كانت الحرب ومزاج السخط المتزايد بين صفوف الجنود هي القضية الأكثر إلحاحا التي واجهت الثورة. وبعد انهيار النظام القديم تحرك الجنود بشكل تلقائي لتطهير الجيش من الضباط الذين عارضوا الثورة. طالب الجنود بحقهم في أن يعاملوا معاملة البشر، وليس الحيوانات. ومن هنا جاء “الأمر رقم واحد” الشهير، الذي وصفه تروتسكي بأنه “الوثيقة الوحيدة الجديرة بالاحترام لثورة فبراير”[1]. جاءت مبادرة صياغة هذه الوثيقة الرائعة من جانب الجنود أنفسهم. ويمكن للمرء أن يسمع فيها صوت الجبهة الحقيقي، صوت غضب وأمل الرجال الذين يحدقون في عين الموت مباشرة، والذين لم يفقدوا شعلة الكرامة الإنسانية والرغبة في أن يعاملوا مثل البشر. كما أنها كانت الوجه الحقيقي لثورة فبراير: ليس خطابات السياسيين المدروسة والمصطنعة، بل مطالب الجماهير التي استيقظت للتو على الحياة السياسية بحثا عن الحقوق الديمقراطية والحرية، بدل النظام القديم والعبودية. كان “الأمر رقم واحد” يعبر بشكل أفضل من أي شيء آخر عن التطلعات الديمقراطية والثورية للجماهير.
[Source]
مثلت المطالب المطروحة في البيان ميثاق جنود حقيقي:
«لجان منتخبة على جميع مستويات الجيش والبحرية.
انتخاب ممثلين للسوفييت في الأماكن التي لم تشهد هذه الانتخابات.
لن يمتثل الجنود سوى للسوفييت ولجانه فقط.
لن يتم الامتثال لأوامر الحكومة المؤقتة إلا في حالة عدم تعارضها مع أوامر السوفييت.
يجب أن تكون جميع الأسلحة تحت رقابة لجان الجنود المنتخبة، ولن يتم منحها للضباط بأي حال من الأحوال.
لا بد من التحلي بالالتزام والانضباط الصارمين في أوقات الخدمة، أما عند الانتهاء من الخدمة والخروج من الثكنات فللجنود كل الحرية والحقوق المدنية.
إلغاء ألقاب الضباط؛ يُحظر على الضباط التصرف بوقاحة مع الجنود، وخاصة استخدام عبارة (“ty”) عند مخاطبتهم».
سمى الجنود مطالبهم هذه “الأمر رقم واحد”. وقد سقطت كقنبلة على الضباط الرجعيين وأصدقائهم السياسيين في الحكومة المؤقتة. كان ذلك تحديا لفئة الضباط “وحقهم المقدس” الاستبدادي في التحكم في الجنود، وبالتالي كان تحديا لأركان النظام البرجوازي القائم. وسرعان ما دخلت “لجنة الدوما المؤقتة” في المواجهة مع نواب الجنود الذين وضعوا “الأمر رقم واحد” لحامية بتروغراد. حاول الضباط الرجعيون، الذين صاروا الآن يرفعون شارات الجمهورية على صدورهم، منع تنفيذها في الجبهة، زاعمين أنها “مسألة خاصة ببتروغراد فقط”. وقد تلقوا في هذا الصدد الدعم من جانب الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، الذين كانوا حريصين على وضع حد “للجنون” الثوري واستعادة النظام (البرجوازي). لكن محاولتهم ذهبت سدى. انتشرت المطالبة بالحقوق الديمقراطية، الواردة في “ميثاق الجنود”، بين صفوف الجيش كانتشار النار في الهشيم. وقد كان الصراع حول “الأمر رقم واحد” صورة للتطورات التي ستحدث لاحقا.
