كانت السوفييتات هي الساحة الحاسمة للنضال، دون شك. ومنذ اللحظة الأولى لعودة لينين، صار الحزب البلشفي موجها بحزم نحو هدف الاستيلاء على السلطة. لكن الشرط المسبق لذلك كان هو كسب الأغلبية الساحقة من الطبقة العاملة. وكان هذا يعني كسب الأغلبية داخل تلك المنظمات التي تتمتع بولاء جماهير العمال والجنود، أي السوفييتات. لكن العائق الكبير كان هو هيمنة الزعماء الإصلاحيين، المناشفة والاشتراكيين الثوريين، عليها. فمن فبراير حتى الصيف، استمرت الأغلبية في يد المناشفة والاشتراكيين الثوريين الذين فضلوا التحالف مع الليبراليين البرجوازيين، رغم أنهم اضطروا إلى تغطية هذه السياسة باستخدام الصيغة القديمة، “دعم الحكومة المؤقتة ‘بقدر’ ما طبقت هذه السياسة أو تلك”. كان هذا لإسكات انتقادات العمال السوفياتيين الذين كانوا بطبيعتهم لا يثقون في الحكومة البرجوازية، لكنهم كانوا يثقون في قادتهم وما كانوا ليتخلوا عنهم بشكل تلقائي، رغم أنهم لم يكونوا يتفقون مع بعض سياساتهم. كان وضع البلاشفة في البداية سيئا للغاية. كان ضعفهم داخل السوفييتات، بعد فبراير مباشرة، أكبر مما تشير إليه الأرقام. كانت لديهم تمثيلية كبيرة في بعض السوفييتات لأنهم تعاونوا مع المناشفة لتقديم قوائم مشتركة. وهكذا تمكن البلاشفة، في ساراتوف، من الحصول على ثلاثة مقاعد من أصل خمسة في هيئة رئاسة السوفييت، بينما لم يكن لديهم سوى 28 نائبا من أصل 248 نائبا في الجلسة العامة[1].
[Source]
منذ الربيع فصاعدا شن البلاشفة حملة نشطة لإجراء انتخابات جديدة للسوفييتات. خلال الثورة تتعلم الجماهير بسرعة من تجربتها الخاصة. صحيح أن السوفييتات معبر أكثر صدقا عن الحالة المزاجية المتغيرة للجماهير ووعيها أكثر من أي برلمان. لكن حتى السوفييتات تخلفت عن الوضع المتغير بسرعة، وكانت في أغلب الأحيان تعكس أفكار وتطلعات الجماهير بالأمس وليس أفكارها وتطلعاتها اليوم. كان البلاشفة أقوياء دائما في لجان المصانع لأنها كانت الأقرب إلى العمال في القواعد ومن ثم كانت تعكس بسرعة أكبر المزاج الحقيقي الموجود في القاع.
شهد تكوين السوفييتات تحولا جذريا بين شهري غشت وشتنبر. وقد شكلت قضية كورنيلوف، مرة أخرى، نقطة التحول الحاسمة. فتهديد الثورة المضادة دفع السوفييتات إلى المطالبة باتخاذ إجراءات حاسمة، وبدأت الشعارات البلشفية بخصوص القطيعة مع البرجوازية و”كل السلطة للسوفييتات” تتغلغل بين صفوف الجماهير. بدأت اللجنة التنفيذية السوفياتية تغرق تحت جبال البرقيات التي تطالبها بالاستيلاء على السلطة. وعلى الرغم من أن السيرورة لم تكن بوتيرة واحدة، فإن الاتجاه العام، من ذلك الوقت فصاعدا، صار في صالح البلاشفة بشكل واضح. كانت اللجنة التنفيذية السوفياتية ما تزال متمسكة بسياستها المشؤومة في دعم الحكومة المؤقتة، لكنها لم تكن تحظى سوى بأغلبية ضئيلة. كان هناك 86 مندوبا لصالح إعطاء السلطة للسوفييتات، مقابل 97 معارضا فقط. لكن الوضع كان يتغير كل يوم، بل وكل ساعة تقريبا.
