أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعترافه باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك، الواقعتان في جنوب شرق أوكرانيا، وأرسل قوات “حفظ سلام” روسية إلى كلتا المنطقتين. يمثل هذا تصعيدا كبيرا للصراع بين روسيا والإمبريالية الغربية. ما هي المصالح الكامنة وراء الصراع؟ وما هو الموقف الذي يجب على الحركة العمالية العالمية تبنيه؟
[Source]
أعلن الغرب بالفعل أنه سيرد بفرض عقوبات اقتصادية سبق له أن هدد بها من قبل. وقد اشتكت كل من الإمبريالية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة من أن قرارات بوتين تمثل “انتهاكا لسيادة أوكرانيا” و”خرقا صارخا للقانون والأعراف الدولية”. هذا نفاق خالص، حيث أن تلك البلدان التي تدين الآن تصرفات روسيا، قد اتخذت هي نفسها نفس الإجراءات من قبل.
دعونا لا ننسى أن الإمبريالية الغربية هي التي دفعت في اتجاه تفكيك يوغوسلافيا سنة 1992. لم يكن هناك أي حديث عن “السيادة الوطنية” في ذلك الوقت، وكان السبب واضحا: وهو أنه من مصلحتهم تفكيك يوغوسلافيا السابقة من أجل استعادة مجالات النفوذ القديمة. لقد كانت خطوة رجعية تماما، أطلقت العنان لحرب أهلية وتصفية عرقية في قلب أوروبا.
النفاق
تتحدث الإمبريالية الأمريكية، وشركاؤها الأوروبيون الصغار، الآن عن ضرورة احترام روسيا “السيادة الوطنية”، ويصورون أنفسهم على أنهم أنصار للديمقراطية وحقوق الإنسان. هل يفترض بنا أن ننسى حقيقة أنه لم يكن لديهم في الماضي أي مانع من قصف وغزو بلدان ذات سيادة؟ إنهم خبراء في تنظيم الانقلابات العسكرية والتدخل بشكل عام في شؤون البلدان الأخرى، عندما يناسب ذلك مصالحهم. لقد رأينا ذلك في العراق وأفغانستان، وفي هندوراس وفنزويلا، وفي ليبيا والصومال، وقائمة طويلة من البلدان الأخرى. كما أنهم يتغاضون عن تلك الانتهاكات عندما يناسب ذلك مصالحهم، نرى ذلك في اليمن، حيث يُسمح للسعودية بسحق أمة بأكملها وتجويع الملايين. وذلك لأن السعودية صديقة للإمبريالية الغربية، بينما روسيا ليست كذلك!
من وجهة نظر مصالح العمال في جميع البلدان، ينبغي ألا ننخدع باللعبة التي يتم لعبها حول “من بدأ”، أو على من يقع اللوم في الصراع الحالي. هناك أطماع إمبريالية من كلا الجانبين. فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، سنة 1991، والإمبريالية الأمريكية، وحلفاؤها الأوروبيون في الناتو، ينتهكون ما كان سابقا مجال نفوذ روسي، مما أدى إلى ضم بلدان أوروبا الشرقية تدريجيا إلى تحالفهم.
أوكرانيا مرشحة للعضوية المستقبلية، ومن الواضح تماما لكل من له أعين أن يرى أن توسع الناتو يهدف إلى كبح جماح الطموحات الإمبريالية الروسية في المنطقة. أي أنه وسيلة لتقييد الطبقة الرأسمالية الروسية وتعزيز مصالح الإمبريالية الغربية. لو لم يصر الناتو على التوسع شرقا، لما كنا لنواجه احتمال حرب أخرى في أوروبا. لكن هذا يعني بعبارة أخرى، أنه لو لم يكن الناتو تحالفا للقوى الرأسمالية، بهدف الدفاع عن مصالحها، لما كنا في هذا الموقف. الرأسمالية هي نظام يخلق الحرب بشكل حتمي عند نقطة معينة. فعندما لا تكفي العلاقات الطبيعية، وعندما لا تبقى “المنافسة السلمية” كافية لخدمة مصالح الطبقات السائدة، تصبح الحرب هي الخيار التالي.
