استقبل القادة الإصلاحيون للسوفييتات تلك النداءات بآذان صماء. وكان جبن المناشفة والاشتراكيين الثوريين ورفضهم تولي السلطة، يعني أن المبادرة ستنتقل حتما إلى معسكر الردة الرجعية. النظام القيصري لم يكن قد هزم بشكل حاسم، على الرغم من التغيير الذي كان قد حدث في شهر فبراير. وخلف ستار الجبهة الشعبية الروسية (الحكومة المؤقتة)، كانت الطبقة الحاكمة تعيد تجميع صفوفها وتستعد للانتقام. وكانت النتيجة هي ردة “أيام يوليوز” الرجعية. كانت النتيجة هي هجوم فاتح يوليوز. ففي نفس اليوم الذي تظاهر فيه العمال والجنود في شوارع بتروغراد مطالبين بالسلام ونشر المعاهدات السرية، شن كيرينسكي هجوما جديدا. نظمت مظاهرات وطنية “عفوية” في شارع نيفسكي، حيث تنافست السيدات والسادة البرجوازيين الأنيقين مع الضباط والصحفيين في الهجوم ضد البلاشفة. وعاد الرجعيون يزحفون مرة أخرى بعد أن استعادوا شجاعتهم بأنباء الهجوم.
[Source]
في مؤتمر السوفييتات، احتجت الأقلية البلشفية بشدة على ذلك الهجوم، مشيرةً إلى أنه سيؤدي إلى تقوية العناصر الرجعية داخل القوات المسلحة، التي ستستفيد من الموقف لمحاولة إعادة فرض الانضباط واستعادة السيطرة. وأن الثورة ستقع في خطر كبير. كتب لينين قائلا:
«إن الهجوم، مهما كانت نتائجه من وجهة النظر العسكرية، سيعني تقوية المعنويات الإمبريالية سياسيا، وتعزيز المشاعر الإمبريالية، وترسيخ الافتتان بالإمبريالية. وهذا يعني تقوية موقف قادة الجيش القدامى الذين لم يتغيروا (“شن الحرب كما كنا نشنها حتى الآن“)،وتعزيز الموقف الرئيسي للثورة المضادة».
وقد وجدت هذه التحذيرات تأكيدا لها في شخص الجنرال كورنيلوف. لو نجح الهجوم، لكان سيشجع القوى الرجعية ويدفع بفئة من البرجوازيين الصغار والفلاحين نحو معسكر البرجوازية، ويعزل البروليتاريا الثورية. أما إذا فشل، فقد يؤدي إلى الانهيار التام للجيش، مما سينتج عنه إحباط معنويات الجماهير. وقد كان هذا الاحتمال هو ما حدث فعلا.
في 02 يوليوز اندلعت أزمة وزارية حول المسألة الأوكرانية، والتي كشفت عن عجز الحكومة المؤقتة المطلق عن حل القضية الوطنية. صارت ضرورة كسر الائتلاف وطرد الوزراء البرجوازيين أكثر وضوحا. لكن كلما ازدادت الأزمة تعمقا، كلما تمسك الوزراء “الاشتراكيون” بالليبراليين البرجوازيين. كان كيرنسكي يتحرك بسرعة نحو اليمين وأصبح من المستحيل تمييزه عن وزراء حزب الكاديت. كان القادة الإصلاحيون مرعوبين من الجماهير. وقد زادتهم مظاهرة يونيو رعبا، وكلما كانوا يرون زيادة تأثير البلاشفة، كلما كانوا يرون تزايد الخطر على موقفهم من جهة اليسار، كلما تشبثوا بحماس باليمين. بينما قام البلاشفة، من جانبهم، بتكثيف حملتهم للمطالبة بأن ينفصل المناشفة والاشتراكيون الثوريون عن الرأسماليين وأن يأخذوا السلطة بأيديهم. كان موقف البلاشفة هذا هو الطريقة الوحيدة في الواقع لكي يتمكنوا من كسب الجماهير. حتى أن لينين أخبر قادة السوفييتات بأنهم إذا استولوا على السلطة، سيضمن لهم البلاشفة أن النضال من أجل السلطة سيقتصر على النضال السلمي لكسب الأغلبية داخل السوفييتات. يشرح تروتسكي ذلك قائلا:
«بعد كل تجارب التحالف، صار يبدو أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى مخرج واحد، أي القطع مع الكاديت وتشكيل حكومة سوفياتية بحتة. كان من شأن مطلب تشكيل حكومة سوفياتية في ظل موازين القوى التي كانت سائدة داخل السوفييتات آنذاك أن يعني، من وجهة النظر الحزبية، تركيز السلطة في أيدي الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. كنا ندفع بشكل مقصود من أجل تحقيق هذه النتيجة، لأن إعادة انتخاب السوفييتات بشكل متكرر وفرت الآلية اللازمة لضمان تعبير صادق بما فيه الكفاية عن مزاج التجذر المتزايد لجماهير العمال والجنود. لقد توقعنا أن انهيار الائتلاف مع البرجوازية سوف يؤدي بالضرورة إلى تمكين التيارات الراديكالية من أن تكتسب الهيمنة داخل السوفييتات. وفي مثل هذه الظروف سوف يتحول نضال البروليتاريا من أجل السلطة بشكل طبيعي إلى نضال داخل المنظمات السوفياتية، وسيستمر بطريقة سلمية».
كان الضغط من أجل القيام بتحرك حاسم يتصاعد من جانب العمال والجنود في بتروغراد. ومرة أخرى دعا البلاشفة إلى تنظيم مظاهرة مسلحة للضغط على القادة السوفياتيين. يشرح تروتسكي دوافع البلاشفة قائلا:
«كان ما يزال هناك بعض الأمل في أن تؤدي مظاهرة الجماهير الثورية إلى انهيار العناد العقائدي لأنصار الائتلاف وتجبرهم على أن يدركوا أخيرا أنهم لا يستطيعون البقاء في السلطة إلا إذا قطعوا بشكل كامل مع البرجوازية. وعلى عكس كل ما قيل وكتب في الصحافة البرجوازية آنذاك، لم تكن لدى حزبنا أي نية في الاستيلاء على مقاليد السلطة عن طريق تمرد مسلح. لقد كانت مجرد مظاهرة ثورية اندلعت بشكل عفوي على الرغم من أنها استرشدت سياسيا بنا».
كان الجنود هم الأكثر سخطا. استقبل فوج المدفعية الأول، الذي يتمركز في حي فيبورغ العمالي، الأخبار التي تشير إلى أنه سيتم إرسال 500 من أفراد طاقم المدفعية إلى الجبهة بغضب عارم. عندها استخلص أعضاء الفوج، الذي كان تأثير البلاشفة عليهم قويا، النتيجة بأنفسهم: لا بد من الإطاحة بالحكومة المؤقتة. تعاطف العديد من البلاشفة -وخاصة منهم أعضاء المنظمة العسكرية- مع هذا الهدف. يميل العسكريون دائما إلى الإفراط في تقدير قوة السلاح. لكن اللجنة المركزية البلشفية عارضت بشدة أي محاولة للاستيلاء على السلطة في بتروغراد في تلك المرحلة. لم تكن الأقاليم الأخرى جاهزة بعد، وبالتالي فإن الاستيلاء على العاصمة سيكون بمثابة انقلاب. قال لينين:
«يمكن لخطوة واحدة خاطئة من جانبنا أن تدمر كل شيء. إذا تمكنا الآن من الاستيلاء على السلطة، فمن السذاجة الاعتقاد بأننا سنكون قادرين على الاحتفاظ بها… ما زلنا أقلية ضئيلة حتى في سوفييتات العاصمتين، ناهيك عن بقية السوفييتات الأخرى… هذه حقيقة أساسية، وتحدد سلوك حزبنا… ينبغي ألا نستبق الأحداث. إن الوقت في صالحنا».
