاء الحكومة يتلقونه. وقد أدان لينين هذا الإجراء باعتباره “تنازلا بورجوازيا” يجب التراجع عنه بأسرع وقت ممكن.
تشي غيفارا لم يتبنى هذا المبدأ الثوري نظريا فقط، بل تبناه عمليا أيضا.
تشي ضد الستالينية
لقد كان تشي غيفارا ثوريا بالغريزة. كان شخصا لا يمكن إفساده وكان يمقت البيروقراطية والوصولية والامتيازات. لقد كان رمز أخلاق المناضل الثوري الصارمة والطاهرة. ومن ثم فإنه وقف ضد مظاهر البيروقراطية والفساد التي لاحظ وجودها بعد انتصار الثورة.
طالما عبر تشي عن أفكار معارضة للمواقف الرسمية للحزب الشيوعي والاتحاد السوفييتي في ظل نيكيتا خروتشيف. كان معارضا لـ “نظرية” التعايش السلمي. ولم يكن يحب الخنوع الذي كان يبديه بعض الكوبيين اتجاه موسكو وإيديولوجيتها. وقد عارض، قبل كل شيء، البيروقراطية والوصولية والامتيازات. زياراته إلى روسيا وأوروبا الشرقية صدمته وعمقت من حسمه مع الأوهام حول الستالينية. لقد مقت بكل ذرة من كيانه البيروقراطية والامتيازات ونزعة التماثل الخانقة.
صار أكثر فأكثر حدة في نقد الاتحاد السوفييتي وقادته. وهذا ما جعله يولي دعمه في البداية للصين أثناء الصراع الصيني السوفييتي. لكن سيكون من باب التجني عليه وصفه بالماوي. ليس هنالك أي سبب للاعتقاد بأنه كان سيشعر بفرق كبير بين صين ماو وروسيا خروتشيف. السبب الذي جعله يميل نحو الصين كان هو أن الصينيين انتقدوا قرار موسكو بإزالة الصواريخ السوفييتية من كوبا، وهو القرار الذي اعتبره تشي خيانة.
من المستحيل الوصول إلى تصنيف دقيق لتشي غيفارا. لقد كان شخصا عصيا على التصنيفات، كان عقلا خصبا دائم البحث عن الحقيقة. كانت الدوغمائيات الستالينية هي النفي المطلق لطريقته في التفكير. كان يمقت الذل والتماثل البيروقراطي كما يمقت الامتيازات من كل نوع. كان هذا يجعله موضع شك من طرف القادة “الشيوعيين” في أوروبا والكتلة السوفييتية عندما كان يزورهم. وقد كان قادة الحزب الشيوعي الفرنسي الستالينيون معادين له عمليا بل وشنوا ضده حملة من الافتراءات واصفينه بـ “المغامر البورجوازي الصغير”.
وزير الصناعات
اشتغل غيفارا فيما بعد وزيرا للصناعات، وهو المنصب الذي واجه فيه مشاكل بناء اقتصاد اشتراكي مخطط في ظل الظروف الصعبة التي كانت تواجه الثورة الكوبية. لقد اشتغل صديقي ورفيقي العزيز، المناضل التروتسكي الكوبي المخضرم، ليون فيريرا، إلى جانب تشي في الوزارة وخاض العديد من النقاشات معه حول تروتسكي والتروتسكية. أعطاه كتب تروتسكي لقراءتها وقد أبدى بعض الاهتمام بها. لكن كانت هناك نقطة واحدة لم يكن يستطيع فهمها، حيث قال: « لقد كتب تروتسكي الشيء الكثير عن البيروقراطية، لكن ماذا يعني هذا». شرح له ليون بأفضل ما يستطيع وبعد هنيهة قال تشي: « نعم أعتقد أنني أفهم ما تقصده.»
في اليوم الموالي كان تشي وليون معا يقطعان قصب السكر في الحقول. وفي خضم هذا العمل الشاق، رأى ليون سيارة سوداء فخمة تتقدم ببطء عبر الحقل. استدار إلى تشي وقال له: « أيها القائد، يبدو أن لديك زائرا». رفع تشي رأسه مندهشا ورأى الليموزين. فابتسم تشي وقال لليون: “ها أنت سترى ذلك الآن!”
توقفت السيارة وخرج منها مسئول أنيق الملبس يرتدي بذلة وربطة عنق وبدأ يسير نحو تشي. لكن وقبل أن يفتح فمه، صرخ تشي في وجهه قائلا: “ماذا تفعل هنا؟ إذهب! لا نريد أي بيروقراطي هنا!” استدار الموظف على عقبيه وسار نحو السيارة بينما استدار تشي نحو ليون قائلا بابتسامة ظافرة: “أرأيت!”
عندما تعرض التروتسكيون الكوبيون للاعتقال تدخل تشي شخصيا لضمان إطلاق سراحهم. (قال لاحقا أن ذلك كان خطأ) كما اقترح دراسة كتابات ليون تروتسكي، التي كان يعتبرها كتابات ماركسية أرثوذوكسية. هذا الموقف مناقض جدا لموقف أتباع ماو تسي تونغ الذين وصفوا تروتسكي كرجعي وعدو للاشتراكية.
وقد عبر تشي عن هذه الأفكار في رسالته إلى أرماندو هارت دافالوس، التي نشرت بكوبا شهر شتنبر 1997، في العدد 9 من Contracorriente. كتبت هذه الرسالة بدار السلام، تنزانيا، يوم 4 دجنبر 1965، خلال حملة غيفارا الإفريقية. وقد عبر فيها عن نقد ذاتي لاذع فيما يتعلق بالفلسفة السوفييتية والذيلية الخانعة لبعض الكوبيين:
«خلال هذه العطلة الطويلة [!] عملت على دس أنفي في الفلسفة، وهو الشيء الذي كنت أنوي القيام به منذ مدة طويلة. لقد اصطدمت بأول الصعوبات عندما كنت في كوبا [حيث] لم ينشر هناك أي شيء ما عدا المجلدات السوفييتية [قال حرفيا “الطوب السوفييتي” los ladrillos soviéticos] التي تتميز بالقوالب التي لا تسمح لك بالتفكير، إذ أن الحزب قد فكر بدلا عنك وكل ما عليك فعله هو أن تبتلعها. من ناحية المنهج يعتبر هذا معاديا للماركسية بشكل مطلق، وهي إضافة إلى ذلك غالبا ما تكون مضرة جدا.»
«إذا ما ألقيت نظرة على المنشورات [في كوبا] ستجد وفرة الكتاب السوفييتيين والفرنسيين [يشير إلى الستالينيين الفرنسيين المتطرفين]. ويرجع هذا إلى السهولة التي يتم الحصول بها على الترجمات وأيضا إلى إيديولوجية الذيلية [seguidismo ideológico]. ليست هذه هي الطريقة التي يمكن من خلالها تقديم الثقافة الماركسية إلى الشعب. إن ذلك هو في أفضل الحالات دعاية ماركسية [divulgación marxista]، الشيء الذي يعتبر ضروريا، لو أنه كان يتم بجودة عالية (وهو الشيء المفقود)، لكنه غير كاف.»
اقترح مخططا مكثفا للتثقيف السياسي بما في ذلك دراسة الأعمال المختارة لماركس وإنجلز ولينين وستالين و« غيرهم من الماركسيين العظام. لا أحد سبق له أن قرأ أي شيء لروزا لكسمبورغ، على سبيل المثال، التي ارتكبت أخطاء في نقدها لماركس، لكنها ماتت، قتلت، وقدمت فهما للإمبريالية أفضل منا في حالات مشابهة. وينقص أيضا دراسة الماركسيين الذين انحرفوا لاحقا عن المسار، من قبيل كاوتسكي وهيلفرينغ (ليس هذا الاسم مكتوبا هكذا) [كان تشي يفكر في الماركسي النمساوي رودولف هيلفردينغ] الذين قدموا بعض الإسهامات، إضافة إلى العديد من الماركسيين المعاصرين الذين ليسوا لحد الآن سكولاستيكيين بشكل كامل.»
وأضاف مازحا «وصديقكم تروتسكي، الذي كان موجودا وكتب، ومن ثم يبدو أنه يجب أن تتم إضافته». لقد ازداد اهتمامه بأفكار تروتسكي بمقدار ما زادت معرفته بالأنظمة البيروقراطية التي كانت سائدة في روسيا وأوروبا الشرقية. كان تشي غيفارا قارئا نهما وأخذ العديد من الكتب معه في رحلته الأخيرة إلى بوليفيا. من جد المعبر أن يكون من بين تلك الكتب مؤلفات تروتسكي: الثورة الدائمة وتاريخ الثورة الروسية.
بالنظر إلى الظروف الشديدة الصعوبة لحرب العصابات في الجبال والغابات، لا يأخذ المقاتل معه سوى ما يعتبره شديد الأهمية بالنسبة إليه. هذا يوضح لنا بشكل كبير ما الذي كان تشي يفكر فيه آنذاك. ليس لدينا من شك في أنه لو عاش لكان تطور نحو التروتسكية ولقد كان في الواقع قد بدأ يسير في ذلك المسار قبل أن يستشهد.
الحملة ضد تشي
لقد شكلت ذكرى مرور أربعين سنة على اغتيال تشي غيفارا إشارة لبدأ حملة عارمة ضده. إن الهجوم على تشي لا يأتي دائما من اليمين. إذ هناك هجوم مستمر عليه من جانب الفوضويين والتحرريين وجميع أنواع “الديمقراطيين”. والانتقادات الأكثر إثارة للاشمئزاز بوجه خاص هي تلك التي تأتي من طرف ريجيس دوبريه، ذلك المرتد الحقير والجبان، الذي لعب دورا مشئوما جدا خلال حملة تشي الأخيرة في بوليفيا والذي صار إصلاحيا فيما بعد ومستشارا لميتران.