لم تكن مختلف “الثورات الملونة” التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية، منذ 1989-1991، تعبيرا عن إرادة شعوب تلك البلدان. بل كانت نتيجة لمناورات قام بها الغرب لإنشاء أنظمة من شأنها تسهيل المزيد من تفكيك ما تبقى من ممتلكات الدولة، والسيطرة على الأسواق المحلية، وتوسيع نطاق نفوذها، وضرب نفوذ روسيا. وبالتالي فإن هذا ليس صراعا بين الغرب “الديمقراطي” وبين بوتين “الديكتاتوري”، بل هو صراع بين قوتين إمبرياليتين متعارضتين من أجل السيطرة على المنطقة. وكلما تصرفت الإمبريالية الغربية بطريقة عدوانية، فإنها تحاول دائما إلقاء اللوم على أحد آخر، وتقديم نفسها كقوة نصيرة لـ”السلام والديمقراطية”.
والمفارقة في الموقف هي أن بوتين أثناء تنفيذه لهذه المناورة، يبدو وكأنه قد اتبع بالتفصيل كتاب قواعد اللعبة الذي كتبته واشنطن، مثل وصفه للقوات الروسية التي تدخل دونباس بـ”قوات حفظ السلام”. يبدو أنه يقلد سلوك الإمبريالية الأمريكية عندما استخدمت بكلبية محنة ألبان كوسوفو من أجل قصف صربيا، الحليف التقليدي لروسيا. والآن يستخدم بوتين بكلبية محنة سكان دونباس الناطقين بالروسية لضرب أوكرانيا، والغرب بشكل عام، في حين تذرف الولايات المتحدة والقوى الأوروبية دموع التماسيح على انتهاك “القانون الدولي”، والذي هو مفهوم ليس له أي معنى حقيقي على الأرض. العلاقات الدولية في عصر الإمبريالية لا يحكمها القانون، بل تحكمها القوة الاقتصادية والعسكرية.
في خطابه الطويل الذي يبرر فيه اعترافه بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك، أوضح بوتين الأيديولوجية الرجعية والشوفينية الكامنة وراء هذا التدخل. تحدث عن أن أوكرانيا أمة مصطنعة اقتطعت من جسد روسيا بسبب لينين والبلاشفة. وقال: «أوكرانيا الحديثة أنشأتها روسيا، أو بشكل أكثر دقة: روسيا الشيوعية البلشفية». وأضاف إن: «لينين وأنصاره فعلوا ذلك بطريقة فجة، مما أدى إلى تقسيم الأراضي التاريخية لروسيا. لم تتم على الاطلاق استشارة الملايين من الأشخاص الذين كانوا يعيشون هناك». وأضاف إن «أحفادهم الممتنين قد عملوا الآن على تحطيم تماثيل لينين في أوكرانيا. هذا ما يسمونه بتفكيك الشيوعية. هل تريدون تفكيك الشيوعية؟ حسنا، هذا يناسبنا تماما. لكن يجب ألا تتوقفوا في منتصف الطريق. نحن على استعداد لنبين لكم ما الذي يعنيه حقا تفكيك الشيوعية لأوكرانيا». لقد أوضح في ذلك الخطاب أن مثاله الأعلى هو الإمبراطورية الروسية. وبذلك فإنه يشكك حتى في شرعية وجود أوكرانيا، التي يعتبرها “من صنع لينين”.
من الواضح تماما أن تحركات بوتين ليست مدفوعة بالتعاطف مع محنة الروس في أوكرانيا، ولا شعب دونباس، بل بدافع مصالح الطبقة الرأسمالية الروسية، التي تتوق إلى تأكيد دور روسيا كقوة عظمى. تصعيد بوتين يعكس مصالح الأمن القومي لروسيا الرأسمالية، باعتبارها قوة عدوانية ورجعية ذات طموحات إمبريالية إقليمية، وهو ما رأيناه في جورجيا، والصراع الأرميني الأذربيجاني، وبيلاروسيا وكازاخستان، فضلا عن تدخلها في سوريا. كما أنه يتعلق أيضا بحاجة بوتين إلى تعزيز شعبيته في الداخل، والتي كانت في حالة تراجع نتيجة المشكلات الاجتماعية المتصاعدة ومستويات الفقر المتزايدة داخل روسيا.
