على الرغم من أن البلاشفة لم تكن لديهم، من الناحية الرسمية، أي منظمة أممية، فإنهم لم يتوقفوا عن اعتبار أنفسهم جزءا من تيار أممي. لم يتخل لينين أبدا عن فكرة إعادة بناء أممية ثورية حقيقية. كان البلاشفة يتابعون عن قرب الحياة الداخلية لجميع الأحزاب الاشتراكية. وكان لينين كل يوم ينقب بشغف في الصحف الاشتراكية الأجنبية، ويرحب بحماس بكل هجوم تشنه على الاشتراكية الشوفينية. وبينما كان ينادي بضرورة إجراء قطيعة سياسية حاسمة مع اليمين، فإنه لم يقترح أبدا مغادرة المنظمات الجماهيرية للطبقة العاملة، بل العكس هو الصحيح. أصدر المكتب السياسي تعليمات إلى جميع البلاشفة الذين يعيشون في الخارج بإنشاء “أندية أممية” محلية. وصدرت التعليمات لأولئك الذين لديهم معرفة بلغة البلد الذي يوجدون فيه بالمشاركة في الحركة العمالية لذلك البلد، وخاصة في الأحزاب الاشتراكية. كان التأكيد بشكل كبير على ذلك ليس فقط باعتباره وسيلة لكسب علاقات جديدة مع الأمميين في البلدان الأخرى، بل أيضا من أجل تفادي الإحباط الذي قد ينشأ حتما عن العزلة عن الحركة العمالية، التي تميز منظمات المنفى في كثير من الأحيان. إلا أنه كان هناك بعد آخر لهذا العمل.
[Source]
كانت فكرة إنشاء أممية جديدة قد بدأت بالفعل تتشكل في ذهن لينين. لكنه كان يدرك تمام الإدراك أن مثل تلك المنظمة لا يمكن أن تأتي إلى الوجود بمجرد إعلانها. كان لابد من بنائها من خلال النضال ضد الاشتراكيين الشوفينيين وبلورة تيار أممي ثوري. كان انفصال البلاشفة عن المناشفة قد استغرق عشر سنوات، ولم يتحقق إلا عندما تمكن البلاشفة من كسب أكثر من أربعة أخماس الطبقة العاملة المنظمة إلى رايتهم. لكن البلاشفة والمناشفة تعايشا لفترة طويلة، حتى عام 1912، كفصيلين متصارعين داخل حزب واحد. كان البلاشفة يشاركون بنشاط مع التيارات اليسارية لمختلف الأحزاب الاشتراكية في الخارج. كان كل من إينيسا أرماند وغوبنر وستال يشتغلون داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي وكان أبراموفيتش وآخرون يشتغلون داخل الحزب الاشتراكي السويسري، الذي كان لينين بدوره يساهم فيه بالمحاضرات. كما حافظ شليابنيكوف على اتصال وثيق مع الاشتراكيين الديمقراطيين السويديين والنرويجيين، الخ. لقد وضع هذا العمل الأساس لنشوء اليسار الزيمروالدي، وبالتالي الأممية الشيوعية مستقبلا. لكنه لم يكن من الكافي القيام بالعمل الثوري المعزول في كل بلد على حدة، بل كان من الضروري الدعوة إلى عقد كونفرانس أممي لليسار.
جرت المحاولات الأولى لعقد اجتماع أممي في خريف عام 1914، في لوغانو (سويسرا). آنذاك أصدر الاشتراكيون الديمقراطيون الإيطاليون والسويسريون توصيات مناهضة للحرب، لكنهم أفسدوها بمناشدتهم لمكتب السكرتارية الأممية بأن تدعو لعقد اجتماع في أقرب وقت ممكن لمناقشة الأوضاع العالمية. وبطبيعة الحال فإن البلاشفة، الذين شاركوا في اللقاء بأطروحات لينين حول الحرب، لم يدعموا تلك المناشدة. وكما كان متوقعا جاءت قرارات لوغانو مشوبة عموما بالنزعة السلمية. وفي الأخير انتهى بالفشل، إلا أنه مع ذلك يمكن اعتباره نصف خطوة إلى الأمام، وأفضل من لا شيء على أي حال. استخدمه البلاشفة كنقطة انطلاق للدعوة لعقد كونفرانس أممي حقيقي للجناح الثوري.