هناك أيضا “مثقفون” آخرون من أمثال جون لي أندرسون الذي ألف كتابا شهيرا عن تشي، وجورج كاستانيدا وأوكتافيو باث، الذين التحقوا بهذه الشرذمة من الأنذال والمرتدين الذين يتنافسون مع بعضهم البعض من أجل “إزالة الغموض” حول تشي غيفارا، أي من أجل تدنيس ذكراه. وقد تم دعم هذه الحملة الشائنة من الافتراءات من طرف العديد من قوى اليسار في أمريكا اللاتينية، وهو ماليس سوى تعبير آخر عن انحطاط الانتلجينسيا “الديمقراطية” خلال مرحلة انحطاط الرأسمالية.
يخبرنا الكاتب بول بيرمان أن “التقديس الحالي لشخص تشي” يخفي نشاط المنشقين وما يعتقد أنه “صراع اجتماعي عارم” يحدث حاليا في كوبا. هناك فعلا صراع اجتماعي عارم يجري في كوبا. إنه صراع بين الثورة والثورة المضادة: صراع بين هؤلاء الذين يريدون الدفاع عن مكتسبات الثورة الكوبية وهؤلاء الذين يريدون، تحت راية “الديمقراطية” المزيفة، أن يعودوا بكوبا إلى عبودية الرأسمالية، كما سبق أن حدث في روسيا. لا يمكن للمرء أن يكون محايدا اتجاه هذا الصراع، وقد وقف هؤلاء “المثقفون الديمقراطيون” بشكل واضح إلى جانب الردة الرأسمالية.
ومن بين هؤلاء الأنذال هناك الكاتب كريستوفر هيتشن، الذي كان في وقت ما يعتبر نفسه اشتراكيا ومساندا للثورة الكوبية، والذي غير الآن موقعه مثله في ذلك مثل العديد من أصدقاء نصف الطريق البورجوازيين الصغار. وقد كتب عن تراث تشي غيفارا قائلا: « لقد صار تحول تشي إلى أيقونة ممكنا بسبب فشله. لقد كانت قصته قصة هزيمة وعزلة وهذا هو السبب الذي يجعلها مثيرة. لكن لو عاش لكانت أسطورته قد ماتت منذ زمن بعيد.»
كلا يا صديقي، تشي غيفارا لم يمت بل هو حي وسيبقى مذكورا بعد زمن طويل من غرق جميع قبائل المنافقين البورجوازيين البائسين هؤلاء في غياهب النسيان. نعم لقد انهزم تشي، لكنه على الأقل كانت له الشجاعة لكي يحاول النضال، ومن الأفضل ألف مرة أن يناضل المرء وينهزم بشرف في ساحة المعركة دفاعا عن قضية عادلة من أن يكتفي بالثرثرة والتشكي والنواح على هامش التاريخ وعدم عمل أي شيء على الإطلاق.
مسألة العنف الثوري
أبرز تهمة توجه إلى تشي هي أنه كان مسئولا عن اندلاع موجة قمع لا داعي لها. ماذا تقول الوقائع بهذا الخصوص؟ بعد انتصار الثورة تم تكليف تشي غيفارا بمهمة “المدعي العام”، حيث أشرف على محاكمة وإعدام مئات من مجرمي الحرب التابعين لنظام باتيستا. وباعتباره قائدا لسجن لاكابانا، فإنه أشرف على محاكمة وإعدام ضباط نظام باتيستا البائد وأعضاء “مكتب قمع الأنشطة الشيوعية” (فرقة من البوليس السري، معروفة بالأحرف الأولى لاسمها بالإسبانية: BRAC). وهو ما أعطى المبرر لعاصفة من الهجمات المشئومة ضده من طرف أعداء الثورة. وقد شهدنا عاصفة من المقالات تحت عناوين تشير إلى تشي بكونه “سفاحا” الخ.
في كتابه عن تشي يقول لي أندرسون:
«طيلة شهر يناير، كان المشتبه فيهم بارتكاب جرائم حرب يعتقلون ويساقون كل يوم إلى لاكابانا. في غالب الأحيان لم يكن هؤلاء المعتقلون من كبار مسئولي النظام السابق، حيث أن أغلب هؤلاء الأخيرين كانوا قد فروا قبل أن يتمكن المتمردون من الاستيلاء على المدينة ويوقفوا الرحلات الجوية والبحرية، أو لجئوا إلى السفارات الأجنبية. أغلب هؤلاء الذين بقوا كانوا نوابا برلمانيين أو chivatos [مخبرين -م-] عاديين أو جلادين صغار. بدأت المحاكمة على الساعة الثامنة أو التاسعة مساءا، وفي كثير من الأحيان كان قرار المحكمة يصدر على الساعة الثانية أو الثالثة صباحا. دوكي دي إسترادا، الذي كانت مهمته جمع المعطيات والاستماع إلى الشهادات وتحضير المحاكمة، كان جالسا بدوره إلى جانب “المدعي الأعلى”، تشي، في منصة محكمة الاستئناف، حيث كان تشي يصدر القرار النهائي في مصير هؤلاء الرجال.» (المصدر: أندرسون جون لي، Che Guevara: A Revolutionary Life، نيويورك: 1997، Grove Press. ص. 386- 387)
قال خوسي فيلاسيسو، الذي كان وكيلا اشتغل تحت إمرة غيفارا، أن تلك المحاكمات كانت “غير عادلة” حيث “تم الحكم على الأفعال بدون أي اعتبار للمبادئ العامة للمحاكمة”. وصف فيلاسيسو مسلسل المحاكمات حيث “اعتبرت تصريحات ضابط التحقيق دليلا قاطعا على ارتكاب الجرائم” وحيث “تم تعيين أقرباء ضحايا النظام السابق لمحاكمة المتهمين.”
لقد سبق لسولون الأكبر، الذي كتب دستور أثينا والذي كان يعرف بعض الأشياء عن القوانين، أن قال ما يلي: “يشبه القانون شبكة العنكبوت: الصغار يعلقون فيها بينما الكبار يمزقونها”. ليس هناك أبدا من قانون أعلى من مصالح الطبقة التي تقف وراءه. يختفي البورجوازيون وراء ما يسمى بحياد القانون من أجل إخفاء دكتاتورية الأبناك والاحتكارات الكبرى. لكن عندما لا تبقى تلك القوانين متوافقة مع مصلحة الطبقة السائدة، تعمل هذه الأخيرة على وضعها جانبا وتمارس دكتاتوريتها بشكل سافر.
هؤلاء الذين أعدموا في لاكابانا كانوا، كما توضح ذلك الاستشهادات السابقة، كانوا مساندين شهيرين لدكتاتورية باتيستا التي عذب في ظلها وقتل العديد من الأشخاص بدون محاكمة، والمخبرين الذين كانوا يتجسسون على الشعب وكانوا مسئولين عن اعتقال الناس وتعذيبهم وموتهم، والجلادون أنفسهم. هؤلاء هم الأشخاص الذين تم تسليمهم إلى فرق الإعدام الثورية. هل من المفترض فينا أن نرفع أيدينا استنكارا؟ هل من المفترض فينا أن نصاب بالصدمة عندما تصفي الثورة الحساب مع أعدائها؟
نفس هؤلاء المنافقين البورجوازيين الصغار الذين يتذمرون من هذه الإعدامات هم الذين يدعمون “السلم والمصالحة” في أماكن من قبيل التشيلي والأرجنتين وجنوب إفريقيا. إنهم هم كتبة المسرحية البذيئة حول “لجان الحقيقة” حيث يلتقي القتلة والجلادون وجها لوجه بضحاياهم وبالأرامل والأيتام والناس الذين قاسوا من أشكال تعذيب لا توصف أو سنوات من السجن بسبب أفكارهم. والذين في ختام كل هذا من المفترض فيهم أن يتصالحوا و”يجنحوا للسلام”. نعم، لكن كم هؤلاء الذين “يرقدون في سلام” داخل قبور مجهولة أو في قعر النهر وأيديهم مغلولة؟
ليس هذا الذي يسمى بالسلم والمصالحة سوى خيانة فضيعة وما تسمى بلجان الحقيقة ليست سوى وسيلة للتهرب الجبان من الحقيقة: لأنه لا يمكن أن يكون هناك أي سلم ومصالحة بين القتلة والجلادين وبين ضحاياهم، الذين يصرخون من أجل العدالة حتى من أعماق قبورهم. إنه من غير المحتمل إطلاقا أن يسير قتلة وجلادون معروفون في شوارع سانتياغو وبوينس آيريس وجوهانسبورغ، وضحاياهم مجبرون على العيش وهم يعرفون ذلك. وفي اسبانيا انخرط الإصلاحيون والستالينيون في مسلسل الخداع الشائن الذي أطلقوا عليه اسم “الانتقال الديمقراطي”. نتيجة لذلك سمح للمجرمين الفاشستيين، المسئولين عن موت أكثر من مليون شخص، بالإفلات من العقاب. وهو الشيء الذي اعتبره الإصلاحيون في التشيلي وغيرها مثالا جيدا يحتذى به.
هل كان من الجيد السماح لبينوتشيه بالموت بسلام ميتة طبيعية فوق سريره؟ ألم يكن من الأفضل أن تتم محاكمة هذا السفاح من طرف أسر ضحاياه؟ سيقول المنافقون أن هذا سيكون خرقا لمبادئ العدالة! أما نحن فنرد: إنه ممارسة للعدالة الثورية الحقة! إن الدعوة إلى الحب والتوافق في خضم الصراع الطبقي شكل من أشكال الإجرام: لأنه دائما ما يكون الضعيف والعديم الحيلة هو المطالب بأن يظهر مشاعر الحب والتسامح، بينما يتخلص الغني وذوو النفوذ دائما من تبعات جرائمهم.