لماذا فعل بوتين هذا؟
لقد شرح بوتين دوافعه وطموحاته بوضوح وصراحة. لقد طالب في رسالته إلى الناتو بضمانات أمنية لروسيا في أوروبا. وشمل ذلك المطالبة بضمان ألا تنضم أوكرانيا أبدا إلى الناتو، وتقليص التدريبات العسكرية على الحدود مع روسيا وعدم نشر صواريخ متوسطة المدى. كان هذا رد فعل على توسع الناتو باتجاه الشرق بعد انهيار الستالينية قبل 30 سنة. في ذلك الوقت كان الاقتصاد الروسي محطما واستغلت الإمبريالية الأمريكية الفرصة لتعزيز قبضتها على أوروبا الشرقية. أما الآن فإن روسيا التي تشعر بالتراجع النسبي لقوة واشنطن (خاصة بعد انسحابها المخزي من أفغانستان)، قد بدأت في الرد.
لقد انفضح الضعف النسبي للولايات المتحدة منذ بداية هذا الصدام. فعلى الرغم من كل الحديث عن “غزو وشيك”، فقد أوضح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، منذ البداية أنه لن يرسل قوات أمريكية إلى أوكرانيا. وقد جاء ذلك في أعقاب تقاعس الغرب عن رد الفعل بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، سنة 2014. وقد تلقى بوتين الرسالة بصوت عال وواضح: يمكنه أن يفعل ما يريد فيما يتعلق بأوكرانيا، مع عواقب محدودة، وبعض العقوبات الاقتصادية، لكن دون أي انتقام عسكري.
هذا إذن، في الأساس، صراع رجعي بين قوتين. فمن ناحية هناك الإمبريالية الأمريكية -التي ما تزال إلى حد بعيد القوة الأكبر والأكثر الرجعية على هذا الكوكب- وحلفاؤها، ومن ناحية أخرى هناك الطموحات الإمبريالية الإقليمية الرجعية لروسيا. ليس للطبقة العاملة العالمية ما تكسبه من دعم أي من الجانبين.
حاول بوتين، منذ البداية، تحقيق أهدافه من خلال استعراض عضلات روسيا العسكرية، وحشد قواتها على الحدود، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع بيلاروسيا، واختبار صواريخها، وما إلى ذلك. وفي نفس الآن سعى، بقدر من النجاح، إلى تصعيد الانشقاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في برلين وباريس. جدير بالذكر أنه في خطوته الأخيرة وجه تحذيرا مسبقا إلى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني، أولاف شولتز، لكن ليس لبايدن.
لقد أصر طوال الوقت على أنه يريد المفاوضات، بشروطه، وأن يمارس الغرب الضغط على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لتنفيذ اتفاقيات مينسك، التي تم التفاوض عليها عامي 2014 و2015، والتي كانت النتيجة المفضلة لديه. تنص اتفاقيات مينسك على بقاء جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك جزءا من أوكرانيا، مع تمتعهما بحكم ذاتي خاص. كان من شأن ذلك أن يمنح بوتين نفوذا دائما داخل أوكرانيا. وربما كان قد حسب أيضا أنه إذا وافق زيلينسكي على هذه الشروط (التي وقعها بوروشنكو عندما انهار هجومه على دونباس)، فإنه سيواجه غضب القوميين المتطرفين وكتائبهم العسكرية، وربما حتى إسقاط حكومته.
بالمناسبة، يوضح هذا أن تلك الجمهوريات ليست بالنسبة لبوتين سوى بيادق تافهة هو مستعد للتضحية بها من أجل تحقيق أهدافه. دعونا لا ننسى أن الانتفاضة التي شهدتها دونباس عام 2014 كانت جزءا من حركة أكبر، ردا على وصول حكومة، تدعمها المنظمات شبه العسكرية النازية الجديدة، إلى السلطة في أوكرانيا والترويج لشعارات رجعية خاصة بالقومية الأوكرانية، التي هي مناهضة بشدة لروسيا وتحتفي بعملاء النازيين خلال الحرب العالمية الثانية.