حدث تحول حاسم في الأسبوع الأول من شهر شتنبر، عندما انتقلت السيطرة على سوفييت بتروغراد إلى أيدي البلاشفة. ظهر ميزان القوى الجديد عندما حصل قرار اقترحه البلاشفة، يطالب بتشكيل حكومة من العمال والفلاحين، على 229 صوتا لصالحه مقابل 115 صوتا ضده وامتناع 51 عن التصويت، مما أظهر أن العديد من العمال المناشفة والاشتراكيين الثوريين قد صوتوا لصالح البلاشفة. نتيجة لذلك أعلنت القيادة الإصلاحية المصدومة استقالتها. شعر الإصلاحيون بالذعر إزاء فقدانهم لهذا السوفييت الرئيسي، فبدأوا على الفور حملة غاضبة على صفحات إزفستيا، زاعمين، كما هي العادة في مثل هذه الحالات، أن الاجتماع لم يكن تمثيليا، ودعوا جميع المندوبين إلى حضور الاجتماع الموالي من أجل إسقاط القرار[2].
كانت جلسة 09 شتنبر ساخنة جدا. كان الجميع يدرك الأهمية الحيوية للنتيجة. عملت جميع الفصائل على أن يحضر جميع مندوبيها. كان هناك حوالي 1000 مندوب حاضرين. خشي الوفد البلشفي من عدم تمكنهم من الحصول على الأغلبية بمفردهم لأجل الإطاحة بالرئاسة، فاقترحوا أن يكون التصويت على أساس نسبي. أدان لينين هذه الخطوة الإجرائية، التي كان يخشى أن تشوش على جوهر القضية التي يدافع عنها البلاشفة. كانت القضية هي مسألة سلطة العمال، ولا ينبغي السماح لأي قدر من المشاحنات الدستورية بإخفاء ذلك. لكنه لم يكن هناك ما يبرر قلق لينين، فالقضايا كانت واضحة بما فيه الكفاية للجميع، وكان لذلك الاقتراح الإجرائي ميزة أنه ساعد في كسب العناصر المترددة، أي مجموعة مارتوف وحتى الاشتراكيين الشعبيين الأكثر يمينية. وعلى أي حال، فقد قام رئيس الجلسة، تسيريتيلي، برفض التسوية لكونها خارج جدول الأعمال. لكن اليمين أخطأ حساباته. فمن خلال رفضهم للحل الوسط وإلزام المندوبين بالتصويت على قرار مباشر طرحه الإصلاحيون، يقول بأن التصويت السابق في 01 شتنبر لا يتوافق مع خط السوفييتات، ويجدد الدعم للقيادة القديمة، أجبروا البلاشفة على الانتقال إلى الهجوم ورفع حدة الاستقطاب داخل الاجتماع. لقد صارت المسألة: “إما هذا… أو ذاك”.
كان تروتسكي هو المتحدث الرئيسي باسم البلاشفة، في أول ظهور علني له منذ إطلاق سراحه. تم استقباله بتصفيق حار من جانب جزء من القاعة، قبل أن يشن هجوما عنيفا على الرئاسة. سألهم هل ما يزال كيرينسكي عضوا في هيئة الرئاسة، نعم أم لا؟ وضع السؤال هيئة الرئاسة في موقف جد حرج. وبعد ترددهم للحظة، جاء الجواب بالإيجاب، وهو ما استغله تروتسكي إلى أقصى الحدود، حيث قال: «لقد اعتقدنا اعتقادا راسخا أنه لن يُسمح لكيرينسكي بالجلوس في منصة الرئاسة. لكننا كنا مخطئين. إن شبح كيرينسكي يجلس الآن بين دان وتشيدز… وبالتالي فإنه عندما يقترحون عليكم الموافقة على الخط السياسي للرئاسة، لا تنسوا أنكم ستوافقون بذلك على سياسات كيرينسكي»[3]. حتى في هذه المرحلة كان البلاشفة لا يوجهون نيرانهم بشكل رئيسي نحو الإصلاحيين، بل كانوا يركزون دائما على البرجوازيين وكيرينسكي الذي كان قد صار متماهيا بشكل كامل مع البرجوازية. ومن خلال هذه الدعاية الماهرة، نجحوا في كسب العمال الذين كانوا حتى وقت قريب يقفون بحزم خلف المناشفة والاشتراكيين الثوريين. ومن خلال تركيز هجماتهم على العدو الطبقي، تمكنوا من أن يفضحوا بشكل منهجي سياسات التعاون الطبقي التي يتبناها الإصلاحيون وجبنهم وعدم رغبتهم في مواجهة أعداء العمال والفلاحين، وبالتالي دقوا إسفينا بين الإصلاحيين وبين مؤيديهم.
