لقد انتصرت الانتفاضة بكل المقاييس. الهدف الوحيد الذي لم يكن قد تحقق بعد هو الاستيلاء على قصر الشتاء، الذي ظل في أيدي القوات الموالية للحكومة. عبر لينين، الذي كان يأمل في أن تنتهي الانتفاضة قبل افتتاح مؤتمر السوفييتات، عن نفاد صبره من ذلك التأخير، الذي نتج عن قلة خبرة الثوار. تم التحضير السياسي للانتفاضة باحترافية أكبر بكثير من التحضير التقني، الذي كان أبعد ما يكون عن الكمال. كانت هناك العديد من العيوب التنظيمية. وصلت القوات في وقت متأخر بسبب انفجار أنابيب إحدى القاطرات، واتضح أن قذائف مدفع الهجوم كان حجمها خاطئا، كما لم يتمكنوا من العثور على فانوس أحمر للإشارة إلى بداية الهجوم، وما إلى ذلك. لكن في النهاية، لم يكن أي من هذه الأشياء حاسما. مثل تلك المفارقات تنتمي إلى صنف الحوادث التاريخية. كان الأمر الحاسم هو كسب الجماهير مما ترك الحكومة المؤقتة معزولة ومشلولة عندما دقت ساعة الحقيقة. وهكذا فعلى الرغم من وجود ثلاثة آلاف مُدافع داخل قصر الشتاء، فإنهم فروا ببساطة أثناء الليل. كان الضباط القادة في الداخل يفهمون الوضع الحقيقي. وقد تم عقد مجلس حرب، أدلى فيه الأدميرال فيرديريفسكي بملاحظة ذكية حين قال: «لا أعرف لماذا تم عقد هذه الجلسة، ليست لدينا قوة عسكرية حقيقية وبالتالي فنحن غير قادرين على اتخاذ أي إجراء مهما كان».
[Source]
تم الاستيلاء على قصر الشتاء بدون إراقة دماء، وفي عملية أقرب إلى مداهمة بوليسية عادية. عندما أطلق الطراد أورورا طلقات تحذيرية تبخرت حامية القصر ببساطة أثناء الليل. وقد خاطب وزير الزراعة الاشتراكي الثوري اليميني، سيميون ماسلوف، مجلس الدوما بيأس:
«لقد أرسلتنا الديمقراطية إلى الحكومة المؤقتة. لم نكن نريد أي مناصب، لكننا ذهبنا. لكن الآن، عندما وقعت المأساة، عندما بدأ يتم إطلاق النار علينا، لا أحد يدعمنا»[1].
وعندما انطلق الهجوم في النهاية، لم تكن هناك أي مقاومة. في حوالي الساعة الثانية صباحا، وبينما كان أعضاء الحكومة المؤقتة المرهقون والمحبطون جالسين حول الطاولة ينتظرون، انفتح الباب بقوة، وكان هذا ما وقع حسب أحد الحاضرين:
«دخل رجل صغير إلى الغرفة، مثل قشة تقذفها موجة، تحت ضغط الغوغاء الذين تدفقوا وانتشروا بسرعة، ومثل الماء ملأوا كل أركان الغرفة».
كان الرجل الصغير هو أنتونوف أوفسيينكو من اللجنة العسكرية الثورية. قال الوزير كونوفالوف: “الحكومة المؤقتة هنا، ماذا تريدون؟”. فجاء الجواب القطعي: “أنتم جميعا رهن الاعتقال”.
كان من المقرر بدء أشغال مؤتمر السوفييتات على الساعة الثانية مساء، لكن تم تأجيله، وفتح أبوابه أخيرا على الساعة 10:40 مساء، بينما كان حصار قصر الشتاء ما يزال مستمرا. وقد تخللت المناقشات أصوات إطلاق النار أحيانا. وداخل المؤتمر كان هناك عرض درامي.