كان مطلب الجيش هو التوصل إلى سلام فوري دون إلحاقات أو تعويضات. كان قادة السوفييتات يلقون خطابات حول “السلام العادل”، لكن طالما بقيت السلطة في أيدي أصحاب الأبناك والصناعيين، المرتبطين بالمصالح الأنجلو-فرنسية، فإن ذلك السلام كان مجرد حلم. وخلال فصل الربيع ازداد استياء الجنود، لأن الحكومة استمرت تماطل بخصوص مسألة السلام. وقد أعلنت البرجوازية، من خلال كبير ممثليها في الحكومة، مليوكوف، اعتزامها مواصلة الحرب حتى “تحقيق النصر”، وهو ما أغضب الجنود وخلق وضعا متفجرا في بتروغراد.
يمكن ملاحظة السيرورات التي شهدتها ثورة فبراير في كل الثورات الأخرى. فقد استقبلت الجماهير سقوط النظام القديم بحماس، كانت هناك فرحة عامة، حيث استمتع الرجال والنساء بالحريات الجديدة. هذه هي مرحلة الأوهام الديمقراطية، وهي كرنفال يسكر فيه الشعب بإحساس التحرر والآمال التي لا تعرف حدودا. لكن للأسف ليس مقدرا لعيد الحب الجميل هذا أن يستمر. وسرعان ما يتحول الوهم إلى خيبة أمل عميقة حيث تصطدم التطلعات بجدار الواقع. “لقد جرحنا الثعبان، لكننا لم نجهز عليه”، هكذا صرخ ماكبث في مسرحية شكسبير. وبالتدريج بدأت الجماهير تفهم أنه وراء البهرجة والخطب لا شيء تغير فعلا. لم يقم النظام القديم سوى بتبديل مظهره، لكن نفس السادة القدامى استمروا في أماكنهم، وكذلك المشاكل القديمة نفسها.
لم يؤثر هذا المزاج على جميع الفئات في وقت واحد، بل ظهر أولا بين صفوف القسم الأكثر تطورا من الجماهير. عندما بدأت تلك الطليعة تدرك، ولو بشكل غير واضح، أن السلطة التي حققوها بالكثير من الجهد والتضحية قد بدأت تفلت من بين أيديهم، قاموا برد فعل فطري. كانت تلك لحظة خطر شديد على الثورة. كانت الطليعة المتقدمة تفهم أكثر من بقية الجماهير، وكانت تدفع بفارغ الصبر إلى الأمام من أجل إجراءات متسرعة. لكنه كان من الضروري كسب بقية المجتمع، التي تتخلف عن الركب ولم تكن قد استخلصت النتائج الضرورية بعد. إذا انفصلت الطليعة المتقدمة عن بقية الطبقة، يمكن أن تصير معزولة وتتعرض للهزيمة على يد قوى الثورة المضادة. وفي ظل هذه الظروف يكون من واجب الحزب أن يحاول كبح العناصر المتقدمة، لتجنب خوض المعركة إلى أن تتم تعبئة بقية القوى.
بمجرد ما بدأت الثورة بدأت سيرورة الاختبارات المتتالية التي كانت تبحث الجماهير بواسطتها عن الحزب السياسي الذي يعبر بشكل أفضل عن تطلعاتها. كان هناك تعاقب لما يمكن أن نشبهه بالدوريات الاستطلاعية في المعركة، حيث كانت الجماهير تختبر دفاعات العدو وقوته. اتخذت تلك الدوريات شكل مظاهرات حاشدة، ابتداء من أبريل، عندما تدفق الآلاف من العمال والجنود والبحارة على شوارع بتروغراد، حاملين لافتات بشعارات من قبيل: “فليسقط ميلوكوف!”، “فلتسقط سياسة الإلحاقات!”، بل وحتى شعار “فلتسقط الحكومة المؤقتة!”. كانت تلك بلا شك شعارات البلاشفة، لكن المظاهرات نفسها لم تكن بدعوة من الحزب، كما يشرح ألكسندر رابينوفيتش قائلا:
«مما لا شك فيه أن قواعد الحزب من الجنود والعمال ساعدوا في إثارة مظاهرات الشوارع في المقام الأول، رغم أن اللجنة المركزية لم تنخرط إلا بعد أن تطورت الحركة فعليا؛ بعد ذلك بدأت قيادة الحزب تؤيد المظاهرات. سارعت العناصر الكفاحية في منظمة الحزب ببتروغراد وفي المنظمة العسكرية البلشفية، مدفوعة بفطرتها الكفاحية والخوف من فقدان المواقع أمام اللاسلطويين، إلى اتخاذ مقاربة أكثر راديكالية؛ وقد نشر بعض المسؤولين في لجنة بطرسبرغ على نطاق واسع نداء باسم الحزب، يدعوا للإطاحة الفورية بالحكومة المؤقتة واعتقال الوزراء»[2].