جاءت نتيجة التصويت واضحة جدا: 414 صوتا لصالح التحالف؛ 519 صوتا ضد التحالف؛ وامتناع 67. كان انتصار البلاشفة هذا عظيما لكون الإصلاحيين لم يدخروا أي جهد في إغراق الاجتماع بمؤيديهم وأصروا على تحويل التصويت إلى استفتاء حول هذه القضية: التحالف أو السلطة للسوفييتات؟ الإصلاحية أو البلشفية؟ وكانت الهزيمة ضربة قوية للجناح اليميني. كانوا قد استثمروا الكثير من أجل الفوز في هذا الاجتماع إلى درجة أن خسارتهم للأصوات حطمتهم تماما. ومن ناحية أخرى شعر الجناح اليساري بالثقة واستغل الوضع لصالحه. في 11 شتنبر عندما دافع دان، في سوفييت بتروغراد، عن التحالف ضد موقف تروتسكي الذي دافع عن تشكيل حكومة سوفياتية، تم رفض التحالف بعشرة أصوات فقط، وامتناع سبعة عن التصويت، أما الآن فقد حسمت المعركة في بتروغراد بشكل كامل.
صار المد يتدفق بقوة لصالح البلاشفة في كل مكان. يوم 05 شتنبر، أعلن مؤتمر سوفييت وسط سيبيريا دعمه الكامل للبلاشفة. وسرعان ما حذت موسكو حذوه، حيث فاز البلاشفة بالأغلبية ليس فقط في مجلس السوفييت، بل كذلك في لجنة الجنود التي كانت موجودة بشكل منفصل عنه. وفي انتخابات اللجنة التنفيذية السوفيتية لعمال موسكو، التي عقدت في 19 شتنبر، فاز البلاشفة بـ 32 مقعدا مقابل 16 مقعدا للمناشفة. تم انتخاب نوغين رئيسا. وفي 05 أكتوبر، قدم البلاشفة قرارا بشأن الوضع الراهن في جلسة سوفييت العمال والجنود وكانت النتيجة 335 صوتا مع القرار، مقابل 254 صوتا ضده. لكن الوضع في اللجنة التنفيذية لسوفييت الجنود كان مختلفا، فهنا استمر البلاشفة أقلية، حيث حصلوا على 16 مقعدا مقابل 26 مقعدا للاشتراكيين الثوريين وتسعة للمناشفة – وهو الوضع الذي استمر حتى ثورة أكتوبر. لهذا السبب كانت الاجتماعات العامة المشتركة بين اللجنتين التنفيذيتين تشهد توازن القوى بين الفصائل المتصارعة وكان البلاشفة يجدون أنفسهم في بعض الأحيان في موقع الأقلية، على الرغم من أنهم عادة ما كانوا يتمكنون من تمرير توصياتهم. من جهة أخرى تمكن البلاشفة منذ شهر ماي من كسب الأغلبية في منطقة موسكو ككل[4].