كان تشي غيفارا إنسانيا يشعر بحب عميق اتجاه الفقراء والمضطهدين، ونتيجة لذلك كان يشعر بحقد عميق اتجاه المضطهِدين والمستغِلين. وقد كتب قائلا:
«الحقد مكون من مكونات النضال، الحقد الجارف ضد العدو الذي يجبرنا على الوصول أبعد من الحدود الطبيعية للإنسان ويحولنا إلى آلات فعالة عنيفة مختارة تقتل بدم بارد. يجب على جنودنا أن يكونوا كذلك، إن الشعب الذي لا يشعر بالحقد لا يمكنه أن يهزم عدوا همجيا.»
هل هذه كلمات قاسية؟ نعم إنها كذلك، لكن الصراع الطبقي صراع قاس، ونتائج الهزيمة خلاله مشئومة للغاية. تقع كوبا على بعد 90 ميل فقط من أقوى دولة إمبريالية على هذا الكوكب. وبعد تلك الأحداث بوقت قصير، نظمت الإمبريالية الأمريكية عملية اجتياح ضد كوبا بمساعدة عملاء باتيستا هؤلاء الذين لم يتمكن تشي من إرسالهم إلى ساحة الإعدام.
نفاق الإمبريالية
هجمات أعداء الثورة يحركها الحقد والنفاق. على الثورة أن تدافع عن نفسها ضد أعدائها، لا سواء الداخليين منهم أو الخارجيين. لا يمكن أن نتوقع من الثورة، التي طبيعتها بالذات تقتضي القضاء على جميع القوانين القديمة والقواعد والضوابط البالية، أن تشتغل على أساس الشرعية البورجوازية. عليها أن تخلق قواعد جديدة وشرعية جديدة والقاعدة الوحيدة التي تعرفها الثورة هي تلك التي اكتشفها سيسرو قبل زمن بعيد:salus populi suprema lex est (خلاص الشعب هو القانون الأسمى). وبالنسبة للثوريين خلاص الثورة هو القانون الأسمى. ليست الفكرة القائلة بأنه على الثورة أن ترقص على أنغام الشرعية البورجوازية سوى غباء مطبق.
لقد شهد التاريخ العديد من الانتفاضات التي قام بها المظلومون المضطهَدون ضد أسيادهم. سجلات التاريخ البشري مليئة جدا بأمثلة عن ثورات العبيد المنهزمة وغيرها من المآسي المماثلة. نجد في جميع تلك الأمثلة أن العبيد انهزموا لأنهم لم يظهروا ما يكفي من الحزم وبالغوا في الليونة اتجاه أعدائهم والثقة فيهم، بينما كان هؤلاء الأخيرين دائما مستعدين لاستخدام أشد الأساليب همجية ودموية من أجل الحفاظ على سيطرتهم الطبقية.
التاريخ مليء بالأمثلة عن همجية الطبقة السائدة. فبعد هزيمة سبارتاكوس، قام الرومان بصلب آلاف العبيد على طول Via Apia. وسنة 1848، وعد الجنرال كافيناك العمال الثائرين بالعفو ليقوم بعد ذلك بذبحهم. البورجوازي تيير أقسم بالقانون وعمل على إعطاء جيشه الحرية المطلقة في ارتكاب المجازر. وبعد هزيمة كومونة باريس، نظم سفاحو قصر فرساي انتقاما رهيبا ضد بروليتاريا باريس. وفي هذا السياق كتب ليساغاراي، في كتابه تاريخ كومونة باريس 1871، ما يلي:
«استمرت المذابح الجماعية حتى اليوم الأول من شهر يونيو، واستمرت أحكام الإعدامات العاجلة حتى منتصف ذلك الشهر. لوقت طويل استمر حدوث المآسي في بوا دو بولون (Bois de Boulogne). أبدا لن تتم معرفة العدد الدقيق لضحايا ذلك الأسبوع الدامي. لقد أعترف رئيس المحكمة العسكرية برقم 17.000، دفع مجلس بلدية باريس تكاليف دفن 17.000 جثة. لكن عددا هائلا من الذين قتلوا خارج باريس تعرضت جثتهم للحرق. ليست هناك أية ذرة من المبالغة في القول بأن العدد كان على الأقل 20.000.»
«لقد شهدت العديد من ساحات المعارك عددا أكبر من القتلى، لكن هؤلاء على الأقل سقطوا في أتون المعركة. لم يشهد القرن مثل هذه المذبحة بعد انتهاء المعركة، ليس هناك من مثيل لها في تاريخ صراعاتنا المدنية. ليس يوم سان بارتولوميو، ويونيو 1848، والثاني من دجنبر، سوى حلقة في مسلسل مجازر شهر ماي. حتى أعظم سفاحي روما والأزمنة الحديثة يبدون ضعفاء أمام دوق ماجينتا. وحدها المجازر التي كان يرتكبها المنتصرون الآسيويون ومهرجانات داهومي من بإمكانها أن تعطينا فكرة عن سفاحي البروليتاريا هؤلاء.»
هناك العديد من الأمثلة الأكثر معاصرة. فبعد إسقاط حكومة أربينز المنتخبة ديمقراطيا، شن حكام غواتيمالا حرب تصفية دموية ضد شعبهم بمساعدة وكالة المخابرات الأمريكية. كما أن بينوتشي قتل وعذب الآلاف. وشهدت الأرجنتين مذابح أكبر في ظل الدكتاتورية العسكرية (Junta). وفيما يخص كوبا قتل عميل الأمريكان باتيستا وعذب عددا غير معروف من معارضيه.
كل هذه الوقائع مدونة في التاريخ. يزعم من يسمون أنفسهم بالديمقراطيين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنهم صدموا بالعنف الثوري الذي نظمته الثورة الكوبية ضد أعدائها، لكنهم هم نفس هؤلاء الذين يغضون الطرف عن جرائم الطغاة المعادين للثورة، أصدقاء الإمبريالية الأمريكية. ولسان حالهم يردد ما قاله الرئيس فرانكلين، د، روزفلت عن دكتاتور نيكاراغوا سوموزا: “إنه ابن عاهرة، لكنه ابن عاهرة تابع لنا.”
خليج الخنازير
تقارب البورجوازية مسألة العنف انطلاقا من وجهة نظر عملية وطبقية. وعلى الطبقة العاملة أن تقوم بنفس الشيء. إن الفكرة القائلة بأنه من الممكن إلحاق الهزيمة بالعدو الطبقي من خلال إعطائه دروسا في الأخلاق هي فكرة ساذجة وحمقاء. السبب الحقيقي وراء الصرخات الأخلاقية المنافقة المسعورة ضد الثورة الكوبية (والروسية) هو أن العبيد نهضوا أخيرا من أجل النضال ضد مالكي العبيد وانتصروا.
لم يكن لدى كاسترو في البداية منظور اشتراكي ولم يعمل على تأميم أي شيء. أما تشي فقد أصر من جانبه على ضرورة أن تكون الثورة الكوبية ثورة اشتراكية. وسرعان ما دخلت الثورة في مواجهة مع الإمبريالية الأمريكية، التي حاولت تخريب محاولات الثورة إنجاز إصلاح زراعي وغيره من الإجراءات الهادفة إلى تحسين مستويات عيش الجماهير. حاولت كبريات الشركات الأمريكية تخريب الاقتصاد الكوبي. فرد كاسترو بتأميم ممتلكات الولايات المتحدة داخل كوبا. لقد اجتازت الثورة الروبيكون [نهر إيطالي يرمز إلى الخط الفاصل – المترجم-]. عملت على مصادرة ممتلكات كبار مالكي الأرض والرأسماليين ودخلت آنذاك في مواجهة مع واشنطن.
لقد شكل ذلك تأكيدا تاما لنظرية تروتسكي: الثورة الدائمة، وهي النظرية التي حازت الاهتمام العظيم من جانب تشي إلى درجة أنه أخذ معه نسخة من ذلك الكتاب في رحلته الأخيرة إلى بوليفيا. يشرح تروتسكي أنه في ظل الأوضاع المعاصرة لا يمكن إنجاز مهام الثورة البورجوازية الديمقراطية في البلدان المستعمرة والشبه المستعمرة، من طرف بورجوازية تلك البلدان، بل فقط من خلال قيام البروليتاريا بمصادرة ممتلكات كبار مالكي الأرض والرأسماليين والشروع في التحويل الاشتراكي للمجتمع.
رد “الديمقراطيون” الإمبرياليون بتنظيم اجتياح لكوبا. تم تسليح المرتزقة الكوبيين وتدريبهم على يد وكالة المخابرات الأمريكية ووجهوا لإسقاط الحكومة بالعنف. دافعت الثورة عن نفسها من خلال تعبئة وتسليح العمال والفلاحين. تعرضت القوات الإمبريالية للهزيمة في خليج الخنازير، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تتعرض فيها الإمبريالية لهزيمة عسكرية في أمريكا اللاتينية. وخرجت الثورة منتصرة.
ما الذي كان الرجعيون سيعملون لو أنهم تمكنوا من استعادة السلطة آنذاك؟ هل كانوا سيدعون العمال والفلاحين الكوبيين للالتحاق بهم للاحتفال بالحب الأخوي والمصالحة؟ هل كانوا سيشكلون لجنة للحقيقة ويستدعون تشي وفيديل للمشاركة فيها؟ لم يكونوا ليملئوا سجن لاكابانا وحده، بل مئات السجون بضحاياهم. فقط أعمى البصيرة من يعجز عن فهم هذا الواقع. لكن ليس هناك من عميان أكثر من هؤلاء الذين لا يرون شيئا.
تشي والثورة العالمية
كانت الثورة الكوبية في خطر. كيف كان من الممكن إنقاذها؟ لقد كان تشي غيفارا هو من يمتلك الإجابة الصحيحة وكان يسير في الاتجاه الصحيح، قبل أن يتعرض للقتل بطريقة وحشية. لقد كان معارضا بشكل جذري للبيروقراطية والفساد والامتيازات، التي تعتبر اليوم أكبر تهديد للثورة الكوبية، والتي، إذا لم يتم تصحيح الوضع، ستعبد الطريق أمام إعادة الرأسمالية. لقد استوعب قبل كل شيء أن الطريق الوحيد لحماية الثورة الكوبية هو مد الثورة الاشتراكية إلى باقي أنحاء العالم، بدءا بأمريكا اللاتينية.
