لقد وصلت ساعة العمل الحاسم. وبحلول ذلك الوقت كان صبر العمال البلاشفة في القاعدة قد بدأ ينفذ بسبب عدم اتخاذ القيادة لإجراءات حاسمة. في 19 أكتوبر (01 نوفمبر)، وخلال اجتماع سري للجنة المركزية، قرأ لينين مرة أخرى بيانا يؤكد على ضرورة تنظيم الانتفاضة فورا. ومع معارضة صوتين اثنين فقط -صوتا كامينيف وزينوفييف- تقرر أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ الثورة من الخراب هي الانتفاضة المسلحة. لكن رفيقي لينين القدامى، كامينيف وزينوفييف، المقتنعين بأن الانتفاضة ستكون كارثية بالنسبة للحزب والثورة، شنا حملة محمومة لوقفها. وفي 18 أكتوبر وصلا إلى أقصى حد بنشرهما لمقال في جريدة غير حزبية، جريدة غوركي نوفايا جيزن، تعارض بشكل صريح تنظيم الانتفاضة باعتبارها “عملا يائسا” من شأنه أن يؤدي إلى “العواقب الأكثر تدميرا على الحزب وعلى البروليتاريا وعلى مصير الثورة”. والجدير بالذكر أن الرسالة، التي صدرت بتوقيع كامينيف، أعلنت أنها لا تتحدث باسم عضوين فقط داخل اللجنة المركزية، بل باسم عدد كبير (لم يتم تسميتهم) من “قادة الحزب”، تقول المقالة:
[Source]
«ليس فقط أنا والرفيق زينوفييف، بل وكذلك عدد من الرفاق قادة الحزب، نعتقد أن أخذنا المبادرة في شن انتفاضة مسلحة في الوقت الحاضر، في ظل موازين القوى الطبقية الحالية، وبشكل مستقل عن مؤتمر السوفييتات، وقبل بضعة أيام على انعقاده، ستكون خطوة غير مقبولة، وكارثية على البروليتاريا»[1].
أقل ما يمكن أن نقول عن ذلك التصرف هو أنه انتهاك خطير للانضباط الحزبي. فمن خلال تصريحهما العلني ضد الانتفاضة المسلحة، أفشى كامينيف وزينوفييف للعدو بأسرار قرارات الحزب الرئيسية بشأن الانتفاضة، التي كان من المفترض أن تبقى سرية للغاية. لينين الذي أثار عنده هذا التصرف غضبا شديدا كتب، في إجراء غير مسبوق، رسالة حانقة إلى اللجنة المركزية يدين فيها كامينيف وزينوفييف باعتبارهما كاسري إضرابات وطالب بطردهما من الحزب[2]. في الواقع لم تصادق اللجنة المركزية على اقتراح لينين. وقد استقال كامينيف (لكن ليس زينوفييف) من اللجنة المركزية، وتم منع كلا الرجلين من الإدلاء بأي تصريحات أخرى تتعارض مع قرارات اللجنة. لكنهما لم يُطردا ولم يُطلب منهما إدانة أفعالهما. لم تكن محاكم الاعترافات الستالينية وعمليات الإدانة القسرية قد ظهرت بعد. وعلى الرغم من الطبيعة الخطيرة للخطأ الذي ارتكباه فإنه لم يستعمل ضدهما. وفي اليوم التالي للانتفاضة، حضر كامينيف وزينوفييف إلى مقر الحزب البلشفي وتم تقليدهما مناصب مسؤولة داخل الحزب والدولة السوفياتية.
لم تتسبب قضية كامينيف-زينوفييف في ضرر دائم. لقد كان المد يتدفق بقوة في اتجاه الانتفاضة. وفي مثل تلك الظروف يكون من الممكن عادة تصحيح أخطاء الثوار إذا توفرت قيادة ذكية تحافظ على رباطة جأشها. لكن العكس صحيح في معسكر الردة الرجعية، فبفعل غرقهم في مشاكل من جميع الجهات، ومحاصرتهم بمجموعة من التناقضات، صار السياسيون الرجعيون، الذين لم يكونوا بالأمس يرتكبون أي خطأ، فجأة لا يستطيعون فعل أي شيء صحيح. هذا هو تفسير التعليقات المتكررة حول “عجز” و”تصلب” و”غباء” كيرينسكي والقيصر نيكولا والملك لويس وماري أنطوانيت وتشارلز الأول، وقائمة طويلة من الشخصيات المماثلة الأخرى. كان الإغريق يقولون: “من ترد الآلهة تدميره، تجعل منه في البداية أحمقا”، لكن إذا دققنا في المسألة سنجد أن ذلك الحمق متجذر في الواقع الموضوعي. يؤدي النظام الاجتماعي المفلس إلى وضع مأزوم، وفي مثل ذلك الوضع المأزوم تكون الخيارات محدودة وتتضاعف احتمالات الخطأ ألف مرة. في ظل الظروف التاريخية المواتية يكون من الممكن حتى للحمقى والتافهين أن يحكموا بنجاح (وكثيرا ما يفعلون). لكن عندما يمرض النظام السياسي والاجتماعي ويشرف على الموت، لا تكون حتى لأكثر الوزراء موهبة وبراعة القدرة الكافية لإنقاذ النظام. تكون مثل تلك الأنظمة ممزقة بالأزمات الداخلية والانقسامات في القمة. يحاول أحد أقسام الطبقة السائدة درء الكارثة من خلال تقديم التنازلات، بينما يحاول القسم الآخر وقف موجة التمرد المتصاعدة بنهج سياسة القمع. وتكون النتيجة هي ظهور التذبذبات وقلة الكفاءة. هذا كله لا يعني أن نوعية القيادة الثورية غير مهمة. بل على العكس. فحتى أفضل الظروف المواتية يمكن أن تضيع خلال الحروب والثورات. لو أن زينوفييف وكامينيف وستالين هم من كانوا على رأس الحزب البلشفي، بدلا من لينين وتروتسكي، لكانت الفرصة قد ضاعت كليا بلا شك. عندها كان كل هؤلاء المؤرخين الأذكياء الذين يتحدثون الآن عن غباء كيرينسكي ونيكولا لعدم قيامهما بهذا الإجراء أو ذاك، سيكتبون اليوم أطروحات دكتوراه حول مدى ذكائهما وبُعد نظرهما، وحول كم كان لينين وتروتسكي طوباويان لتخيلهما أنه يمكن للعمال الاستيلاء على السلطة.