كان للبلاشفة موقع قوي في المناطق الشمالية المحيطة ببتروغراد. ففي سوفييت كرونشتاد كان لديهم 100 مندوب، بينما كان للاشتراكيين الثوريين اليساريين 75 مندوبا، و12 للمناشفة الأمميين و07 مندوبين للاسلطويين، بقية المندوبين (90) كانوا مستقلين. كما حصل البلاشفة على الأغلبية في فنلندا – خاصة في هيلسينغفورس وفيبورغ، حيث كانت سلطة الحكومة المؤقتة قد سقطت فعلا منذ شتنبر. في إستونيا أيضا كان فوز اليسار واضحا. ففي شتنبر كانت الغالبية العظمى في ريفال ودوربات وويندن إلى جانب البلاشفة والاشتراكيين الثوريين اليساريين. وفي اللجنة الإقليمية المنتخبة في أكتوبر، كان هناك ستة بلاشفة وأربعة اشتراكيين ثوريين يساريين ومنشفي أممي واحد واشتراكي ثوري يميني واحد. قطع مجلس أسطول البلطيق -سنتروبالت- جميع العلاقات مع الحكومة المؤقتة وبدأ يسير شؤونه الخاصة بنفسه. و في منتصف شهر أكتوبر صوت الفيلق الخامس، الذي كان يعتبر من أرقى أفواج الخطوط الأمامية، لتشكيل لجنة جديدة ضمت أغلبية بلشفية. وهكذا لم تقف بتروغراد وحدها إلى جانب البلاشفة، بل جميع المناطق المحيطة بها أيضا.
إن الكفاح من أجل كسب النفوذ داخل النقابات، التي هي الأجهزة الأساسية لتنظيم الطبقة العاملة، احتل تاريخيا مكانة مركزية في استراتيجية الحزب البلشفي وتكتيكاته. ومع ذلك فخلال الثورة الروسية، وبينما استمر النضال من أجل السيطرة على النقابات بلا هوادة، صار في المركز الثاني خلف النضال الموازي داخل السوفييتات ولجان المصانع. كانت هناك عدة أسباب لذلك. ففي روسيا القيصرية عاشت النقابات العمالية حياة محفوفة بالمخاطر في ظل نظام استبدادي عرض أعضاءها، في كثير من الأحيان، للاعتقالات وجميع أنواع الحظر التي قيدت بشدة حريتها في الحركة. وهكذا ففي عام 1917 كانت النقابات في حالة ضعيفة نسبيا، حيث كانت لا تضم سوى أقلية صغيرة من العمال، معظمهم من العمال الأكثر تأهيلا والأفضل أجرا. أما أغلبية العمال غير المنظمين الذين تدفقوا إلى ساحة النضال بعد شهر فبراير فقد نظموا أنفسهم بشكل تلقائي في السوفييتات ولجان المصانع التي كانت أكثر مرونة وأكثر تمثيلية من النقابات التي غالبا ما كانت تحت سيطرة العناصر المحافظة التي كانت تميل بشكل طبيعي إلى المناشفة وليس إلى الجناح الثوري.
كانت لجان المصانع من بين المؤسسات الأولى التي التحقت بالبلاشفة. وبحلول يونيو -يوليوز كانت لجان مصانع بتروغراد قد صارت بالفعل تحت سيطرة البلاشفة. خلال كونفرانس لجان المصانع الثالث لعموم روسيا (17-22 أكتوبر)، كان أكثر من نصف المندوبين ذوي الحق في التصويت (البالغ عددهم 167 عضوا) من البلاشفة الذين تمتعوا أيضا بدعم 24 مندوبا اشتراكيا ثوريا، بينما كانت المعارضة تتألف من سبعة مناشفة و13 من النقابيين اللاسلطويين. كان ذلك كما قال تروتسكي بفخر: «أوضح تعبير عن الدعم البروليتاري المباشر والأكيد في البلد بأسره»[5].