لقد كانت جلسة بالغة الأهمية. أعلن تروتسكي، باسم اللجنة العسكرية الثورية، أن الحكومة المؤقتة لم تعد موجودة. وقال:
«إن طبيعة الحكومات البرجوازية هي خداع الشعب. نحن سوفييتات نواب العمال والجنود والفلاحين، سنخوض تجربة فريدة من نوعها في التاريخ؛ سنبني سلطة لن يكون لها أي هدف آخر سوى تلبية احتياجات الجنود والعمال والفلاحين».
أعطى التصويت في المؤتمر البلاشفة وحلفاءهم الاشتراكيون الثوريون اليساريون أغلبية واضحة. فمن أصل 670 مندوبا، كان هناك 300 من البلاشفة و 193 من الاشتراكيين الثوريين -أكثر من نصفهم من اليسار- و82 من المناشفة – من بينهم 14 مناشفة أمميون. وكما رأينا فقد كان البلاشفة يتمتعون بنفوذ قوي في المراكز الصناعية الرئيسية في الشمال والغرب. وكانت قاعدة دعمهم ما تزال تنمو. افتتح المؤتمر أشغاله بانتخاب هيئة رئاسة السوفييت. قدم البلاشفة قائمة مشتركة مع الاشتراكيين الثوريين اليساريين والمناشفة الأمميين. وكانت النتيجة: 14 بلاشفة، 07 اشتراكيين ثوريين، 04 مناشفة، إلا أن هؤلاء الأخيرين رفضوا شغل المقاعد المخصصة لهم. وقد صوتت الغالبية العظمى داخل المؤتمر لصالح تشكيل حكومة سوفياتية.
كان سخط المناشفة والاشتراكيين الثوريين لا حدود له. وعندما أعلن تروتسكي أن الانتفاضة قد انتصرت، وأن القوات الموالية للحكومة المؤقتة كانت تقترب من بتروغراد، وأنه يجب إرسال وفد إليهم لإخبارهم بالحقيقة، كان هناك صراخ “أنت تستبق إرادة مؤتمر السوفييتات!”، لكن وقت المجاملات الشكلية كان قد انتهى، فأجاب تروتسكي ببرود: «لقد تم استباق إرادة مؤتمر سوفييتات عموم روسيا من خلال انتفاضة عمال وجنود بتروغراد».
لم يكن المناشفة والاشتراكيون الثوريون وحدهم من يعارض الانتفاضة. فحتى في تلك الساعة المتأخرة كان البلاشفة التوفيقيون ما يزالون يعارضون الاستيلاء على السلطة. سرد جون ريد حكاية عن لقاء مؤقت جمعه مع ريازانوف، نائب رئيس النقابات العمالية حيث قال:
«كان يبدو أسودا ويعض لحيته الرمادية. وصرخ: “هذا جنون! جنون!”. “إن الطبقة العاملة الأوروبية لن تتحرك! وكل روسيا” -ثم لوح بيده بشكل عشوائي وهرب». مارتوف الذي كان آنذاك مريضا جدا، حافظ على تذبذبه حتى النهاية. وآمال لينين في أنه سيجد طريقه أخيرا إلى المعسكر الثوري كانت عقيمة. أصر مارتوف على تشكيل حكومة ائتلافية مع القادة الاشتراكيين اليمنيين “من أجل منع الحرب الأهلية”. كان ذلك الاقتراح، في الواقع، سيبطل الانتفاضة وسيعيد عقارب الساعة إلى وضعها السابق. مثل ذلك الخيار كان غير وارد على الإطلاق. كان كل من لينين وتروتسكي يعارضانه، لكن التوفيقيين كانوا مؤيدين له. أعلن لوناتشارسكي، نيابة عن الفريق البلشفي، أنه ليس لديه أي اعتراض على ذلك الاقتراح، والذي تم تمريره بالفعل. لكن المناشفة سرعان ما كشفوا إفلاس ذلك الاقتراح من خلال تنديدهم بالإطاحة بالحكومة المؤقتة، ثم انسحبوا من المؤتمر. وأثناء خروجهم، وسط السخرية والصفير من جانب المندوبين، قصفهم صوت تروتسكي قائلا:
«كل هؤلاء الذين يسمون بالاشتراكيين المساومين، هؤلاء المرعوبين المناشفة والاشتراكيين الثوريين والبوند، دعوهم يذهبون! إنهم مجرد نفايات سيتم رميها في مزبلة التاريخ!»[2].