في نوفمبر 1914، حضر شليابنيكوف مؤتمرَ الاشتراكيين الديمقراطيين السويديين، في ستوكهولم، حيث دافع عن الموقف البلشفي، مما تسبب في خلق عاصفة من النقاشات. كان لارين حاضرا في ذلك اللقاء باسم المناشفة. وكما كان متوقعا فقد اتخذ القيادي السويدي، كارل برانتنج، موقف الامتناع عن التصويت (“لا يمكننا التدخل في شؤون الأحزاب الأخرى”). لكن شليابنيكوف تلقى الدعم من زعيم التيار اليساري داخل الحزب الاشتراكي السويدي، كارل هولوند. كانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الصغيرة المحايدة تميل إلى تبني موقف مهادن قلق “مسالم”، كان لينين يكرهه بشدة. لم يكلف البلاشفة أنفسهم عناء حضور الكونفرانس الذي دعا إليه اشتراكيو الدول “المحايدة” (السويد والنرويج والدنمارك وهولندا) في كوبنهاجن، في يناير 1915، وقال لينين باستخفاف: «لن نتعلم أي شيء. لا يمكنك أن تحقق أي شيء هناك. سنكتفي بإرسال بياننا فقط. هذا كل ما يتعين علينا القيام به».[1]
والأسوأ من ذلك كان هو مناورات القادة “الاشتراكيين” من الدول المتحاربة، الذين كانوا عملاء واعين للطبقة السائدة. في فبراير 1915، انعقد في لندن، كونفرانس لاشتراكيي بلدان الوفاق (بريطانيا وفرنسا وبلجيكا). ومن روسيا تمت دعوة المناشفة والاشتراكيين الثوريين. احتج البلاشفة في لندن ضد اقتصار الدعوة على اشتراكيي بلدان الوفاق وحدهم وأيضا ضد دعوة المناشفة. دعت صحيفة ناشي سلوفو البلاشفة إلى تنظيم مظاهرة في الكونفرانس ضد “النزعة الاشتراكية الوطنية” ومواجهة كونفرانس لندن بالموقف الأممي الحقيقي. وقد قام لينين، بعد فترة تردد، بإرسال مشروع قرار إلى هيئة تحرير ناشي سلوفو ليقرأوه في الكونفرانس.[2] لكنه كانت بين البلاشفة اختلافات حول كيفية التعبير عن الموقف. وفي النهاية حاول ليتفينوف أن يقرأ في الاجتماع توصية مناهضة للحرب، باسم البلاشفة، لكن رئيس الجلسة أوقفه. لذا فإنه بعد أن انتهى من توزيع نسخ من البيان على الحاضرين انسحب من الاجتماع.
كانت الظروف قد بدأت تنضج لعقد كونفرانس أممي للتيارات اليسارية. وكان الحزبان الإيطالي والسويسري (اللذان كان يسود صفوفهما مزاج قوي مناهض للحرب) في وضع أفضل لتنظيم ذلك الكونفرانس. كان قائدا هذه المبادرة (غريم وبابانوفا) ينتميان إلى التيار الوسطي. قاما بتنظيم كونفرانس في بيرن، في يوليوز 1915، لكنهما لم يدعوا أيا من المجموعات اليسارية الحقيقية، واكتفيا بدعوة قادة “الوسط”: هوغو هاس وكارل برانتنغ وبيتر ترويلسترا، وهو ما احتج عليه البلاشفة. كان الشغل الشاغل لغريم هو إثبات أن الظروف غير مناسبة لتأسيس أممية جديدة.
كان لينين على اتصال دائم مع التيارات اليسارية في العديد من الأحزاب الاشتراكية في السويد والنرويج وهولندا وألمانيا وبلغاريا وسويسرا. وقد لعب تروتسكي أيضا دورا مهما في تنظيم كونفرانس زيمروالد، الذي انعقد أخيرا في شتنبر 1915. وصل لينين مبكرا إلى القرية السويسرية الصغيرة النائمة لإجراء مناقشات طويلة مع المندوبين الآخرين. كان المندوبون متحمسين لعقد الكونفرانس، وهو الشيء الذي كان منطقيا بعد الفترة الطويلة التي بقي فيها الاشتراكيون المناهضون للحرب معزولون في ظل ظروف صعبة. لكن لينين كان حريصا على أن يقوم الكونفرانس بتسوية القضايا الأساسية، وألا يبحث عن حل وسط للخلافات. وقام باقتراح تعديلات على البيان الأصلي، الذي اعتبره أكاديميا جدا وغير جذري بما يكفي.