بطبيعة الحال لم يكن العمل في السوفييتات ولجان المصانع يعني أن البلاشفة أهملوا النقابات. بل على العكس تماما، إذ طيلة عام 1917 كانت النقابات العمالية ميدانا للصراع المستمر بين التيار الثوري والقادة الإصلاحيين. كان تقدم البلاشفة أسرع بين عمال الصلب في بتروغراد، حيث حققوا بشكل سريع نجاحا ساحقا. كان العمال يلتحقون بشكل جماعي بالبلاشفة خلال اجتماعات المصانع التي كانت جميع القرارات الرئيسية تتخذ فيها بالتصويت عبر رفع الأيدي. وهناك أيضا كانت فئات شابة جديدة تنجذب على الفور نحو الجناح الثوري. وقد كانت تلك الفئات بالذات هي التي غيرت الوضع الداخلي للحزب البلشفي نفسه. في أبريل كان جميع أعضاء اللجنة التنفيذية في نقابة عمال الصلب في بتروغراد، باستثناء أربعة منهم، من البلاشفة. وبحلول يونيو كان لمنظمة بتروغراد جهاز كامل يضم أكثر من مائة شخص يتلقون أجورهم من صندوق النقابة. ومن بتروغراد امتد تأثير الحزب في النقابات إلى مناطق أخرى. بحلول شهر ماي، صارت نقابات عمال الصلب تضم 54.000 عضو، وبحلول غشت صارت تضم 138.000 عضو[6]. وبالنظر إلى أن إجمالي القوى العاملة في صناعة الصلب كان في يناير 1917، يبلغ 546.100 عامل، فإن ذلك يمثل نسبة كبيرة من بين إحدى الفئات الرئيسية من البروليتاريا. وبحلول نهاية العام صرحت تلك النقابات أنها صارت تضم 544.527 عضوا في 236 فرعا.
أما في نقابة عمال النسيج، الذين كانوا يشكلون ثاني أهم مجموعة، فقد كانت الصورة أكثر اختلاطا. في يونيو صرحت النقابة أنها تضم 240.000 عضو، ويمكن أن تكون قد وصلت إلى 400.000 عضو بحلول أكتوبر. كان ذلك الرقم نصف إجمالي العاملين في القطاع. كانت النساء تشكلن الجزء الأكبر من القوى العاملة فيه. وقد تأثر القطاع بالبطالة بشدة، لذلك كان المطلب الرئيسي في البداية هو إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية الملحة بدلا من السياسة الثورية. وهذا ما يفسر سبب سيطرة المناشفة والاشتراكيين الثوريين على النقابة في الفترة التي تلت فبراير (باستثناء بتروغراد، حيث كانت للبلاشفة مجموعة صغيرة قبل ثورة فبراير، سرعان ما أصبحت القوة المهيمنة). لكن البلاشفة، الذين استخدموا مرة أخرى قاعدتهم في بتروغراد كمنصة انطلاق، شرعوا في كسب المواقع الواحد تلو الآخر، بدءا بالمناطق الصناعية الرئيسية. في يونيو دعوا إلى كونفرانس جهوي تم فيه إصدار عدد من القرارات المستوحاة من توصيات بلشفية، طالبت، من بين أمور أخرى، بفرض الرقابة العمالية على الصناعة. زعم قادة المناشفة، بنفس الطريقة التي تلجأ إليها جميع البيروقراطيات النقابية عندما تتعرض للهزيمة، أن الكونفرانس “غير شرعي”. لكنه في الواقع كان يعكس التحول العام نحو اليسار بين العمال الذين بدأوا في التحرر من تأثير القادة الإصلاحيين. اتضحت الحالة المزاجية السائدة بين العمال في حقيقة أن الكونفرانس انتخب لجنة تنفيذية جديدة احتل البلاشفة فيها موقع القيادة. وهكذا، خطوة بخطوة، بدأ العمل الدؤوب والمنهجي الذي قام به التيار الثوري، ينتزع الموقع الواحد منها تلو الآخر من يد المناشفة والاشتراكيين الثوريين. وبحلول غشت تمكن البلاشفة من الحصول على موقع قوي في النقابات الصناعية الرئيسية. يشرح أنويلر نمو البلاشفة في النقابات قائلا:
«بينما لم يحصل البلاشفة في مؤتمر عموم روسيا لنقابات العمال (يونيو 1917) سوى على 36,4% فقط من الأصوات، من أصل 117 مندوبا، فإن الكونفرانس الديمقراطي الذي انعقد في شتنبر، شهد وقوف 58% إلى جانب البلاشفة، مقابل 38% للمناشفة والاشتراكيين الثوريين اليمينيين».