صارت خطاباته ضد البيروقراطية وانتقاداته للاتحاد السوفييتي تصبح أكثر فأكثر صراحة بقدر ما كان نفوذ الاتحاد السوفييتي يتزايد في كوبا. عموما كان له موقف مرتاب بشكل متزايد اتجاه الاتحاد السوفييتي. لقد اتهم علانية موسكو بخيانة الثورة في المستعمرات. خلال شهر فبراير 1965 قام تشي، في ما شكل آخر ظهور علني له على الساحة الدولية، بإلقاء خطاب في الملتقى الاقتصادي الثاني لمؤتمر التضامن الآفرو آسيوي الذي انعقد بالجزائر. وفي سياق خطابه أكد أنه:
«ليست هناك من حدود لهذا النضال حتى الموت. لا يمكننا أن نبقى غير مبالين أمام ما يحدث في أي جزء من العالم. إن أي انتصار يحققه أي بلد ضد الإمبريالية هو انتصار لنا جميعا، مثلما أية هزيمة لأي بلد هي هزيمة لنا جميعا.» وواصل قائلا: « على البلدان الاشتراكية واجب معنوي بإنهاء تواطئها الضمني مع البلدان الغربية الاستغلالية.»
كانت هذه إدانة صريحة لسياسة التعايش السلمي التي كانت تتبعها موسكو. لقد اعتبر أن سحب الصواريخ السوفييتية من الأراضي الكوبية، دون استشارة كاسترو، خيانة. ساند بحماس الشعب الفيتنامي في حربه التحررية ضد الإمبريالية الأمريكية. دعا الشعوب المضطهَدة في البلدان الأخرى إلى حمل السلاح من أجل خلق “100 فيتنام”. لقد أرعبت هذه التصريحات خروتشيف والبيروقراطية في موسكو.
شيئا فشيئا نضجت في ذهنه فكرة أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ الثورة الكوبية هي نشر الثورة على الصعيد العالمي. لقد كانت هذه الفكرة صحيحة بشكل جوهري. فعزلة الثورة الكوبية كانت أعظم خطر يهدد بقائها. لم يكن تشي بالرجل الذي يسمح ببقاء الفكرة على الورق، فقرر أن يترجمها على أرض الواقع. لقد غادر تشي كوبا سنة 1965 للمشاركة في النضال الثوري في إفريقيا. ذهب في البداية إلى الكونغو كينشاسا وقد بقي مكان وجوده سريا طيلة السنتين المقبلتين.
كتب تشي رسالة أعاد التأكيد فيها على تأييده للثورة الكوبية، إلا أنه أعلن رغبته في مغادرة كوبا من أجل القتال في الخارج في سبيل القضية الثورية. صرح أن “هناك بلدانا أخرى في العالم في حاجة إلى مجهوداتي المتواضعة”، وأنه من ثم قرر الذهاب والقتال كمحارب في “ساحات معارك أخرى”. ولكي لا يحرج الحكومة الكوبية ولا يمكّن الإمبريالية من مبرر لمهاجمة كوبا، أعلن استقالته من جميع مسئولياته في الحكومة والحزب والقوات المسلحة، وتخلى عن جنسيته الكوبية، التي منحت له سنة 1959اعترافا بجهوده لصالح الثورة.
“هذه قصة فشل”
كانت إفريقيا آنذاك تعيش حالة هيجان. تم طرد المستعمرين الفرنسيين من الجزائر وأُجبر الإمبرياليون البلجيكيون على مغادرة الكونغو. لكن الإمبرياليين كانوا ينظمون اعتداءات عنيفة بتعاون مع نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا والعناصر الرجعية في مختلف البلدان.كان الهدف من وراء تلك الاعتداءات هو السيطرة على ثروات إفريقيا الطبيعية الهائلة. لقد كانت إفريقيا تشكل أيضا أرض المعركة الرئيسية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية.
وصل تشي إلى خلاصة أن إفريقيا هي أفضل مكان لخوض القتال. كان بن بلا، الذي كان رئيسا للجزائر، قد خاض نقاشات مع غيفارا وقال: « لقد قاد الوضع السائد في إفريقيا، التي كانت تبدو أنها تمتلك إمكانيات ثورية هائلة، تشي إلى الاستنتاج بأن إفريقيا كانت هي أضعف حلقة في السلسلة الإمبريالية. وكانت إفريقيا هي المكان الذي قرر في الوقت الحالي أن يخصص له مجهوداته.»
في الكونغو المستقلة حديثا، كان الإمبرياليون البلجيكيون والفرنسيون قد نظموا حملة تخريب ضد حكومة باتريس لومومبا اليسارية، من خلال التسبب في فوضى من أجل تبرير التدخل العسكري. وعملت القوات الرجعية بقيادة موبوتو، بتعاون وثيق مع وكالة المخابرات الأمريكية، على اغتيال لومومبا واستولت على السلطة في ليوبولدفيل (كينشاسا). اندلعت حرب عصابات قادها أنصار لومومبا. وكان من المفترض أن تقاد العمليات الكوبية لمساندة المتمردين بقيادة لوران ديزيري كابيلا.
الغريب هو أن غيفارا، الذي كان يبلغ السابعة والثلاثين من عمره، لم يكن قد تلقى أي تدريب عسكري رسمي (مرض الربو الذي كان يعاني منه منعه من الالتحاق بالخدمة العسكرية في الأرجنتين) لكنه كان يمتلك الخبرات التي راكمها خلال الثورة الكوبية، وقد كانت كافية. نفس الشيء يقال عن تروتسكي، الذي لم يكن قد تلقى أي تدريب عسكري رسمي عندما شكل الجيش الأحمر، وبالرغم من ذلك تمكن الجنود الحمر، المسلحون بالحماس الثوري، من هزيمة جميع الجيوش الأجنبية التي هاجمتهم.
سبق لنابليون أن أشار، منذ زمن بعيد، إلى أن المعنويات هي دائما العامل الحاسم في الحرب. إلا أن تشي تخلص بسرعة من أوهامه حول حلفائه الكونغوليين. لم يكن يثق كثيرا بقدرات كابيلا. وقد كتب قائلا: “لا شيء يقودني لأعتقد أنه رجل الساعة.”. كان الثوار الروس والكوبيون يناضلون من أجل قضية يؤمنون بها. لكن النضال المعادي للإمبريالية في الكونغو كان مختلطا بالانقسامات القبلية والمطامح الشخصية والفساد. وقد تبين هذا من خلال الأحداث اللاحقة. خلال شهر ماي من سنة 1997، أسقط لوران كابيلا نظام موبوتو وأصبح رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد تصرف في هذا المنصب، الذي احتله حتى سنة اغتياله، 2001، كطاغية فاسد. ليخلفه، على مقعد الرئاسة، ابنه الفاسد مثله جوزيف كابيلا.
كانت وكالة المخابرات الأمريكية والمرتزقة الجنوب إفريقيين، إلى جانب قوات موبوتو، يعملون من أجل هزم المتمردين. وقد اكتشفوا سريعا أنهم يقاتلون عدوا جديا جدا، بالرغم من أنهم لم يكونوا يعلمون في البداية أن تشي كان حاضرا. إلا أن المخابرات الأمريكية حذرت الجنوب إفريقيين بوجوده. يتحدث تشي في يوميات الكونغو عن لا فعالية وغباء وعجز القوات الكونغولية المحلية عن خوض القتال. لقد كان هذا هو السبب الرئيسي وراء فشل الثورة. التي كانت ستنهزم بشكل أسرع لولا المساعدة الكوبية.
بعد سبعة أشهر من الإحباطات، والمعانات من مرض الربو واسهال المستنقعات (الدوسنتاريا) وتخلصه من الأوهام في حلفائه، غادر تشي الكونغو مع من تبقى من أعضاء قوته الأفروكوبية. فيما بعد، عندما كتب عن مهمته في الكونغو، قال بمرارة أن “هذه قصة فشل”.
بوليفيا
بعد فشل حملته في إفريقيا، قرر تشي محاولة فتح جبهة ثورية جديدة في أمريكا اللاتينية. يبدو أنه قرر اختيار بوليفيا بسبب موقعها الاستراتيجي، حيث تجاور عددا من البلدان الهامة، بما فيها الأرجنتين. تقمص شخصية رجل أعمال من الأوروغواي بنظارات سميكة ورأس أصلع. كان تنكره متقنا إلى درجة أن ابنته الصغيرة لم تتمكن من التعرف عليه عندما جاء لوداعها. إلا أنه لم يكن من الممكن خداع الإمبرياليين بهذه السهولة.
من الواضح أن تشي ارتكب خطئا عندما حاول تنظيم حرب عصابات في بوليفيا، البلد الذي يتوفر على طبقة عاملة قوية ذات تقاليد ثورية عظيمة. لقد أخطأ الحساب في عدة نواحي. لقد توقع أن يواجه فقط الجيش البوليفي السيئ التدريب والتجهيز. لكن الإمبرياليين، وكما سبق لنا أن أشرنا، كانوا قد تعلموا من الدرس الكوبي وكانوا مستعدين للقائه. حيث تعرضت فرقة المغاوير للهزيمة بعد إحدى عشر شهرا فقط من بدأ العملية وقتل تشي غيفارا. فقط خمسة أشخاص هم من تمكنوا من الفرار من الفخ الذي نصبه لهم الجيش البوليفي و”المستشارون” الأمريكيون.