يمكن للصدف أن تلعب بالتأكيد دورا في التاريخ، بما في ذلك الأخطاء، والنظام الذي يكون على حافة الهاوية يكون أكثر عرضة لارتكاب الأخطاء. ارتكبت الحكومة المؤقتة خطأ من الدرجة الأولى عندما طالبت بإرسال ثلثي حامية بتروغراد إلى الجبهة. كانت تلك محاولة خرقاء لإضعاف الحامية الثورية في العاصمة، لكنها كانت هدية للبلاشفة، لسببين: أولا، لأنها تسببت في خلق موجة من السخط داخل الثكنات، مما دفع حتى أكثر الفئات تخلفا نحو البلاشفة. بدأت حتى تلك الفيالق التي شاركت في قمع مظاهرات يوليوز في إصدار قرارات تدين الحكومة المؤقتة وتدعو السوفييتات إلى الاستيلاء على السلطة. وثانيا، لأنها أظهرت أن الحكومة كانت تستعد لشن الهجوم ضد بتروغراد الحمراء. صار من حق الثورة اتخاذ إجراءات للدفاع عن نفسها. كان ذلك شيئا يمكن لأي عامل وجندي أن يفهمه. كما أنها أسكتت المتذبذبين بين صفوف البلاشفة. بل حتى القادة الإصلاحيون اضطروا على مضض أن يعلنوا مواقف شبه معارضة للحكومة.
حتى اللجنة التنفيذية السوفياتية اضطرت لرفض التوقيع على ذلك الطلب. وقاد البلاشفة التحريض ضده، وطالبوا بإنشاء لجنة بتروغراد العسكرية الثورية، وهي هيئة سوفياتية رسمية سرعان ما اكتسبت قوة هائلة وأصبحت عمليا رأس حربة ثورة أكتوبر. عينت لجنة بتروغراد العسكرية الثورية مفوضين عنها في كل متجر ومستودع أسلحة دون أن تواجه أي معارضة. ومنذ ذلك الحين فصاعدا لم يعد من الممكن نقل الأسلحة دون إذن من اللجنة. أثار الأمر الذي وجهه تروتسكي لمصنع سيستروريتسكي للأسلحة بأن يقدم 5000 بندقية للحرس الأحمر الذعر في الأوساط البرجوازية، الأمر الذي أثار بعض العويل بشأن نية البلاشفة ذبح البرجوازيين؛ لكن البنادق وصلت على أي حال. وهكذا فقد كانت الاستعدادات للانتفاضة تجري تحت أنظار السلطات نفسها والتي كانت عاجزة عن منعها.
ومع ذلك فقد كان عدد الحرس الأحمر في بتروغراد قليلا جدا. تتراوح التقديرات ما بين 23.000 وأقل من 12.000. لم يكن في مقدور مثل تلك القوة الصغيرة أن تهزم القوة الهائلة لجهاز الدولة القديم. لكن جوهر الأمر كان هو أن العمل السياسي الذي قام به البلاشفة خلال الأشهر التسعة التي سبقت أكتوبر، قد نجح في كسب الجماهير، وبالتالي الأقسام الحاسمة داخل الجيش أيضا. وبكونه قائد لجنة بتروغراد العسكرية الثورية، كان تروتسكي مسؤولا شخصياً عن كسب حامية بتروغراد، كما يشير مارسيل ليبمان قائلا:
«في 23 أكتوبر، علم قادة الانتفاضة أن حامية القلعة رفضت الاعتراف بسلطة اللجنة العسكرية الثورية. اقترح أنتونوف- أوفسينكو إرسال كتيبة ثورية لنزع سلاح الحامية والحلول محلها. لكن تروتسكي اقترح عوض هذه العملية الخطرة، استخدام أسلوب بلشفي واشتراكي نموذجي، وهو أسلوب التحريض السياسي. ذهب شخصيا إلى القلعة، ودعا إلى عقد اجتماع عام للجنود، وخاطبهم، وتمكن من كسبهم، وأقنعهم بالمصادقة على قرار يعلن استعدادهم للإطاحة بالحكومة المؤقتة.