وحدث تغير في الوعي حتى في نقابات العمال ذوي الياقات البيضاء والحرفيين التي عادة ما تكون محافظة. تمكن البلاشفة من كسب العديد من الأنصار داخلها، رغم أنهم استمروا أقلية. ومع ذلك فإن الأمور كانت مختلفة في الهياكل القيادية للنقابات. أدى بطء حركية الهياكل النقابية إلى أن التغيرات التي شهدتها القواعد استغرقت وقتا طويلا قبل أن تنعكس في القمة. وفي العديد من النقابات لم يتمكن البلاشفة من الحصول على القيادة إلا بعد ثورة أكتوبر. بل إن بعضها لعب دورا معاديا للثورة بشكل صريح، لا سيما نقابة موظفي البنوك ونقابة عمال السكك الحديدية لعموم روسيا، وحاولت عرقلة عمل الحكومة السوفياتية بعد الثورة.
بقي البلاشفة، حتى شهر غشت، أقلية صغيرة داخل الطبقة العاملة. كانوا أصغر مجموعة في السوفييتات. وينطبق الشيء نفسه على المجالس المحلية والنقابات. في أبريل بلغ عدد أعضاء الحزب حوالي 80.000. وبحلول غشت وصل العدد إلى 240.000[7]. لكن نفوذ الحزب بين الطبقة العاملة كان ينمو، لا سيما منذ تمرد كورنيلوف. في بعض المناطق، مثل إيفانوفو-فوزنيسينك، كان البلاشفة قد صاروا أغلبية منذ الربيع، لكن تلك الحالات كانت استثنائية. أما في الأقاليم، ولا سيما في المناطق الريفية، فقد كانت الهوة التي تفصل البلاشفة عن الأحزاب الإصلاحية هائلة.
بدت أحداث يوليوز كما لو أنها وقعت شهادة وفاة البلاشفة. لكن الحزب تمكن من استعادة كل المواقع التي فقدها في غضون أسابيع قليلة. كانت تكتيكات البلاشفة في النضال ضد كورنيلوف هي نقطة التحول الحاسمة، حيث حققت للبلاشفة شعبية كبيرة باعتبارهم المقاتلين الأكثر حزما وحيوية ضد الثورة المضادة، وقضت نهائيا على الافتراءات ضدهم بكونهم “معادين للثورة” و”عملاء للألمان”. بدأ المد يتدفق بقوة لصالح البلاشفة لدرجة أصبح من الواضح أن الحكومة المؤقتة عاجزة عن حل أي مشكلة من المشاكل الملحة التي تواجه الشعب الروسي، وأن القادة الإصلاحيين كانوا مجرد عملاء للرأسماليين. اكتسب شعار البلاشفة: “السلام والخبز والأرض” قاعدة أوسع من أي وقت مضى.