تعتبر قراءة يوميات تشي غيفارا عن بوليفيا تجربة مؤثرة ومأساوية. المعاناة الجسدية والنفسية التي عرفتها تلك المجموعة الصغيرة من الرجال لا توصف. المصير النهائي الذي تعرضت له يحطم الفؤاد. لقد أقام قاعدته في الأدغال بمنطقة نانكاهوزو المرتفعة. لكن تبين أن تشكيل جيش عصابات في ظل تلك الظروف مسألة جد صعبة، كما توضح ذلك يوميات بوليفيا. إلا أن بدأ الثورة انطلاقا من أدغال بوليفيا كان مغامرة بلا أمل منذ البداية. العدد الإجمالي لقوة المغاوير كان حوالي خمسين رجلا فقط. واجهوا صعوبات هائلة في استقطاب أعضاء جدد من بين الساكنة المحلية، التي لم تكن حتى تتكلم الإسبانية. تعلم المغاوير لغة كويشوا، لكن اللغة المحلية كانت هي توبي غواراني.
بالرغم من كل شيء، أبان المغاوير عن شجاعة وتصميم عظيمين وحققوا في البداية عددا من الانتصارات ضد الجيش البوليفي النظامي في جبال كاميري. لكن خلال شهر شتنبر، تمكن الجيش من تصفية مجموعتين من مجموعات المغاوير وقتل أحد القادة. منذ هذه اللحظة صار المغاوير يخوضون حربا خاسرة. إضافة إلى ذلك وبينما الحملة تتقدم بصعوبة كانت صحة تشي تتدهور. كان يعاني من نوبات ربو حادة ومرهقة.
انتبهت السلطات البوليفية في الأخير إلى وجود غيفارا على أراضيها عندما وقعت بين يديها صور كان المغاوير قد التقطوها لأنفسهم، بعد مواجهات مع الجيش البوليفي خلال شهر مارس 1967. وقيل أن الرئيس ريني باريينتو قال، بعد رؤيته لتلك الصور، أنه يريد رؤية رأس غيفارا معلقا فوق رمح في ساحة لاباز. هذا تعبير صادق عن النزعة السلمية الإنسانية التي تتميز بها البورجوازية، أي نفس هؤلاء الأشخاص الذين ينتقدون الثوريين على تبنيهم للعنف.
بالرغم من محاولات تصويره كوحش متعطش للدماء (هل هناك من قائد ثوري لم يتم تصويره كذلك؟)، فإن تشي كان في الحقيقية رجلا إنسانيا جدا. في أحد الفقرات الجد المؤثرة في يومياته البوليفية، يتذكر لحظة كان في إمكانه إطلاق الرصاص على جندي بوليفي شاب لكنه وجد نفسه عاجزا عن الضغط على الزناد.
لا يمكن أبدا اعتبار هذا التصرف تصرف رجل دموي! لقد كان تشي غيفارا يقدم العلاج الطبي للجنود البوليفيين الجرحى الذين كان المغاوير يأسرونهم، وبعد ذلك كان يطلق سراحهم. يتناقض هذا التصرف الإنساني مع المعاملة الهمجية التي تلقاها هو نفسه عندما سقط بين أيدي الجيش البوليفي. وقيل أيضا أنه عندما تعرض للأسر عرض معالجة بعض الجنود البوليفيين الذين جرحوا خلال المواجهات. لكن الضابط البوليفي رفض عرضه.
خيانة الستالينيين
واجه رجال تشي عراقيل لا تحصى، ليس فقط فيما يتعلق باللغة والمناخ (كانت السماء تمطر طوال الوقت تقريبا) والتضاريس، بل إن الحزب الشيوعي البوليفي، في ظل قيادة الستاليني الموالي لموسكو ماريو مونخي، كان معاديا شرسا لغيفارا وكارها لوجوده في بوليفيا. لقد رفض الستالينيون البوليفيون الوفاء بالتزاماتهم مع المغاوير. قالوا أنه لا توجد أية ظروف لشن هجوم ثوري في بوليفيا. وقد أجاب فيديل كاستروا، في تقديمه لمذكرات بوليفيا، على هذا القول بشكل جيد جدا:
«ستكون هناك دائما الكثير من الأعذار، في جميع الأوقات والظروف، من أجل عدم خوض القتال، وهذا يعني أننا لن نتمكن أبدا من تحقيق الحرية. لم يعش تشي أطول من عمر أفكاره، لكنه كان يفهم أنه بخسارته لحياته ستعرف أفكاره انتشارا أكبر. إن نقاده الثوريون المزيفون، بجبنهم السياسي وعجزهم الأبدي عن الفعل، سيعيشون بالتأكيد طويلا ليروا الدليل على غبائهم. من الجدير بنا أن نلاحظ، كما ترينا المذكرات، أن ماريو مونخي، أحد هؤلاء “الثوريين” النموذجيين الذين صاروا كثيرين في أمريكا اللاتينية، استغل تسميته كأمين عام للحزب الشيوعي البوليفي لمنافسة تشي على الحق في القيادة السياسية والعسكرية للحركة. وقد أعلن مونخي أيضا نيته في التخلي عن موقعه داخل الحزب. لقد كان هذا، من وجهة نظره، كافيا ليتقلد المنصب، وهذا أعطاه الحق للمطالبة بالقيادة.
«لا حاجة للقول بأن ماريو مونخي لم تكن لديه أية خبرة في حرب العصابات، ولا أنه لم يحضر أية معركة على الإطلاق. إلا أن واقع كونه يعتبر نفسه شيوعيا كان يفترض أن يخلصه من النزعة القومية الفجة والضيقة الأفق، كما كان الشأن لدى هؤلاء الوطنيين الحقيقيين الذين ناضلوا من أجل استقلال بوليفيا الأول.
«إذا كان هذا هو تصورهم للأممية وللنضال المعادي للإمبريالية في هذه القارة، فإن مثل هؤلاء “القادة الشيوعيين” لم يتقدموا أكثر من تلك القبائل الأصلية التي انهزمت أمام المعمرين الأوروبيين خلال مرحلة الغزو.
«كان هذا تصرف قائد الحزب الشيوعي لبلد يسمى بوليفيا، التي تسمى عاصمتها التاريخية سوكر (Sucre)، تكريما لذكرى محرريها الأولين، الذين كانا فنزويليين. لقد سنحت لمونخي فرصة الاعتماد على المقدرة السياسية والتنظيمية والعسكرية لعملاق ثوري حقيقي، لم تكن قضيته محدودة بحدود بوليفيا الضيقة والمصطنعة والظالمة. إلا أن مونخي لم يعمل أي شيء سوى المطالبة بالقيادة بطريقة مخزية ومضحكة ولا مبرر لها.» (إرنيستو شي غيفارا، مذكرات بوليفيا، “مقدمة ضرورية”، بقلم فيديل كاسترو)
ويواصل كاسترو اتهامه اللاذع لمونخي وقادة الحزب الشيوعي البوليفي، قائلا:
«[…] لكن مونخي الغير سعيد بالنتيجة، عمل على تخريب الحركة. فعندما كان في لاباز، عمل على اعتراض المناضلين الشيوعيين المدربين جيدا الذين كانوا على وشك الالتحاق بقوات المغاوير. لقد كانوا من ذلك النوع من الرجال الذين يمتلكون جميع الميزات الضرورية للالتحاق بالنضال المسلح، لكن الذين تم إحباط تقدمهم بطريقة إجرامية من طرف قادتهم العاجزين والمخادعين.» (إرنيستو شي غيفارا، مذكرات بوليفيا، “مقدمة ضرورية“، بقلم فيديل كاسترو)
خلال نهاية شهر يناير كتب تشي في مذكراته:
«تقييم الشهر.
«كما توقعت، كان موقف مونخي مراوغا في البداية وبعدها صار خيانيا.
«لقد تعبئ الحزب الآن لشن الحرب ضدنا، ولست أدري إلى أي حد سيصلون في ذلك. لكن هذا لن يوقفنا وربما سوف يكون في مصلحتنا على المدى البعيد (أنا متأكد تقريبا من ذلك). سوف نكسب أكثر الأشخاص تذمرا وكفاحية إلى جانبنا، حتى إذا توجب عليهم أن يمروا من أزمة ضمير يمكنها أن تكون حادة جدا.
« لقد رد مويسيس غيفارا بشكل جيد حتى الآن. سوف نرى كيف سيتصرف هو ورجاله في المستقبل.
«لقد غادرت تانيا (Tania)، لكن الأرجنتينيين لم يعطوا أية إشارة على الحياة، ولا هي قامت بذلك. تبدأ الآن المرحلة الحقيقية لحرب العصابات وسوف نجرب قواتنا. سيخبرنا الوقت عما هم قادرون على فعله وعن ما هي آفاق الثورة البوليفية.
«كانت أصعب مهمة واجهناها، من بين جميع ما واجهناه، هي ضم مقاتلين بوليفيين.» (إرنيستو شي غيفارا، مذكرات بوليفيا)
هؤلاء الأشخاص المنتمين إلى الحزب الذين التحقوا بتشي غيفارا أو ساندوه، قاموا بذلك ضد إرادة قيادة الحزب. تبين مذكرات تشي البوليفية كيف تسببت المشاكل مع الحزب الشيوعي البوليفي في اكتساب المغاوير لقوات أقل مما توقعوا في البداية. لقد وجه ذالك ضربة مميتة لحظوظ المغاوير في النجاح.
ريجيس دوبري
والدور الأكثر شؤما في كل هذا كان هو ذلك الذي لعبه ريجيس دوبري، الرجل الذي صنع لنفسه شهرة من خلال استغلال علاقته المزعومة مع تشي غيفارا. يقال مرارا أنه “قاتل إلى جانب تشي في بوليفيا” وأنه كان “رفيق تشي”. إن هذه الأقاويل غير صحيحة على الإطلاق. لم يخض دوبري أبدا أي قتال، بل إنه في الواقع تسبب في خلق مشاكل خطيرة للمغاوير. كان تشي ينظر إلى هذا المثقف البورجوازي الصغير نظرة الاحتقار التي يستحقها فعلا. وقد تضمنت يومياته إشارات متعددة إلى “رفيق السفر” هذا ولا توجد بين أسطرها أية إشارة ودية.