في حين أن التحضير العسكري للانتفاضة كان ناقصا من بعض الجوانب، فإن الإعداد السياسي لها، خلال الأيام القليلة الماضية وقبل ساعات من بدايتها، كان مكثفا ومثاليا. انضمت الفيالق المتمركزة في العاصمة إلى الانتفاضة بعد الاستماع إلى الخطابات النارية التي ألقاها المندوبون البلاشفة؛ كانت قاعات الاجتماعات الكبرى في بتروغراد، مثل قاعة السيرك الحديث، مليئة دائما، وقد استخدمها الخطباء البلاشفة (وفي مقدمتهم تروتسكي) لإبقاء الحماس الثوري مشتعلا عند العمال والبحارة والجنود. كان شهر أكتوبر كله، سواء في بتروغراد أو في المقاطعات على حد سواء، شهر النشاط السياسي المتواصل: نظمت السوفييتات في مختلف المناطق الكونفرانسات والمؤتمرات. نفس الشيء فعله الحزب البلشفي، الذي ان قد اضطر إلى تأجيل مؤتمر استثنائي تم تحديده في نهاية الشهر. في أكتوبر 1917، أخذت الثورة الدائمة شكلا ملموسا في نقاش دائم. وإذا لم تشارك الجماهير بشكل مباشر في الانتفاضة فذلك لأنه لم تكن هناك أي حاجة للقيام بذلك. لقد تمكن اندفاعهم إلى سياسة البلاشفة من إيجاد وسائل أخرى للتعبير، تتناسب مع الطابع البروليتاري والديمقراطي للمشروع، وللتقاليد الاشتراكية»[3].
من المفارقة أن الاستيلاء الفعلي على السلطة بدا وكأنه مهمة ثانوية مقارنة بجميع الأعمال التحضيرية التي جرت من قبل. وفي عمله الضخم، تاريخ الثورة الروسية، يصف تروتسكي بالتفصيل السهولة التي تم بها الاستيلاء على بتروغراد. لقد تم ضمان الطبيعة السلمية للثورة من خلال حقيقة أن البلاشفة، تحت قيادة تروتسكي، كانوا قد كسبوا بالفعل حامية بتروغراد إلى صفوفهم. وفي الفصل الذي عنونه بـ “الاستيلاء على العاصمة”، يشرح الطريقة التي سيطر بها العمال على قلعة بيتر وبولس الرئيسية، قائلا:
«وافق جميع جنود حامية القلعة بارتياح كامل على القبض على القائد، لكن رجال الدراجات احتفظوا بموقف مراوغ. ما الذي يخفيه صمتهم الغامض: عداء خفي أم نزعة تمرد أخيرة؟ كتب بلاغونرافوف: “لقد قررنا عقد اجتماع خاص لرجال الدراجات، ودعوة أفضل المحرضين لدينا، وعلى رأسهم تروتسكي، الذي كان له سلطة ونفوذ هائلين على جماهير الجنود”. على الساعة الرابعة بعد الظهر، التقت الكتيبة بأكملها في المبنى المجاور للسيرك الحديث. قام الجنرال بوراديلوف بأخذ الكلمة بصفته معارضا للحكومة، واشتراكيا ثوريا. كانت اعتراضاته حذرة لدرجة أنها بدت ملتبسة، ولذلك كان هجوم ممثلي اللجنة أكثر تدميرا. انتهت هذه المعركة الخطابية من أجل الفوز بقلعة بيتر وبولس كما كان متوقعا لها: صوت أغلبية الجنود، باستثناء ثلاثين جنديا، لصالح قرار تروتسكي. وهكذا تمت تسوية صراع دموي محتمل آخر قبل اندلاع القتال ودون إراقة الدماء. هكذا كانت انتفاضة أكتوبر وهكذا كان أسلوبها»[4].
أصر لينين منذ البداية على أنه يجب أن تتم الانتفاضة على أساس الحركة الجماهيرية. وقبل ثورة أكتوبر بقليل كتب قائلا: «يجب ألا تعتمد الانتفاضة على مؤامرة أو على حزب، بل على الطبقة الطليعية… يجب أن تعتمد الانتفاضة على هَبَّة ثورية للشعب»[5].
آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي
هوامش:
[1] Protokoly Tsentral’nogo Komitera RSDRP b, p. 116.
[2] LCW, Letter to the CC of the RSDLP(B), vol. 26, pp. 223-27.
[3] M. Liebman, Leninism Under Lenin, pp. 179-80.
[4] L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, vol. 3, pp. 211-12, (خط التشديد من عندي: آ. و)
[5] LCW, Marxism and Insurrection, vol. 26, p. 22.