عند وصوله وبعدما جال ببصره في أرجاء الغرفة، ورأى ذلك العدد القليل في الحضور، ألقى مزحة، حيث قال: “يمكنك أن تجمع كل أمميي العالم في عربتين”. ومع ذلك فإن غالبية المندوبين كانوا بعيدين كل البعد عن الانسجام في المواقف، وكانوا يميلون إلى النزعة الوسطية. في زيمروالد قام لينين بتنظيم “اليسار الزيمروالدي”. وقد كان أقلية ضمن الأقلية (ثمانية من أصل 38)، ومؤلفا من لينين وزينوفييف وج. بيرزين (لاتفيا) وكارل راديك (بولندا) وجوليان بورخات (ألمانيا) وفريتز بلاتن (سويسرا) وكارل هوغلاند (السويد) وتوري نورمان (النرويج). كان حزب البوند قد اكتفى بإرسال مراقبين. وقد تشكل مكتب الكونفرانس من روبرت غريم وكونستانتينو لازاري والاشتراكي البلقاني الشهير كريستيان راكوفسكي.
أرسل كارل ليبكنخت خطابا من زنزانته في السجن تمت قراءته في الكونفرانس، الشيء الذي هيج المشاعر خلال اللقاء. وقد قال في كلمته: «أنا أسير في يد النزعة العسكرية، أنا مقيد بالسلاسل، لذلك لا أستطيع أن أخاطبكم مباشرة، لكن قلبي وأفكاري وكل كياني معكم». وأنهى ليبكنخت رسالته بإدانة شديدة لخيانة الأممية، التي اقترفها قادة الأحزاب الاشتراكية في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وبشعار: “نعم للحرب الطبقية، لا للسلام الاجتماعي!”، وهو الشعار ردد صدى شعار لينين. فكرة تأسيس “أممية ثالثة” أصابت الوسطيين بالرعب. فقام جورج ليبيدور للدفاع بحرارة عن “وحدة” الأممية! وهذا هو الدور الكلاسيكي للنزعة الوسطية، أي الحفاظ على الوحدة مع الجناح اليميني. كان هؤلاء الأشخاص يمثلون الجناح اليميني لزيمروالد. قال غريم، وكان محقا إلى حد ما، إن مشروع القرار الذي تقدم به لينين، “إلى عمال أوروبا”، كان موجها إلى أعضاء الأحزاب الاشتراكية أكثر مما هو إلى الجماهير.
بعد سنوات عديدة على ذلك، كتب تروتسكي عن تلك الفترة قائلا:
«أتذكر الفترة ما بين 1908 و1913 في روسيا. لقد كانت فترة ردة رجعية. في عام 1905 كان لدينا انغراس في صفوف العمال، لكن في عام 1908، بل وحتى في عام 1907، كانت الردة الرجعية قد بدأت تنتصر.
اخترع الجميع شعارات وأساليب لكسب الجماهير لكن لا أحد تمكن من كسبها، لقد كانت يائسة. كان الشيء الوحيد الذي يمكننا القيام به، في ذلك الوقت، هو تعليم الكوادر وحتى هؤلاء كانوا ينهارون. كانت هناك سلسلة من الانقسامات في اتجاه اليمين أو في اتجاه اليسار أو في اتجاه النزعة النقابوية، وما إلى ذلك. بقي لينين مع مجموعة صغيرة، مع عصبة، في باريس، لكنه كان واثقا من أن فرصا جديدة سوف تبرز. جاء عام 1913، فبرزت أمامنا موجة مد جديدة، لكن الحرب جاءت فقطعت ذلك التطور. خلال الحرب كان هناك صمت رهيب داخل الحركة العمالية. كان كونفرانس زيمروالد لقاء لعناصر مشوشة للغاية في أغلبيته. في أعماق الجماهير وفي الخنادق، وما إلى ذلك، كان هناك مزاج جديد يغلي، لكنه كان عميقا جدا ومرتعبا لدرجة أننا لم نتمكن من الوصول إليه وإعطائه تعبيرا. هذا هو السبب في أن الحركة بدت لنفسها سيئة للغاية، وحتى تلك العناصر التي التقت في زيمروالد، انتقلت، في أغلبيتها، إلى اليمين في العام التالي أو في الشهر التالي. لن أبرئهم من مسؤوليتهم الشخصية، لكن التفسير العام هو أن الحركة كان مجبرة على السباحة ضد التيار».[3]
أنشأ زيمروالد لجنة اشتراكية أممية عملت على التنسيق بين التيارات اليسارية، لكنها كانت تتألف بشكل أساسي من الوسطيين مثل غريم وبابانوفا. كان معظم الحاضرين في زيمروالد، بشكل عام، مرتبكين ووسطيين متذبذبين. لم تكن لدى لينين أوهام فيهم، لكنه رأى في الكونفرانس خطوة إلى الأمام. وعلى الرغم من تحفظاته، فقد وقع على بيان زيمروالد، الذي كان تروتسكي هو من كتبه. لخص لينين موقفه تجاه زيمروالد في مقالته “الخطوة الأولى”، حيث كتب: «إن البيان يعني، من الناحية العملية، خطوة نحو الانفصال الأيديولوجي والعملي عن الانتهازية والاشتراكية الشوفينية. لكنه، وفي الوقت نفسه، يحتوي، كما يظهر تحليله، العديد من النواقص، ولا يقول كل ما يجب قوله».[4] أي أن لينين، بعبارة أخرى، ينتقد البيان ليس بسبب ما يقوله، بسبب ما لا يقوله.