التحق دوبري والرسام الأرجنتيني سيرو بوستوس، بمعسكر تشي كسياح ثوريين ولم يقدموا أية خدمة ماعدا المشاكل. كان من المفترض فيهم أن يساعدوا على تطوير العلاقات مع العالم الخارجي. وفي النهاية حصلوا على الكثير من الدعاية لأنفسهم على حساب المغاوير. تبين المذكرات أن تشي كان يشك في دوبري منذ البداية:
«لقد ركز الفرنسي بشدة على كم سيكون نافعا في الخارج» (تشي غيفارا، مذكرات بوليفيا)
سرعان ما وجدت شكوك تشي ما يبررها. فمع عجزهما عن تحمل الظروف القاسية بدآ في إزعاج تشي لكي يسمح لهما بالمغادرة. وسرعان ما تعرضا للاعتقال من طرف الجيش فقدما معلومات ثمينة سهلت عملية اقتفاء أثر الثوار. خان بوستوس المغاوير وصار مجرد مخبر نذل. لقد عمل حتى على رسم صور للمقاتلين ليتمكن الجيش من التعرف عليهم. استقطبت محاكمة ريجيس دوبري اهتمام وسائل الإعلام العالمية، لكنها حولت الانتباه عن المغاوير الذين كانوا هم من يخوضون القتال فعلا. لقد أحرجت هذه المحاكمة، بلا شك، الحكومة البوليفية، لكنها صلبت أيضا موقفها اتجاه المغاوير. من المحتمل أن أحد الأسباب التي جعلت باريينتوس يقرر قتل غيفارا هو رغبته في الحيلولة دون تكرار التغطية الإعلامية المكثفة لهذه المحاكمة.
الفصل الأخير
أمر باريينتوس الجيش البوليفي بالبحث عن غيفارا وقتله. لكنه لم يكن في الواقع سوى منفذ لأوامر أسياده في واشنطن، الذين كانوا، منذ وقت طويل، قد خصصوا مكافئة مقابل رأس ألد أعدائهم. وبمجرد ما اكتشفت واشنطن موقعه، تم إرسال قوات المخابرات وغيرها من القوات الخاصة إلى بوليفيا، حيث أخذوا زمام الأمور.
وصل المستشارون الأمريكيون إلى بوليفيا يوم 29 أبريل ووضعوا برنامج تدريب ضد التمرد لكثيبة الجوالة الثانية البوليفية، مدته 19 أسبوعا. تضمنت الحصة المكثفة تدريبا على الأسلحة والقتال الفردي وتكتيكات حرب العصابات والمجموعات الصغيرة، والقيام بالدوريات ومكافحة التمرد. لقد تدرب الجيش البوليفي ودعم من طرف مستشارين وقوات خاصة من الولايات المتحدة. وتضمن ذلك كثيبة خاصة مشكلة حديثا من الجوالة بتدريب خاص على العمليات داخل الغابات.
ابتداء من شهر شتنبر سرّع العدو من خطواته. تعرفت القوات الخاصة البوليفية على مكان وجود معسكر مغاوير غيفارا بواسطة معلومات أدلى بها أحد المخبرين. عملوا على محاصرته، يوم 8 أكتوبر، واعتقل غيفارا بعد مناوشة قصيرة. هناك من زعم أن غيفارا صاح، عندما اقتربت القوات البوليفية منه، قائلا: « لا تطلقوا النار! أنا شي غيفارا وأساوي بالنسبة إليكم حيا أكثر مما أساويه ميتا.» ومن خلال هذا الزعم يحاولون أن يصوروه كجبان. ليست هذه سوى واحدة من الافتراءات التي يحاول الرجعيون من خلالها تشويه ذكرى هذا الرجل الذي أبان دائما عن شجاعة عظيمة ولا مبالاة تامة بسلامته الشخصية.
لم يضيع باريينتوس أي وقت في إصدار الأوامر بإعدام تشي غيفارا. أصدر الأمر بمجرد تلقيه لخبر إلقاء القبض عليه. لم يضيع الوقت في التدقيقات القانونية. قام بذلك بعلم تام من طرف “الديمقراطيين” في واشنطن وموافقتهم المطلقة. لا أحد من هؤلاء الأشخاص كان مستعدا للمغامرة بعقد محاكمة يمكن لتشي غيفارا أن يدافع فيها عن نفسه وينتقل، كما هو حتمي، إلى الهجوم ويدين المظالم الاجتماعية التي تبرر كفاحه. كلا! كان يجب إخراس ذلك الصوت مرة وإلى الأبد.
خلال شهر يناير من سنة 1919 في برلين، لم يكن لدى اليونكر، الذين اعتقلوا روزا ليكسمبورغ وكارل ليبكنخت، بدورهم أية نية في السماح لهما بالوصول إلى المحكمة. لم يستشيروا كتب القوانين قبل تفجير رأسيهما. سيق تشي غيفارا إلى مبنى مهدم لمدرسة ابتدائية قرب قرية لا هيغييرا، حيث تم اعتقاله طوال الليل. أية أفكار دارت بخلده خلال تلك الليلة الرهيبة عندما كان وحيدا، كحمل وسط ذئاب جائعة، ومعزولا عن العالم، وعن أسرته وأصدقائه ورفاقه، يواجه موتا محققا!
خلال فترة ما بعد الزوال تم أخذ غيفارا من المدرسة. وأعدم على الساعة الواحدة وعشر دقائق من مساء يوم 9 أكتوبر 1967، على يد ماريو تيران، الذي كان رقيبا في الجيش البوليفي. ومن أجل إخفاء حقيقة تعرضه للقتل بدم بارد، أطلقت عليه العديد من الرصاصات في الرجل، لمحاكاة جروح المعركة. قبل هذا قال لجلاده: « أنا أعرف أنك هنا لكي تقتلني. أطلق النار، أيها الجبان، إنك لن تقتل سوى رجل.» هذا هو صوت تشي غيفارا الحقيقي وليس ذلك المزعوم الذي يلتمس الصفح.
ربطت الجثة بزلاجات مروحية وحملت إلى فالي غراندي القريبة حيث تم وضعه في حوض غسيل في إحدى المستشفيات المحلية وعرضت أمام السادة الصحفيين المحترمين الذين أخذوا الصور. ثم قام طبيب عسكري ببتر يدي الجثة، في أبشع صور تدنيس جثة، ليقوم بعدها ضباط من الجيش البوليفي بنقل جثة غيفارا إلى مكان سري.
الشخص الذي ترأس عملية مطاردة غيفارا كان هو عميل المخابرات الأمريكية، فيليكس رودريغيز، الذي تسلل إلى كوبا من أجل التحضير لانتفاضة معارضة لكاسترو تأتي متزامنة مع عملية غزو خليج الخنازير. لقد كان رودريغيز هو من أخبر أسياده في واشنطن وفيرجينيا بموت تشي. وكجميع اللصوص قام بسرقة ساعة تشي اليدوية وباقي حاجياته الشخصية التي يظهرها أمام الصحفيين وهو يتباهى بمآثره. سوف يدخل إسم فيليكس رودريغيز التاريخ موصوما بالعار. لكن الرجل الذي اغتاله بوحشية سيبقى حيا إلى الأبد كبطل للفقراء والمضطهدين، كمقاتل وثوري بطل وشهيد لقضية الاشتراكية العالمية.
مسألة حرب العصابات
مثله مثل جميع الناس كان لتشي جانبه القوي وجانبه الضعيف. لقد ارتكب بالتأكيد خطأ عندما حاول تقديم نموذج حرب العصابات الكوبي كتكتيك عام. لقد اعتبر الماركسيون دائما حرب الفلاحين قوة مساعدة للعمال في نضالهم من أجل الاستيلاء على السلطة. لقد كان ماركس أول من طور هذا الموقف، خلال الثورة الألمانية سنة 1848، عندما أكد أن الثورة الألمانية لا يمكنها أن تنتصر إلا كطبعة ثانية لحرب الفلاحين. أي أنه على حركة العمال في المدن أن تجر ورائها جماهير الفلاحين.
ليس من الصحيح القول بأن هذا الموقف خاص فقط بالبلدان الرأسمالية المتقدمة. فقبل الثورة الروسية لم تكن الطبقة العاملة الصناعية تمثل أكثر من 10 % فقط من مجموع الساكنة. لكن رغم ذلك أكد لينين والبلاشفة دائما على أنه يجب على الطبقة العاملة أن تضع نفسها على رأس الأمة وتقود ورائها الفلاحين وغيرهم من الشرائح المضطهدة. لقد لعبت البروليتاريا دورا قياديا في الثورة الروسية، وجرت ورائها ملايين الفلاحين الفقراء الذين يشكلون الحليف الطبيعي للبروليتاريا.
الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة ثورة اشتراكية ظافرة هي الطبقة العاملة. ليس هذا الموقف نابعا من دوافع عاطفية، بل يرجع إلى الدور الذي تحتله في المجتمع والطبيعة الجماعية لدورها داخل عملية الإنتاج. لا يمكن إيجاد أية إشارة أو تلميح، في كتابات ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي، إلى إمكانية قيام الفلاحين بالثورة الاشتراكية. السبب في ذلك هو الانعدام المطلق للتجانس بين صفوف الفلاحين كطبقة. إنها مقسمة إلى العديد من الشرائح، بدءا من الفلاحين بدون أرض (الذين يشكلون في الواقع البروليتاريا الريفية) وانتهاء بالفلاحين الأغنياء الذين يستغلون الفلاحين الآخرين كعمال مأجورين. ليست لدى الفلاحين مصلحة مشتركة ومن ثم فإنهم غير قادرين على لعب دور مستقل في المجتمع. لقد عملوا تاريخيا على دعم مختلف الطبقات أو المجموعات المدينية.