كان الهدف المباشر للمظاهرة هو الاحتجاج ضد مخططات مواصلة الحرب. لكن هذه المسألة أثارت مسألة السلطة. كانت تحركات أبريل المظاهرات الجماهيرية الأولى من نوعها التي حاولت فيها الجماهير إجبار الحكومة وقادة السوفييت على تنفيذ وعودهم. لقد لعبت من حيث الجوهر دورا مشابها لمهمة دورية الاستطلاع في الحرب، إذ قامت باكتشاف نقاط ضعف العدو والسماح للعمال والجنود باختبار قوتهم في الشوارع. ومن المعبر أن المتظاهرين لم يتفرقوا إلا عندما طلب منهم ذلك سوفييت بتروغراد، بعد أن كانوا قد تحدوا صراحة أوامر الحكومة لهم بالتفرق. هذا التفصيل لوحده يقول كل شيء. لم تكن السلطة الحقيقية في أيدي الحكومة المؤقتة، التي كانت الجماهير تكرهها ولا تثق فيها، بل في أيدي القادة الإصلاحيين، “الاشتراكيين المعتدلين” في اللجنة التنفيذية السوفياتية، الذين كانوا يخشونها مثلما يخشى المرء الطاعون. كانت الجماهير مجبرة على أخذ الإصلاحيين من أعناقهم ودفعهم إلى سدة الحكم. هذا هو المعنى الحقيقي لمظاهرات أبريل. كان للاندلاع المفاجئ للمظاهرات الجماهيرية في الشوارع نتيجة فورية، حيث دخلت الحكومة في أزمة، إذ اضطرت البرجوازية على تمرير الجمرة المشتعلة إلى القادة الإصلاحيين.
كانت مظاهرة أبريل أول اختبار جاد للقوة بين العمال وبين الحكومة المؤقتة ومؤيديها الاشتراكيين اليمينيين. وقد كان اختبارا ناجحا. فقد تم إجبار اثنين من الوزراء البرجوازيين الممقوتين أكثر من غيرهم بسبب سياساتهم المؤيدة للحرب، أي غوتشكوف ومليوكوف، على الاستقالة، ودخل العديد من قادة السوفييت إلى الحكومة. صار المنشفي الجيورجي، إراكلي تسيريتيلي، وزيرا للبريد والتلغراف. وأصبح الاشتراكي الثوري المخضرم، فيكتور تشيرنوف، وزيرا للزراعة. ورئيس الحزب الاشتراكي الشعبي، أليكسي بيشيكونوف، وزيرا للإمدادات الغذائية. كما شغل بافل بيرفيرزيف منصب وزير العدل، وأصبح كيرنسكي وزيرا للحرب والبحرية. وبهذه الطريقة صار قادة السوفييت يتحملون المسؤولية المباشرة داخل الحكومة المؤقتة، بدلا من دعمها من الخارج. فتم تشكيل أول ائتلاف.