لم يكن انتصار الانتفاضة هو الحلقة الأخيرة للثورة البلشفية. فقد احتشدت قوى الردة الرجعية وحاولت شن هجوم مضاد، لكنها تعرضت للهزيمة. ثم اندلعت حرب أهلية دامية ضد البلاشفة استمرت أربع سنوات أخرى. في ذلك الصراع واجهت السلطة السوفياتية قوى الإمبريالية العالمية، على شكل 21 جيشا غازيا أجنبيا. في إحدى المراحل كان كل ما تبقى في أيدي البلاشفة من أراض هي المنطقة المحيطة بموسكو وبتروغراد، والتي تعادل تقريبا مسكوفي القديمة. ومع ذلك تم هزم أعداء الثورة الواحد منهم تلو الآخر. ومن شظايا الجيش القيصري القديم، تمكن تروتسكي من بناء قوة بروليتارية جديدة، هي الجيش الأحمر، الذي أدهش العالم بانتصاراته. كانت بسالة وتنظيم وانضباط الجيش الأحمر هي مفتاح النصر، لكنه لم يكن لينجح بدون النداء الأممي للثورة البلشفية. فمن خلال الأممية الشيوعية وجه لينين وتروتسكي نداء إلى عمال العالم، تم استقباله بحماس شديد. فقد رفض عمال الموانئ البريطانيون تحميل سفن الأسلحة المتجهة إلى القوات المعادية للثورة في بولندا. وكانت هناك تمردات في كل الجيوش التي أرسلت للقتال ضد البلاشفة. وعلى عكس كل التوقعات تمكنت السلطة السوفياتية من النجاة لتظهر للعالم للمرة الأولى أنه من الممكن إدارة المجتمع بدون رأسماليين ومصرفيين وملاك أراضي. صحيح أن الثورة الروسية، في ظل ظروف التخلف الاقتصادي والثقافي الفظيع، عانت من انحطاط بيروقراطي، لكن ليس قبل أن تقدم دليلا مذهلا على الإمكانات الهائلة للاقتصاد المخطط المؤمم.
«يمكننا تلخيص التطور التاريخي للبشرية في مجمله على أنه سلسلة من انتصارات الوعي على القوى العمياء، في الطبيعة وفي المجتمع وفي الإنسان نفسه. يمكن للفكر النقدي والإبداعي أن يتباهى بتحقيقه حتى الآن لأعظم الانتصارات في الصراع مع الطبيعة. لقد وصلت العلوم الفيزيائية والكيميائية بالفعل إلى درجة أن الإنسان صار على وشك أن يصبح سيد المادة. لكن العلاقات الاجتماعية ما تزال تنمو بشكل بطيء جدا. الديمقراطية البرلمانية مجرد ديمقراطية شكلية. إنها بالمقارنة مع الأنظمة الملكية وغيرها من بقايا الماضي، تمثل بالطبع مكتسبا مهما، لكنها لا تمس القوى العمياء للعلاقات الاجتماعية بين الطبقات في المجتمع. وقد كانت ثورة أكتوبر أول من وقف في مواجهة هذه القوى العمياء. أراد النظام السوفياتي أن يضع هدفا وخطة وتنظيما للمجتمع الذي بقي حتى الآن محكوما بتراكم الأفعال وردود الأفعال»[3].