إن حرب العصابات، من حيث طبيعتها بالذات، هي السلاح التقليدي لدى الفلاحين وليس لدى الطبقة العاملة. إنها مناسبة جدا لظروف الكفاح المسلح في المناطق الريفية الوعرة، كالجبال والغابات، الخ. حيث وعورة التضاريس تجعل من الصعب استعمال الجنود النظاميين وحيث يوفر تأييد الجماهير الريفية الدعم اللوجيستيكي الضروري والغطاء للمغاوير من أجل التحرك.
يمكن لحرب العصابات أن تلعب، في سياق ثورة في بلد متخلف حيث يشكل الفلاحون قسما كبيرا من السكان، دور مساعد مفيد للنضال الثوري الذي يقوم به العمال في المدن. لكنه لم يخطر أبدا للينين أن يضع فكرة حرب العصابات كبديل عن الحركة الواعية للطبقة العاملة. ليست تكتيكات حرب العصابات، من وجهة النظر الماركسية، مقبولة في النضال من أجل الاشتراكية إلا كجزء تابع ومساعد.
كان هذا بالضبط هو موقف لينين سنة 1905. لم يكن له أية علاقة مع تكتيكات الإرهاب الفردي التي كان ينتهجها أعضاء منظمة نارودنايا فوليا وورثتهم الاشتراكيون الثوريون، ناهيك عن التكتيكات الأكثر جنونا التي ينتهجها الإرهابيون المعاصرون ومنظمات “حرب عصابات المدن”، التي تشكل النقيض المطلق للسياسة اللينينية الحقيقية. لقد أكد لينين على أن النضال المسلح يجب أن يشكل جزءا من الحركة الجماهيرية الثورية، وحدد الشروط التي يكون فيها مقبولا:
«1) يجب أخذ مشاعر الجماهير في الحسبان؛ 2) يجب أخذ ظروف حركة الطبقة العاملة في المنطقة المعنية في الحسبان، و3) يجب الحرص على عدم تشتيت قوات البروليتاريا.» وقد وضح أيضا أن حرب العصابات ليست دواء لجميع الأمراض، بل لا تشكل سوى أسلوب ممكن للنضال، غير مسموح به إلا « في الوقت الذي تكون فيه حركة الجماهير قد وصلت فعلا إلى نقطة الانتفاضة».
تصبح مخاطر الانحطاط الملازمة لمثل هذه النشاطات مسألة أكيدة بشكل مطلق في الوقت الذي تنعزل فيه مجموعات المغاوير عن الحركة الجماهيرية. خلال مرحلة 1906، عندما كانت حركة العمال تتراجع وكان الثوريون يترنحون تحت وطأة الضربات، بدأت مجموعات المغاوير تعطي إشارات عن توقفها عن أن تكون أجهزة مساعدة مفيدة للحزب الثوري، وصارت تتحول إلى مجموعات من المغامرين، أو ما هو أسوء من ذلك. إن لينين وبالرغم من دفاعه عن إمكانية اللجوء إلى تكتيكات حرب العصابات كنوع من الدفاع ضد الرجعية، عندما كان لا يزال يتوقع عودة الحركة الثورية إلى الحياة، حذر من خطر « الفوضوية والبلانكية والنزعة الإرهابية القديمة، والأعمال الفردية المعزولة عن الجماهير، التي كانت تسبب إحباط العمال، وتنفر شريحة واسعة من الجماهير، وتشوش على الحركة وتسبب الأذى للثورة،» وأضاف أن: « الأمثلة التي تؤكد هذا التقييم يمكن إيجادها بسهولة في التقارير التي تنشرها الصحف كل يوم».
لجأت الحركة الثورية، خلال مرحلة 1905 – 1906، إلى استخدام نوع من “حرب العصابات”: كتائب الأنصار، عمليات المصادرة المسلحة، وغيرها من أشكال الكفاح المسلح. لكن المجموعات القتالية كانت دائما على علاقة وثيقة بالمنظمات العمالية. وهكذا فإن لجنة موسكو العسكرية لم تكن على علاقة فقط بحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، بل كانت على علاقة أيضا بحزب الاشتراكيين الثوريين، والمناضلين النقابيين (عمال المطابع) والطلاب. وكما رأينا، تم استخدام مجموعات الأنصار لهدف الدفاع ضد اعتداءات منظمي المذابح وضد عصابات المائة السود. وقد ساعدت أيضا في حماية الاجتماعات من غارات الشرطة، حيث كثيرا ما كان تواجد كتائب مسلحة من العمال يشكل عاملا هاما في تلافي حدوث أعمال عنف.
ومن بين المهام الأخرى التي كانت تقوم بها تلك المجموعات هناك أيضا الاستيلاء على الأسلحة واغتيال الجواسيس وعملاء الشرطة وكذا تنفيذ عمليات السطو على الأبناك. وغالبا ما كانت المبادرة إلى تأسيس مجموعات المغاوير هذه تأتي من جانب العمال أنفسهم. وقد بذل البلاشفة كل مجهودهم من أجل قيادة هذه المجموعات، لإعطائها شكلا منظما ومنضبطا وتمكينها من خطة عمل واضحة. وقد استتبع ذلك، بالطبع، مخاطر جدية. بإمكان جميع أنواع المغامرين والعناصر المتفسخة طبقيا والمشبوهين أن يلتحقوا بهذه المجموعات، التي بمجرد ما تنعزل عن حركة الجماهير، تميل إلى الانحطاط في اتجاهات إجرامية إلى درجة أنها قد تصير مثل أية عصابة إجرامية.
إضافة إلى ذلك، كانت تلك المجموعات مشرعة الأبواب أمام تسلل الاستفزازيين. وكقاعدة: من الأسهل على عملاء الدولة اختراق المنظمات العسكرتارية والإرهابية، من اختراق الأحزاب الثورية الحقيقية، خاصة عندما تكون هذه الأخيرة مشكلة من أطر محنكة مرتبطة فيما بينها بروابط إيديولوجية قوية، بالرغم من أنه حتى هذه الأخيرة ليست منزهة عن الاختراق. لقد كان لينين واعيا جدا بمخاطر الانحطاط التي يطرحها وجود المجموعات المسلحة. الانضباط الصارم والرقابة الحازمة من طرف منظمات الحزب والأطر الثورية المحنكة تحول جزئيا دون حدوث هذه الميولات، لكن الرقابة الوحيدة الحقيقية هي الحركة الجماهيرية الثورية.
طالما كانت وحدات المغاوير تشتغل كمساعد للحركة الجماهيرية (أي خلال سياق انتفاضة ثورية) فإنها كانت تلعب دورا مفيدا وتقدميا. لكن كلما انفصلت مجموعات المغاوير عن الحركة الثورية، كانت تميل حتما إلى الانحطاط. لهذه الأسباب اعتبر لينين أنه من غير المقبول إطلاقا إطالة مدة بقائها، عندما صار من الواضح بالنسبة إليه أن الحركة الثورية كانت قد دخلت مرحلة تراجع كامل. بمجرد ما وصلت الحركة الجماهيرية إلى هذه المرحلة، دعا فورا إلى حل جميع مجموعات المغاوير.
حرب العصابات
كتب تشي عددا من المقالات والكتب حول نظرية وممارسة حرب العصابات. لقد تركت تجربة إسقاط حكومة أربينز أثرا كبيرا عليه. لقد استخلص أنه يجب إسقاط الطبقة السائدة من خلال التمرد المسلح، وهذا الموقف صحيح بشكل مطلق. لقد بينت كل التجربة التاريخية أنه لم تقم أية طبقة سائدة بالتخلي عن السلطة والامتيازات بدون قتال. لم يعمل أي شيطان أبدا على قطع مخالبه بنفسه. الماركسيون ليسوا مسالمين. يجب تحضير الجماهير للنضال ولاستعمال كل قوة ممكنة من أجل نزع سلاح الطبقة السائدة. إن العنف، على حد تعبير ماركس، هو قابلة التاريخ.
يأخذ كتابه الشهير حرب العصابات النموذج الكوبي للثورة كنموذج يمكن تطبيقه في بلدان أخرى. وفق هذا النموذج تحمل مجموعة صغيرة (foco) [: بؤرة. بالاسبانية في النص الأصلي -م-] من المغاوير على كاهلها مهمة القيام بتمرد مسلح دون الحاجة إلى منظمات واسعة لتنظيم الجماهير. لقد كان هذا خطئا جديا، كما بينت الأحداث اللاحقة بشكل مأساوي. لقد أخذت الثورة الكوبية الإمبرياليين على حين غرة. لم يكونوا يتوقعون نجاح المغاوير بهذه السهولة. وحتى بعدما انتصروا انقسمت الطبقة السائدة الأمريكية حول طريقة التحرك ضدهم. حيث اقترح أحد أجنحتها نهج سياسة صارمة، لكن الجناح الآخر كان يؤيد تبني موقف محترس.
لقد ارتكب الإمبرياليون خطئا. لكنهم أيضا درسوه واستفادوا من تجربتهم. بعد تجربة الثورة الكوبية لم تعد الإمبريالية تسمح بأن تؤخذ على حين غرة. لقد عملوا على دراسة نظرية حرب العصابات، بما في ذلك كتابات تشي غيفارا. وكانوا مستعدين وينتظرون. وبمجرد ما تم تشكيل أول foco من المغاوير، تدخلوا لسحقها. لم يعطوا للمغاوير ما يكفي من الوقت لإقامة قواعد بين الساكنة الريفية. هذا ما حصل في حالة بوليفيا. لقد قررت مصير تشي ورفاقه والعديد من المناضلين الآخرين لاحقا.