رحبت أغلبية الجماهير بهذه الخطوة أملا في أن يحدث وزراء”هم” تغييرا بطريقة ما داخل الحكومة. لكن لينين ندد على الفور بمشاركة المناشفة والاشتراكيين الثوريين في الحكومة، مشيرا إلى أنهم من خلال انضمامهم إلى الحكومة المؤقتة البرجوازية، “قد أنقذوها من الانهيار وسمحوا لأنفسهم بأن يصبحوا خادمين لها ومدافعين عنها”[3]. لقد كان قادة السوفييت، في الواقع، مجرد رهائن في يد الوزراء البرجوازيين الذين حددوا كل السياسات. لقد قبلوا بالحقائب الوزارية في حين استمرت السلطة الحقيقية في يد الملاكين العقاريين والرأسماليين، باستثناء أنه كانت هناك قوة بديلة أخرى تنتظر بقلق شديد حل مشاكلها الأكثر إلحاحا، لكن بدون جدوى! لقد شكل القادة الإصلاحيون، المرعوبون من الإساءة إلى البرجوازية، التي كانت هي من يجب أن يحكم وفقا لعقيدة “الثورة عبر مرحلتين”، مجرد غطاء يساري للحكومة المؤقتة، التي كانت بدورها مجرد واجهة تقوم قوى الردة الرجعية ورائها بإعادة تجميع صفوفها والاستعداد لهجوم مضاد، بمجرد أن تتعرض الجماهير للإحباط وخيبة الأمل بسبب سياسات الائتلاف.
واجه هذا الائتلاف بين القادة العماليين والبرجوازية تناقضات مستعصية أدت إلى شله منذ البداية. لقد كان يشبه إلى حد كبير كل الحكومات الائتلافية المماثلة من حكومة ميليراند في فرنسا، مرورا بتحالف اللبراليين والعماليين في بريطانيا، إلى ما سمي بحكومات الجبهة الشعبية في فرنسا وإسبانيا خلال ثلاثينيات القرن الماضي. لقد تم تبريرها جميعا بشعار “وحدة القوى التقدمية” و”الوحدة الوطنية”، الذي هو أكثر الشعارات فراغا، والذي يعني “وحدة” الحصان مع راكبه. تستغل البرجوازية، في الواقع، هذه التحالفات من أجل استخدام وتشويه سمعة القادة العماليين لإحباط معنويات الجماهير، بينما تنظم وراء الكواليس صفوفها من أجل الهجوم المضاد. كانت الحكومة المؤقتة بعد أبريل نموذجا مثاليا لهذا النوع من الائتلافات. تم وضع القادة السوفييت في تلك الوزارات التي من شأنها أن تجعلهم في صراع مع تطلعات العمال والفلاحين، أي وزارات العمل والزراعة، وهلم جرا. كما تم تكليف كيرنسكي، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في البداية، بضبط الجنود وجعلهم يتقبلون استمرار الحرب تحت اسم “السلام والتقدم والديمقراطية”، بالطبع.
كان دخول الوزراء “الاشتراكيين” إلى الحكومة المؤقتة نقطة تحول. إذ من الآن فصاعدا صار في إمكان العمال والفلاحين أن يقارنوا الكلمات بالأفعال. كانت الظروف تتحضر لكي يتم فضح القادة العماليين الإصلاحيين في الممارسة. كان ذلك أحد جوانب المسألة. لكن العنصر الأكثر أهمية كان هو أن البلاشفة ظلوا، بفضل توجيهات لينين، خارج الائتلاف وحافظوا على موقف معارضة شديدة تجاهه. وما بدا للبعض وكأنه موقف طوباوي وعصبوي، اتضح الآن أنه الموقف الواقعي الوحيد الذي على الحزب الثوري أن يتبناه. كان ذلك هو مفتاح نجاح البلاشفة والسبب الذي جعلهم يتطورون بسرعة كبيرة على حساب المناشفة والاشتراكيين الثوريين في الأشهر التالية. يقول رابينوفيتش:
«بمجرد انضمامهم إلى الائتلاف الأول، أصبح الاشتراكيون المعتدلون مرتبطين في ذهن الشعب بأوجه قصور الحكومة المؤقتة. وحدهم البلاشفة، من بين كل المجموعات السياسية الروسية الرئيسية الأخرى، من بقوا بمنأى عن الحكومة، وبالتالي كانوا أحرارا بشكل كامل في تنظيم المعارضة لها، وهو الوضع الذي استفاد منه الحزب بشكل كامل»[4].