لقد كان الشيء الأساسي هو تطوير اليسار الزيمروالدي كتيار مستقل. ومع ذلك فإن العديد من “اليساريين” سرعان ما بدأوا يتذبذبون. وقد واجه لينين المشاكل بالخصوص مع رولاند هولست وراديك حول الخط الذي يجب أن تتبعه الجريدة الرسمية لليسار، فوربوت (البشير)، التي كانت تصدر في هولندا بمساعدة بانيكوك.
بفضل مشاركته في زيمروالد صارت كتابات لينين عن الحرب والأممية معروفة على نطاق واسع وبلغات مختلفة. وضع اليسار الزيمروالدي أسس دعم مهمة لبناء الأممية الثالثة في المستقبل. كانت رسالة زيمروالد، على الرغم من أوجه القصور فيها، قد بدأت تنتشر. لا يميل العمال عادة إلى قراءة “التفاصيل الصغيرة” في الوثائق السياسية، بل يتجهون مباشرة إلى ما يرون أنها الفكرة الرئيسية ويملئونها بمحتواهم الخاص. ويوضح شليابنيكوف، في مذكراته، كيف وصلت أخبار مؤتمر زيمروالد تدريجيا إلى العمال في روسيا والتأثير الإيجابي للغاية الذي كان لها في تشجيع المجموعات العمالية، وعلى وجه الخصوص تلك التي لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بالبلاشفة.
«وكما اتضح فيما بعد فقد صارت كل تلك الخلايا تتبع قرارات زيمروالد. يجب أن نلاحظ أن تلك المجموعات الصغيرة لم تكن على اتصال فيما بينها، كما أنها لم تكن تعرف حتى بوجود مجموعات أخرى تشبهها».[5]
لم يكن رد الفعل هذا مقتصرا على روسيا، فقد كانت هناك بدايات غليان داخل الأحزاب الجماهيرية للأممية الثانية. كانت ألمانيا نفسها تتجه آنذاك نحو وضع ما قبل ثوري. وفي أوائل عام 1916، دعا أوتو روهل، الذي كان أحد نواب الرايخستاغ، إلى القطيعة مع الاشتراكيين الشوفينيين. كان اليسار الألماني قد بدأ، بشكل مستقل، في رؤية الحاجة إلى أممية جديدة. وقد تتبع لينين عن كثب سلسلة “الرسائل” التي كان ينشرها اليسار الألماني، والتي كانت تحمل توقيع “سبارتاكوس”. كانت الشبيبة الاشتراكية التي أسسها كارل ليبكنخت هي القاعدة الرئيسية لليسار. كانت الأمور تتحرك في النمسا أيضا، ففي خريف عام 1916، تشكل جناح يساري داخل الحزب الاشتراكي النمساوي بالاعتماد على الشباب. وانطلق التحريض ضد الحرب من “نادي كارل ماركس” في فيينا. وفي فرنسا، تم تشكيل مجموعة يسارية من بين أعضاء البرلمان والذين تلقوا خطابات دعم من الخنادق. كما شهدت بريطانيا، في شهر أبريل، طرد مجموعة هيندمان الشوفينية من الحزب الاشتراكي البريطاني في مؤتمر سالفورد. أما في إيطاليا، فقد كان سيراتي، “الأكثر يسارية” بين قادة الحزب، ما زال مرتبطا بالوسطيين، بينما كان غرامشي، الذي كان ما يزال شابا، يدعم أفكار لينين. وفي سويسرا رفض الحزب الاشتراكي قرارات زيمروالد باعتبارها “متطرفة جدا”، لكن قطاعا كبيرا من القواعد دعموا تلك القرارات. في بلغاريا كان لدى تيسنياكي (الاشتراكيون “المتشددون”) موقف ثوري مناهض للحرب. لقد كان هناك تيار ثوري أو شبه ثوري قد بدأ يتبلور داخل المنظمات الجماهيرية في كل مكان.
هوامش:
[1]: V.I. Lenin, Collected Works, (بالروسية), vol. 49, p. 51.
[2]: V.I. Lenin, Collected Works, (بالروسية), vol. 26, p. 128.
[3]: L. Trotsky, Fighting Against the Stream, in Writings: 1938-39, pp. 252-53.
[4]: LCW, ‘The First Step’, vol. 21, p. 384.
[5]: A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, p. 160.