لكن البلاشفة لم يتمكنوا من منع الانفجار الذي كان على وشك الحدوث. ففي 03 يوليوز، اندفع الجنود والبحارة والعمال، الغاضبين من سعي الحكومة لإرسالهم ليكونوا لحما للمدافع في الجبهة، إلى شوارع العاصمة. كانت تلك انتفاضة عفوية شارك فيها عدد كبير من الناس دون هدف أو استراتيجية واضحة. بدا القادة الإصلاحيون في حالة ذهول عندما حاصر حشد كبير من العمال والبحارة قصر توريد حيث كانت تجتمع اللجنة التنفيذية للسوفييت. جاءت المظاهرة بمبادرة من أسفل، من عمال وجنود بتروغراد، الذين أغضبهم تردد قادة السوفييت، والذين زاد من سخطهم إعلان الحكومة عن هجوم يوليوز. لم يسع البلاشفة آنذاك للاستيلاء على السلطة بل بذلوا قصارى جهدهم لكبح جماح الجماهير، خوفا من عزل بتروغراد عن بقية روسيا.
كتب لوناتشارسكي إلى زوجته في اليوم الموالي: «لقد تطورت الحركة بشكل عفوي. وقد بث المئات السود ومثيرو الشغب والعملاء المندسون واللاسلطويون واليائسون قدرا كبيرا من الفوضى والعبث في المظاهرة». حاول اللاسلطويون وأعضاء المئات السود دفع المتظاهرين إلى مهاجمة المبنى واعتقال قادة السوفييت، وكانت هناك محاولة فعلية لإلقاء القبض على القيادي الاشتراكي الثوري تشيرنوف. مكن هذا الحدث الصحافة الرجعية لاحقا من وصف مظاهرة يوليوز بكونها محاولةانقلابقام بها البلاشفة ضد الثورة والأغلبية السوفياتية. لا توجد ذرة حقيقة في هذه المزاعم. حيث أن اللجنة المركزية البلشفية كانت قد اجتمعت على الساعة الرابعة بعد زوال يوم 03 يوليوز وقررت أن تفعل كل ما هو ممكن لكبح الحركة التي كانت على وشك التحول إلى انتفاضة شاملة. تم إرسال المندوبين على عجل إلى المصانع والثكنات لإقناع الجماهير بالعدول عن الخروج إلى الشوارع، لكن بعد فوات الأوان. كانت الحركة قد بدأت ولم يكن هناك شيء يمكنه أن يوقفها.
وفي وقت متأخر من ليلة ذلك اليوم، قررت اللجنة المركزية، مع لجنة بتروغراد والمنظمة العسكرية، المشاركة في المظاهرة، مراعاة للحالة المزاجية للجماهير، وذلك من أجل منحها طابعا منظما وسلميا. كان لينين آنذاك في عطلة نقاهة لاستعادة قواه بعد الارهاق الذي عاناه خلال الأشهر القليلة الماضية. لكنه بعد أن علم بالتحول المفاجئ للأحداث، سارع إلى العاصمة حيث وجد حالة من الفوضى المنذرة بالخطر. في 04 يوليوز شارك عدد كبير من الناس في المظاهرات. احتشد أكثر من نصف مليون في شوارع بتروغراد دون دعوة ولا هدف ولا قيادة. كان ذلك العدد القليل من اللاسلطويين في بتروغراد مسرورين وكان شعارهم: “الشوارع ستنظمنا!”. لكن الأمور لم تكن بهذه البساطة، كما أظهرت الأحداث اللاحقة.
بحلول 04 يوليوز، اتخذت المظاهرة طابعا ضخما ومهددا. وكان البلاشفة يبذلون كل قواهم لإبقاء الأمور تحت السيطرة.