لكن الجناح الثوري واجه صراعا شاقا لا بد أنه بدا مستحيلا في البداية. كانت شعاراتهم تبدو متقدمة جدا بالنسبة للجماهير، بينما قدم لها زعماء المناشفة والاشتراكيين الثوريين، من ناحية أخرى، ما كان يبدو وكأنه الخيار الأسهل. فالثورة انتصرت، وصارت روسيا الآن أكثر البلدان حرية في العالم، وبالتالي فمع القليل من الصبر، سيتم حل كل المشاكل. الشيء المطلوب هو أن يتحد الجميع ويتجاوزوا خلافاتهم وكل شيء سيكون على ما يرام. كان الضغط الهائل من أجل الوحدة أحد أسباب استسلام كامينيف وستالين للمناشفة قبل عودة لينين. كان خطأهما هو اقتصارهما على رؤية الموقف الماثل أمامهما فقط، وعدم رؤية السيرورة العميقة التي ستقلب كل هذا رأسا على عقب. إن الأساس الفلسفي لجميع أنواع الإصلاحية هو التجريبية المبتذلة التي تختبئ تحت قناع “الواقعية”، أو كما أسماها تروتسكي ذات مرة، العبادة الخنوعة للواقع القائم. لكن ما هو “واقع” في لحظة ما يمكن أن يصبح وهما في لحظة أخرى. ومن أجل أن تستخلص الجماهير الاستنتاجات الضرورية، هناك أمران ضروريان: أولا أن تصل الطبقة العاملة إلى أن تفهم، من خلال تجربتها الخاصة، وضعها الحقيقي، وثانيا وجود حزب ثوري له قيادة بعيدة النظر قادرة على خوض التجربة معهم وشرح أهميتها في كل مرحلة.
لكن الجماهير لا تستخلص جميعها نفس الاستنتاجات في نفس الوقت. فبحلول يونيو ويوليوز، كانت شريحة من العمال المتقدمين والبحارة في بتروغراد قد توصلت إلى تقييم للحكومة المؤقتة والزعماء السوفييت ووجدوا أنهم مفلسين. كما أراد قسم من أعضاء الحزب البلشفي، تحت تأثير نفاذ الصبر، المضي أبعد مما تسمح به الظروف وقبل الأوان؛ فقاموا تحت تأثير اليسراويين المتطرفين واللاسلطويين، برفع الشعار الثوري: “فلتسقط الحكومة المؤقتة”. كان هذا شعار الانتفاضة. ما هو الموقف الذي اتخذه لينين آنذاك؟ لقد رفض ذلك الشعار بالكامل. لماذا؟ لأن ذلك الشعار لم يكن يتطابق مطلقا معالمستوى الحقيقي الذي كانت قد بلغته الحركة. إن لينين، الذي كان ثوريا حتى النخاع، عارض ذلك الشعار بشدة، وبدلا من ذلك وجه الحزب نحو كسب الجماهير، وأصر على ضرورة “الشرح بصبر”. كانت المشكلة هي أن الجماهير الواسعة من الطبقة العاملة في المقاطعات الأكثر تخلفا لم تكن قد توصلت بعد لفهم الدور الحقيقي للقادة الإصلاحيين في السوفييتات، ناهيك عن الفلاحين الذين كانوا أكثر تخلفا. كان البلاشفة قد نجحوا في كسب الفئات الأكثر تقدما داخل الطبقة العاملة، لكنه كان من الخطأ الفادح أن يتم دفع هؤلاء إلى الاصطدام مع الأغلبية الأقل وعيا والتي كانت ما تزال لديها أوهام في المناشفة والاشتراكيين الثوريين. واستنادا إلى العمال المتقدمين كان على البلاشفة الآن أن يجدوا الطريق لكسب الأغلبية.