بحلول أواخر غشت وأوائل شتنبر، أصبح البلاشفة القوة الجماهيرية الرئيسية، ليس فقط في بتروغراد وموسكو، بل وفي الأقاليم أيضا. وعلى الرغم من أن الحزب استمر صغيرا نسبيا في ما يخص العضوية، فقد كان لكل عضو علاقة مع 20 أو 30 أو 50 عاملا وجنديا يعتبرون أنفسهم بلاشفة. في ظل تلك الظروف، عندما كان المد يتدفق بقوة لصالح التيار الثوري، كان حتى الاضطهاد يخدمه كحافز للنمو. والعمال الذين ينظمون الإضرابات من أجل الحصول على أجور أعلى، مما يعرضهم لحملة من الاستهجان من قبل الصحافة البرجوازية التي كانت تهاجمهم باعتبارهم بلاشفة، بدأوا يقتنعون تماما بعدالة قضية البلاشفة، على الرغم من أنهم لم يكونوا قد قرأوا ولو سطرا واحدا من كتابات لينين. كان التيار البلشفي ينمو لسبب بسيط هو أن سياساته وشعاراته كانت تتوافق بشكل وثيق مع احتياجات وتطلعات العمال والفلاحين.
«خلال الكونفرانس السابع لعموم روسيا، في الأسبوع الأول من شهر ماي[8]، حضر 149 مندوبا يمثلون 79.204 عضو حزبي. كانت أكبر التجمعات هي تلك القادمة من إقليمي بتروغراد والأورال (أكثر من 14.000 لكل منهما)، مع حضور مهم لإقليم موسكو (7000 عضو) وحوض دونيتس (5000 عضو). زادت قوة الحزب بسرعة في الأشهر القليلة التالية. في غشت أخبر سفيردلوف المؤتمر السادس أن عدد المنظمات ارتفع من 78 إلى 162، وقدر القوة الكلية للحزب بـ 200.000 عضو. لا تتوفر معلومات حول عدد أعضاء الحزب بحلول نوفمبر، لكن من المفترض أنه قد حدثت زيادة أخرى، حيث إن البيانات غير المكتملة المتاحة لسكرتارية اللجنة المركزية حول عضوية المنظمات تظهر حدوث زيادة بعد شهر غشت في عدد من المنظمات»[9].
انعكس نمو الحزب في عدد كبير من الإحصائيات. تحقق النصر الأول في لجان المصانع. كان ذلك الأمر مهما لأن لجان المصانع هي المنظمات التي تعكس بشكل وثيق المزاج الحقيقي للعمال في أماكن العمل. ازدهرت لجان المصانع بشكل فوري بعد ثورة فبراير، باعتبارها استمرارا للجان الإضراب. كانت في طليعة النضال من أجل يوم عمل من ثماني ساعات، والذي كثيرا ما نفذه العمال بمبادرة ذاتية منهم. لقد استقبلت لجان المصانع مطلب الرقابة العمالية الذي رفعه البلاشفة بتأييد كبير، وعملت على فرضه في العديد من الشركات حيث مارست الرقابة على عمليات التوظيف والتسريح وتشكيل ميليشيات عمالية ومكافحة محاولات أرباب العمل تخريب الإنتاج.
خلال الفترة الممتدة ما بين 30 ماي و03 يونيو، انعقد أول مؤتمر للجان المصانع في بتروغراد. شهد ذلك المؤتمر صداما مريرا بين البلاشفة والمناشفة حول دور ومهام اللجان. كان المناشفة يعارضون بطبيعة الحال الرقابة العمالية التي تتعارض مع كامل مفهومهم عن الطبيعة البرجوازية للثورة وحق البرجوازيين في الحكم. لكن المؤتمر صادق على القرار البلشفي. شارك لينين في ذلك المؤتمر وصاغ القرار “حول تدابير مواجهة الاضطراب الاقتصادي”، الذي تمت المصادقة عليه بأغلبية كبيرة. ابتداء من صيف عام 1917 صارت لجان المصانع في بتروغراد وموسكو والأورال بلشفية بشكل راسخ.