يتذكر تروتسكي ذلك قائلا:
«قمنا، نحن البلاشفة، باستقبال كل مجموعة جديدة من المتظاهرين، سواء في الشارع أو في القصر، بالخطابات الثورية ندعوهم إلى الهدوء مؤكدين لهم أنه ما دامت الجماهير في مزاجها الحالي، سيكون أنصار التسويات غير قادرين على تشكيل حكومة ائتلافية جديدة. كان بحارة كرونشتادت هم الأشد عزما، وكان من الصعب علينا أن نبقيهم داخل حدود مظاهرة عادية».
تم إرسال تروتسكي لإنقاذ القيادي الاشتراكي الثوري تشيرنوف الذي “اعتقل” من قبل بحارة كرونشتادت. خلال “اعتقاله”، هز أحد العمال الغاضبين قبضته في وجه تشيرنوف وصاح فيه: “عليك أن تستولي على السلطة، يا ابن العاهرة، عندما تسلم إليك!”. ويتذكر تروتسكي مشاعر الشك والتجهم التي حاصرته من جميع الجوانب وهو يشق طريقه عبر صفوف البحارة المتمردين. كانوا ينتظرون من تروتسكي أن يعطيهم الأمر بالاستيلاء على السلطة، لكنه بدلا من ذلك طلب منهم إطلاق سراح سجينهم. صرخ البحارة بغضب في وجه تروتسكي، الذي شعر أنه كان من شأن أدنى كلمة خاطئة أو عمل خاطئ أن يعرضه للاعتداء أو حتى القتل. في الساعة السابعة مساء، اقتحم حشد من عمال مصنع بوتيلوف، المسلحين والغاضبين، اجتماعا للقادة السوفيات المرعوبين. صعد عامل يرتدي زيا أزرق اللون المنصة، ولوح بندقيته في الهواء، وصاح في النواب:
«أيها الرفاق! كم من الوقت يجب أن نتحمل نحن العمال الخيانة؟ أنتم هنا جميعا تناقشون وتجرون الصفقات مع البرجوازية والملاكين العقاريين… أنتم منشغلون بخيانة الطبقة العاملة. حسنا عليكم فقط أن تفهموا أن الطبقة العاملة لن تتحمل ذلك! نحن هنا نمثل 30.000 عامل من مصنع بوتيلوف. وسنواصل طريقنا. كل السلطة للسوفييتات! إننا نتمسك بقوة ببنادقنا! أيها الكيرينسكيون والتسيريتيليون لن تخدعوننا!».
اضطر قادة السوفييت للتفاوض من أجل كسب الوقت بينما كان كيرنسكي يعمل على جلب قوات “موالية” من الجبهة. لكن وصول القوات من الجبهة كان إشارة إلى انطلاق الردة الرجعية. لقد سعى البرجوازيون للانتقام من الخوف الذي عانوا منه. كان الهجوم المضاد من تنظيم قادة السوفييت، الذين استعادوا رباطة جأشهم لحظة وصول فيلق فولهنيان، وأحسوا أنه لم يعد لديهم أي سبب للتفاوض مع المتورطين المزعومين في “التمرد المسلح”. تم إعلان البلاشفة “حزبا معاديا للثورة”. وقامت قوات القوزاق والشرطة بإطلاق النار على المتظاهرين من أسطح المنازل، مما تسبب في حالة من الذعر. وفي وقت لاحق، عندما وصلت القوات الموالية للحكومة ونزعت سلاح المتمردين، نفثت الطبقة الوسطى سموم غضبها. تعرض العمال للضرب على يد السيدات والسادة المحترمين في شارع نيفسكي. كانت هناك حملة من الغارات والاعتقالات والضرب وحتى القتل. في ليلة 04- 05 يوليوز، أعطى وزير العدل ب. ن. بيريفيرجيف الصحف وثائق تصور لينين كعميل ألماني. وفي ليلة 05 يوليوز، تعرض مقر برافدا للتحطيم من قبل القوات الحكومية، ومنعت الصحف البلشفية، وتم إرسال الفيالق المتمردة إلى الجبهة لكي تتعرض للذبح. وفجأة تأرجح البندول بعنف في اتجاه اليمين.