كان النمو العظيم الذي حققه الحزب البلشفي في الأشهر التسعة، من فبراير إلى أكتوبر، ظاهرة يصعب إيجاد أي شبيه لها في تاريخ الأحزاب السياسية. لقد لخص عام 1917 بشكل تام جوهر ومعنى تاريخ البلشفية. آنذاك خضعت جميع البرامج والسياسات والتكتيكات والاستراتيجيات أخيرا لمحك الاختبار في الممارسة. ليس هناك من تأكيد لصحة النظريات أفضل مما يحدث خلال الثورة. وعن تجربة الثورة الروسية، قال تروتسكي:
«علينا أن نتذكر أنه في بداية عام 1917، كان الحزب البلشفي يقود عددا ضئيلا فقط من الكادحين. لم يكن البلاشفة يشكلون عموما، ليس فقط في سوفييتات الجنود، بل أيضا في السوفييتات العمالية، سوى ما بين 1 إلى 2%،وفي أفضل الحالات 5%. كان لدى الأحزاب الرئيسية للبرجوازية الصغيرة الديمقراطية (المناشفة ومن يسمون بالاشتراكيين الثوريين) ما لا يقل عن 95% من العمال والجنود والفلاحين المشاركين في النضال. أطلق قادة تلك الأحزاب على البلاشفة تسمية عصبويين في البداية ثم… اسم عملاء القيصر الألماني. لكن كلا، لم يكن البلاشفة عصبويين!لقد كان كل انتباههم موجها إلى الجماهير، وعلاوة على ذلك ليس الفئة العليا منها فقط، بل تلك الملايين وعشرات الملايين من الجماهير الأكثر انسحاقا والأكثر اضطهادا، والتي عادة ما ينساها الثرثارون البرلمانيون. ومن أجل قيادة البروليتاريين وشبه البروليتاريين في المدينة والريف على وجه التحديد، رأى البلاشفة أنه من الضروري أن يميزوا أنفسهم بوضوح عن جميع الفصائل والمجموعات البرجوازية، بدءا من هؤلاء “الاشتراكيين” المزيفين الذين هم في الواقع عملاء للبرجوازية»[5].
قبل الحرب كان الحزب البلشفي قد نجح، كما رأينا، في كسب الأغلبية الحاسمة بين العمال المنظمين. لقد كان هو الحزب التقليدي للطبقة العاملة في روسيا. لكن خلال الحرب تعرض ميزان القوى الطبقي إلى تغيير كبير. كان الشباب، الذين يشكلون القاعدة الطبيعية للبلشفية قد ذهبوا إلى الجيش. كما أن جزءا كبيرا من الكوادر العمالية ذات الخبرة، كانوا في الجبهة بدورهم، حيث غرقوا في بحر من الفلاحين المتخلفين والأميين سياسيا. كانت المنظمات العمالية قد سحقت بفعل الاعتقالات. واضطر العمال إلى طأطأة رؤوسهم. وقد أدى تدفق عدد كبير من العناصر المفتقرة إلى الخبرة إلى المصانع -من الفلاحين والنساء والشباب الأميين- إلى جعل الأمور أسوأ في البداية. لم يكن من الممكن، في ظل تلك الظروف، تحقيق أي تقدم جدي. كان يكفي الحفاظ على ما تبقى من الكوادر مجتمعة معا وانتظار انفراج في الوضع.
من الصعب تقديم حساب دقيق لعضوية الحزب البلشفي في عام 1917. يقدم مؤلفون مختلفون تقديرات مختلفة. الرقم “الرسمي” الذي تقدمه موسوعة بولشويا سوفيتسكايا هو 23.600، في يناير 1917، قبل بداية الثورة، ولكن هذا التخمين هو بالتأكيد مبالغة. ربما يكون رقم 8000 عضو في روسيا كلها ليس بعيدا عن الرقم الحقيقي. يدعي رابينوفيتش أنه كان هناك 2000 عضو في بتروغراد في فبراير، وأن عضوية الحزب على الصعيد الوطنيتضاعفت إلى 16.000 بحلول أبريل:
«في شهر فبراير ، كان هناك حوالي 2000 من البلاشفة في بتروغراد. وعند افتتاح كونفرانس أبريل، ارتفعت عضوية الحزب إلى 16.000. وبحلول أواخر يونيو وصل العدد إلى 32.000، بينما انضم 2000 جندي إلى المنظمة العسكرية البلشفية وانضم 4000 جندي إلى “نادي برافدا”…».