سنترك الكلمة الأخيرة للثورية العظيمة التي طالما تم تصويرها، زورا هي أيضا، بأنها كانت معارضة عنيدة للينين وللبلشفية. فمن زنزانتها في ألمانيا، رحبت روزا لوكسمبورغ بثورة أكتوبر بالكلمات التالية:
«فقط الحزب الذي يعرف كيف يقود، أي يعرف كيف يدفع الأشياء إلى الأمام، هو من يكسب الدعم في الأوقات العصيبة. إن العزيمة التي قدم بها لينين ورفاقه، في اللحظة الحاسمة، الحل الوحيد الذي يمكن أن يدفع الأشياء (“كل السلطة في يد البروليتاريا والفلاحين”)، حولهم، بين عشية وضحاها تقريبا، من أقلية مضطهَدة ومفترى عليها ومحظورة، كان على قائدها أن يختبئ مثل مارات في الأقبية، إلى متحكمين بشكل مطلق في الموقف.
وعلاوة على ذلك فقد حدد البلاشفة على الفور هدف الاستيلاء على السلطة في برنامج ثوري كامل وبعيد المدى: ليس حماية الديمقراطية البرجوازية، بل إقامة ديكتاتورية البروليتاريا لغرض تحقيق الاشتراكية. وبذلك كسبوا لأنفسهم التميز التاريخي الخالد بكونهم أول من وضع الهدف النهائي للاشتراكية كبرنامج مباشر للسياسة العملية.
إن كل ما يمكن للحزب أن يقدمه، في لحظة تاريخية، من شجاعة وبُعد نظر ثوري وثبات، قد قدمه بشكل جيد لينين وتروتسكي وغيرهما من الرفاق. لقد مثل البلاشفة كل الشرف الثوري والكفاءة الثورية اللذان افتقرت إليهما الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الغربية. لم تكن انتفاضتهم في أكتوبر إنقاذا للثورة الروسية فقط، بل إنقاذا لشرف الحركة الاشتراكية الأممية».
يمكن لحكم روزا لوكسمبورغ النهائي على الحزب البلشفي أن يكون الكلمة الأخيرة للتاريخ في حق أعظم حزب ثوري في التاريخ:
«إن المطلوب هو التمييز بين ما هو جوهري وما هو ثانوي، بين الثابت والعرضي في سياسات البلاشفة. في الفترة الحالية، حيث نواجه صراعات نهائية حاسمة في كل أنحاء العالم، صارت مسألة الاشتراكية هي المسألة الأكثر ملحاحية في عصرنا. لا يتعلق الأمر بهذه المسألة التكتيكية الثانوية أو تلك، بل بقدرة البروليتاريا على الفعل، وقوة الفعل، والرغبة في حسم الاشتراكية للسلطة. وفي هذا الصدد كان لينين وتروتسكي وأصدقاؤهما هم الأولون، هم من قدموا المثال للبروليتاريا العالمية؛ وما زالوا الوحيدين حتى الآن الذين يمكنهم القول مع هوتن: “لقد تجرأت!”
هذا هو الشيء الأساسي والثابت في السياسة البلشفية. وبهذا المعنى فإن لهم الفضل في خدمتهم التاريخية الخالدة بسيرهم في طليعة البروليتاريا الأممية لحسم السلطة السياسية ووضعهم لمسألة تحقيق الاشتراكية على أرض الممارسة العملية، ولكونهم طرحوا بحزم مسألة حسم الصراع بين رأس المال والعمل في العالم كله. في روسيا لا يمكن إلا طرح المسألة فقط، لكن لا يمكن حلها في روسيا وحدها. وبهذا المعنى، فإن المستقبل في كل مكان ينتمي إلى ‘البلشفية’»[4].
آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي
هوامش:
[1] A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, p. 284 and p. 290 (خط التشديد من عندي –أ.و-)
[2] J. Reed, Ten Days That Shook the World, pp. 122-23, p. 123 and p. 131.
[3] L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p. 1191.
[4] R. Luxemburg, The Russian Revolution, pp. 39-40 and p. 80.