لقد كانت إحدى أكبر مآسي التاريخ الثوري أن جيلا كاملا من الشباب الشجعان في أمريكا اللاتينية وغيرها فقدوا أرواحهم نتيجة لمحاولة عقيمة لنسخ تكتيك نجح في كوبا بفضل تسلسل فريد للأحداث، لكنه لا يمكن نقله بشكل مصطنع إلى بلدان أخرى بظروف مختلفة.
لحرب العصابات بعض المعنى في مجتمع متخلف تهيمن عليه الزراعة مثل الصين قبل 1949. لكنه ليس لديها من معنى على الإطلاق في بلدان من قبيل التشيلي والأرجنتين حيث يشكل الفلاحون أقلية وحيث تعيش الأغلبية الساحقة في البلدات والمدن. بل إن لينين أكد، حتى في روسيا القيصرية، كما سبق لنا أن رأينا، على أن الدور القيادي في الثورة يجب أن تلعبه البروليتاريا وأنه يجب أن ينظر إلى حرب العصابات كمساعد لحركة الجماهير الثورية والطبقة العاملة أساسا.
لقد قادت جميع المحاولات التي قامت في الأرجنتين والأوروغواي والمكسيك وفنزويلا وغيرها من البلدان، لتقليد أساليب المغاوير في كوبا إلى هزائم دموية. وبوجه خاص تلك التي سميت “حرب عصابات المدن” والتي ليست سوى نفس الإرهاب الفردي القديم في حلة جديدة. يعتقد هؤلاء الذين كانوا يدافعون عن هذا التكتيك المشئوم أنهم اخترعوا شيئا جديدا كليا، لكنهم لم يعملوا في الواقع سوى على تكرار أخطاء الإرهابيين الروس القدامى أعضاء نارودنايا فوليا، التي خاض لينين ضدها صراعا عنيدا.
لقد انتهى هذا التكتيك في جميع الحالات إلى هزيمة فادحة واندلاع موجة رجعية متوحشة. لقد فقدت الحركة آلاف الأطر الشابة التي كان بإمكانها أن تلعب دورا هاما في تطوير الحركة الثورية الجماهيرية في المصانع والأحياء العمالية والقرى. لقد كان ذلك خطئا جديا يجب تصحيحه إذا ما أردنا انتصار الثورة الاشتراكية. إنه الجانب السلبي في تراث تشي غيفارا الذي يتبناه اليساريون المتطرفون العاجزون عن استيعاب الميراث الحقيقي الإيجابي لهذا الثوري العظيم والذين لا يكررون سوى أخطائه. إن هذا هو أسوء ظلم، يمكن للمرء أن يتصوره، في حق ذكرى تشي.
إن رسالة تشي غيفارا الحقيقية التي يجب علينا أن نحافظ عليها ونتعلمها منه هي نزعته الأممية: الفكرة الصحيحة القائلة بأن الثورة الاشتراكية ليست عملا قوميا منعزلا بل جزء من مسلسل لا يمكن أن ينتهي إلا بانتصار الاشتراكية على الصعيد العالمي. والحركة الثورية الحالية في أمريكا اللاتينية تعطي الدليل على أنه كان محقا.
نزعة تشي غيفارا الأممية
لقد كانت الثورة الكوبية منذ بدايتها ذات نزعة أممية ثورية. وقد تجسدت تلك النزعة في شخص تشي غيفارا، الذي كان قائدا بارزا للثورة الكوبية. لقد ولد تشي في الأرجنتين وقاتل في الخطوط الأمامية للثورة الكوبية. لكنه كان في الواقع مناضلا أمميا حقيقيا ومواطنا عالميا. لقد كان لديه، مثله في ذلك مثل بوليفار، منظور لثورة أمريكية لاتينية.
بعد موته المأساوي بذلت العديد من المحاولات لتحويله إلى أيقونة غير مؤذية، إلى صورة مرسومة على الأقمصة. يقدمه البورجوازيون كرومانسي طيب وكمثالي طوباوي. إن هذا احتقار لذكرى ذلك الثوري العظيم! لم يكن تشي غيفارا حالما يائسا، بل كان واقعيا ثوريا. لم تكن محاولة تشي مد الثورة إلى بلدان أخرى، ليس فقط في أمريكا اللاتينية بل أيضا في إفريقيا، مجرد مصادفة. لقد استوعب جيدا جدا أن تاريخ الثورة الكوبية سيتوقف في آخر المطاف على ذلك.
لقد كان مصير الثورة الكوبية منذ الوهلة الأولى رهينا بالأحداث على الصعيد العالمي. كيف لها ألا تكون كذلك عندما كانت الثورة مهددة منذ ولادتها من طرف أقوى دولة إمبريالية على هذا الكوكب؟ لقد كان للثورة الكوبية – مثل الثورة الروسية- أثر عالمي عظيم، خاصة في أمريكا اللاتينية والكاريبي. ولا يزال الحال كذلك حتى الآن. لقد حاول تشي إشعال شرارة تجعل كل القارة تلتهب. ربما ارتكب خطأ فيما يخص الطريقة التي قام بها بذلك، لكن لا يمكن لأي كان أن يشكك في أن نواياه وفكرته الجوهرية كانت صحيحة: وهي أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ الثورة الكوبية تمر عبر نشرها إلى باقي أنحاء القارة الأمريكية اللاتينية.
لقد ساعد تشي في تنظيم البعثات الثورية في الخارج، وقد فشلت كلها. كانت المحاولة الأولى في بانما؛ وكانت هناك محاولة أخرى في جمهورية الدومينيكان خلال بدايات سنة 1959. لكن مع الأسف، تم استخلاص بعض الخلاصات الخاطئة من التجربة الكوبية. لقد أدت محاولة تصدير نموذج حرب العصابات وfocus إلى تكبد الهزائم الرهيبة الواحدة بعد الأخرى. كانت هناك العديد من الأسباب وراء ذلك. أولا، كما سبق لنا أن رأينا، أخذت حرب العصابات الكوبية الإمبريالية الأمريكية على حين غرة. لكنهم سرعان ما تعلموا الدروس وكلما ظهرت أية foco، قاموا بسحقها فورا قبل أن تنتشر.
كان الواقع الأكثر أهمية هو أن أغلبية الجماهير في أمريكا اللاتينية تعيش الآن في البلدات والمدن. وحرب العصابات أسلوب مميز لنضال الفلاحين. وهكذا، بينما يمكن لحرب العصابات أن تلعب دورا مهما كمساعد، فإنه لا يمكنها أن تلعب الدور الرئيسي. إن هذا الدور مقتصر على الطبقة العاملة في المدن. ويجب تكييف التكتيكات مع هذا الواقع.
الدليل على هذا تقدمه فنزويلا حيث باءت جميع محاولات تنظيم حركة مغاوير بالفشل الذريع. تترعرع الثورة الفنزويلية، بشكل رئيسي، كثورة مدينية، معتمدة على الجماهير في البلدات والمدن ومدعومة من طرف الفلاحين. لقد استخدمت حركة هوغو تشافيز البوليفارية النضال البرلماني بشكل فعال جدا من أجل تعبئة الجماهير. وقد كانت حركة الجماهير هي التي هزمت الثورة المضادة خلال ثلاثة مناسبات.
مصير الثورة الكوبية الآن مرتبط بشكل بنيوي بمصير الثورة الفنزويلية. كلاهما تحدد مصير الأخرى. إذا ما تعرضت الثورة الفنزويلية للهزيمة فإن الثورة الكوبية ستتعرض لأعظم خطر. يجب أن نبذل كل المجهودات من أجل الحيلولة دون وقوع ذلك. لكن يجب علينا هنا أن نتعلم من التاريخ. لقد حققت الثورة الفنزويلية المعجزات، لكنها لم تصل إلى النهاية بعد.
لقد بدأت الثورة الفنزويلية، مثلها مثل الثورة الكوبية، كثورة وطنية ديمقراطية. وقد كان البرنامج الذي دافع عنه هوغو تشافيز في المراحل الأولى برنامج ديمقراطية بورجوازية متقدمة. لكن التجربة أبانت أن الأوليغارشية والإمبريالية عدوان لدودان للديمقراطية. لن تتوقفا عند أي حد في صراعهما من أجل القضاء على الثورة. ومن ثم فإن محاولة حصر الثورة البوليفارية في حدود المهام الديمقراطية البورجوازية، أي وقف الثورة، سوف يحضر الشروط لهزيمة حتمية للثورة.
لماذا الإمبريالية الأمريكية مصممة العزم على تحطيم الثورتين الكوبية والفنزويلية؟ ذلك راجع للتأثير الذي تمارسانه على صعيد القارة. إن الإمبرياليين مرعوبين من أن تشكل كوبا وفنزويلا نقطة استقطاب. ومن ثم فإنهم مصممون على تصفيتهما.
لقد كانت فكرة تشي هي خلق عشرين فييتناما في أمريكا اللاتينية. لم تكن هذه فكرة سيئة، لكنها لم تكن ممكنة آنذاك، جزئيا بسبب أن الظروف لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية، لكن أساسا بسبب أسلوب حرب العصابات الخاطئ الذي اتبعه. إلا أن الأشياء قد تغيرت الآن. لقد كانت لأزمة الرأسمالية آثار مدمرة في أمريكا اللاتينية، وهذا له نتائج ثورية. لقد بدأت الظروف لإنجاز الثورة تنضج في كل مكان. في الواقع لا يوجد حاليا أي نظام رأسمالي مستقر في كل أمريكا اللاتينية، من تييرا ديل الفويغو إلى ريو غراندي. وإذا ما توفرت قيادة صحيحة لن يكون هناك أي سبب لعدم حدوث ثورة بروليتارية ناجحة في بلد أو عدة بلدان في أمريكا اللاتينية خلال المرحلة المقبلة. ما يتوجب توفره ليس هو النزعة القومية والتكتلات مع البورجوازية الرجعية، بل هو البرنامج الاشتراكي الثوري والنزعة الأممية البروليتارية الثورية.