كانت هناك الكثير من الأدلة الأخرى على أن البلاشفة يكسبون المواقع. فحتى في انتخابات المجالس البلدية، كان البلاشفة يحصلون على نتائج مذهلة. خلال الانتخابات المحلية التي أجريت في غشت، في بتروغراد، زادوا عدد مقاعدهم من 37 إلى 67، واحتلوا المركز الثاني خلف الاشتراكيين الثوريين الذين حققوا 75 مقعدا. حصل الكاديت على 42 مقعدا، لكن المناشفة شهدوا انخفاض عدد مقاعدهم من 40 إلى 08 فقط. هذا يظهر بوضوح الميل القوي نحو اليسار. والشيء الأكثر إثارة للدهشة كان هو نتائج الانتخابات المحلية في موسكو. يقارن الجدول التالي تلك النتائج بنتائج انتخابات يونيو:
جدول يوضح نتائج الانتخابات المحلية بموسكو حسب الشهور | ||||
عدد الأصوات | النسبة المائوية | |||
الأحزاب | يونيو | شتنبر | يونيو | شتنبر |
الاشتراكيون الثوريون | 374.885 | 54.374 | 58 | 14 |
المناشفة | 76.407 | 15.887 | 12 | 4 |
الكاديت | 168.781 | 101.106 | 17 | 26 |
البلاشفة | 75.409 | 198.230 | 12 | 51 |
(المصدر: O. Anweiler, Los Soviets en Rusia: 1905-1921, p. 188.) |
هذا مهم لأنه كانت تلك أول مرة يحصل فيها البلاشفة على أغلبية مطلقة من الأصوات. تشير أرقام شهر يونيو إلى انتخابات مجلس دوما مدينة موسكو، في حين تشير أرقام شهر شتنبر إلى انتخابات المقاطعات. وفي هذه الأخيرة لم تكن المشاركة عالية جدا (50%). ومع ذلك فإن هذا لا يقلل من أهمية النتيجة المحققة. يجب ألا ننسى أن انتخابات البرلمان والمجالس المحلية ليست المجال الأكثر ملاءمة بالنسبة للحزب الثوري. يكون من الأسهل على الحزب الثوري عموما الحصول على نتائج أفضل في انتخابات النقابات أو لجان المصانع. وقد كان هذا هو الحال بشكل خاص في روسيا عام 1917، عندما كان انتباه الجماهير مركزا على السوفييتات. لكن رغم ذلك، فمن أجل الوصول إلى أوسع فئات المجتمع، لم يتجاهل البلاشفة حتى الانتخابات المحلية. كانت نتيجة انتخابات موسكو ذات أهمية كبيرة لأنهم تمكنوا لأول مرة من الفوز بأغلبية مطلقة في مركز حضري مهم.
في بيترسبوغ كان نفس الاتجاه واضحا، وإن لم يكن بنفس الدرجة التي كان عليها في موسكو. ما بين غشت ونوفمبر ارتفعت الأصوات التي حصل عليها البلاشفة من 184.000 إلى 424.000؛ في حين انخفضت أصوات الاشتراكيين الثوريين من 206.000 إلى 152.000، وارتفعت أصوات الكاديت من 114.000 إلى 274.000. المثير للدهشة هو أن المناشفة زادوا بدورهم من عدد أصواتهم من 24.000 إلى 29.000، لكن هذا التقدم النسبي لم يكن ليخفي حقيقة أنهم كانوا قد أصبحوا أقلية صغيرة آنذاك وأنهم توقفوا عمليا عن أن يكونوا قوة حقيقية داخل الطبقة العاملة في العاصمة.
آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي
هوامش:
[1]J.L.H. Keep, The Rise of Social Democracy in Russia, p. 142.
[2]O. Anweiler, Los Soviets en Rusia: 1905-1921, p. 189.
[3]L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p. 805.
[4]O. Anweiler, Los Soviets en Rusia: 1905-1921, pp. 190-91.
[5]L. Kochan, Russia in Revolution, p. 269.
[6]J.L.H. Keep, The Rise of the Social Democracy in Russia, p. 101.
[7]O. Anweiler, Los Soviets en Rusia, p. 187 and p. 186.
[8]شهر ماي في التقويم الجديد، ويقصد به شابيرو كونفرانس أبريل.
[9]L. Schapiro, The Communist Party of the Soviet Union, p. 171.