كانت الغالبية الساحقة من المجندين الجدد في شكل خام للغاية، كما يشير المؤلف نفسه:
«لقد أدى النمو السريع للحزب منذ شهر فبراير إلى إغراق قاعدة الحزب بمناضلين لم يكونوا يعرفون شيئا تقريبا عن الماركسية، والذين لم يكن يوحدهم تقريبا سوى نفاد الصبر للقيام بعمل ثوري فوري»[6].
كان التدفق السريع للمجندين الجدد، والذين كان الكثير منهم من الشباب اليافعين (كان المناشفة يطلقون على البلاشفة بازدراء اسم “حزب الأطفال”)، أحد الأسباب التي مكنت لينين من أن ينجح في التغلب على مقاومة “البلاشفة القدماء” المحافظين. وقد أدى هذا إلى تغيير الحزب. يقول مارسيل ليبمان:
«ابتداء من أبريل 1917، بدأ الحزب البلشفي يتعزز بتدفق مستمر وواسع النطاق للأعضاء الجدد. أدى ذلك التدفق إلى سحق نواة “البلاشفة القدماء” الذين ادعوا أنهم حماة الأرثوذكسية اللينينية، حيث غرقوا تحت ثقل أعضاء جدد تجذروا بفعل الأحداث الثورية ولم تشلهم مبادئ تلك الأرثوذكسية»[7].
كانت أهم ميزة للحزب البلشفي في عام 1917 هي شبابه. فعلى سبيل المثال، كان سن جميع أعضاء مكتب الحزب في موسكو، باستثناء عضو واحد، أقل من 30 عاما. كان هناك تعارض بين المكتب وبين لجنة الحزب في موسكو، التي كانت مؤلفة من أعضاء أكبر سنا وأكثر محافظة. يصف ستيفن ف. كوهين في سيرته عن بوخارين وضع البلاشفة في موسكو قائلا:
«في حين أن غالبية لجنة موسكو أيدت الانتفاضة في النهاية، فإن استجابتها للمسار الراديكالي الذي حدده لينين واليسار كانت بطيئة وبدون حماس. كان معظم أعضائها يعتقدون، كما أكد أحدهم، أنه: “لا توجد القوى، والظروف الموضوعية غير ناضجة لذلك”. قادة المكتب، الذين كانوا يحثون شيوخهم باستمرار، بقوا قلقين إلى وقت متأخر من شهر أكتوبر من أن المزاج “المحب للسلام” و”التذبذب الشديد” في لجنة موسكو سيكون قاتلا “عندما تحين اللحظة الحاسمة”. وبالتالي فعلى الرغم من الدعم الكبير من جانب بعض كبار السن من البلاشفة في موسكو، فإن شباب موسكو يميلون إلى اعتبار النصر النهائي في موسكو إنجازا شخصيا لهم، ودليلا على بطولة جيلهم. وكما قال أوسينسكي عنهم لاحقا، إنهم قادوا النضال من أجل السلطة “ضد مقاومة كبيرة من جانب جزء كبير من الجيل الأكبر سنا من مسؤولي الحزب في موسكو”[8].»
هوامش:
[1]: L. Trotsky,The History of the Russian Revolution, p. 291.
[2]: A. Rabinowitch,The Bolsheviks Come to Power, p. xxxii.
[3]:LCW, vol. 25, p. 237.
[4]: A. Rabinowitch,The Bolsheviks Come to Power, p. xxviii.
[5]: L. Trotsky,Writings 1935-36, pp. 166-67.
[6]: A. Rabinowitch,The Bolsheviks Come to Power, pp. xxix-xxx and p. xxxi.
[7]: M. Liebman,Leninism Under Lenin, p. 134.
[8]: S.F. Cohen,Bukharin and the Bolshevik Revolution, p. 50.