في ذلك الوقت اندمجت في الجمهوريتين الشرقيتين كل أنواع العناصر، بدءا من بعض الذين أعلنوا صراحة أنهم شيوعيون، إلى أولئك المؤيدين للمقاومة السوفياتية ضد النازيين، إلى بعض الشوفينيين الروس الذين يعلنون صراحة حنينهم إلى الامبراطورية الروسية.
لكن على مدار فترة من الزمن، أصبحت الجمهوريتان معتمدتان كليا على موسكو، اقتصاديا وعسكريا، وتم تطهير قياداتهما من العناصر الأكثر استقلالية والأكثر جذرية. وعندما طلب منهم بوتين القيام بذلك، أصدر قادة الجمهوريتين مرسوما بإجلاء المدنيين، إلى جانب تعبئة جميع الرجال الذين هم في سن القتال، ثم سافروا إلى موسكو لطلب الاعتراف، وهو ما تكرم بوتين بقبوله بالطبع.
وبالتالي فإن اعتراف روسيا بـ”استقلال” تلك الجمهوريتين لا معنى له، لأنهما يعتمدان بالفعل بشكل كامل على موسكو. التغيير الحقيقي الوحيد هو أن بوتين أعلن أنهما لم يعودا جزءا من أوكرانيا.
ما الذي تغير؟
تبنت الولايات المتحدة ردا على مطالب بوتين موقفا عدائيا، على طول الخط، حيث شجبت باستمرار الغزو الروسي “الوشيك” لأوكرانيا ورفضت تقديم أي تنازلات لمطالبه. فعندما تكون المتنمر الكبير في ساحة المدرسة، لا يمكن أن يُنظر إليك على أنك تُظهر أي بادرة ضعف، وإلا فسيشعر الجميع أنه يمكنهم تحديك. ولذلك فبينما كان بايدن غير راغب وغير قادر على مواجهة روسيا بعمل عسكري لأجل أوكرانيا، فإنه لم يكن يريد أن يظهر على أنه يقدم تنازلات. كان هذا المأزق هو الذي أدى إلى التصعيد الحالي.
لقد قدر بوتين بوضوح أن الإمبرياليين الغربيين عاجزون عن منعه، على الرغم من كل خطاباتهم الشرسة. كان رد الغرب حتى الآن هو الإعلان عن مستويات مختلفة من العقوبات على روسيا. تستهدف عقوبات الاتحاد الأوروبي أي جهة تتعامل مع الجمهوريتين الانفصاليتين. لكن المشكلة تكمن بالطبع في أنه يجب أن توافق على ذلك جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، البالغ عددها 27، والتي من الواضح أن هناك آراء مختلفة فيما بينها، مع وجود بلدان، مثل إيطاليا والنمسا وألمانيا، قلقة للغاية بشأن إمدادات الغاز. توفر روسيا 40% من حاجيات الاتحاد الأوروبي إلى الغاز، وهناك في جميع أنحاء أوروبا بالفعل استياء وغضب متزايدان من الارتفاع الهائل في فواتير الطاقة، الذي يرهق كاهل ملايين الأشخاص هذا العام. لقد أدت التطورات الأخيرة إلى المزيد من ارتفاع أسعار الغاز، إلى جانب أسعار النفط الخام، الذي تعتبر روسيا منتجا رئيسيا له.
رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في حاجة حقيقية إلى صرف الانتباه عن مشاكله الداخلية، حيث تشهد شعبيته انخفاضا متواصلا في استطلاعات الرأي في ظل ظروف الاستياء الاجتماعي المتزايد. لقد أحدث الكثير من الضجيج بشأن الدفاع عن أوكرانيا، وأعلن الآن أن بريطانيا ستجمد أصول ثلاثة أوليغارشيين روسيين، فضلا عن فرض عقوبات على خمسة بنوك روسية.
وفي غضون ذلك أعلن بايدن عقوبات من شأنها أن تحظر الاستثمار والتجارة والتمويل من قبل أشخاص أمريكيين في مناطق أوكرانيا التي تخضع الآن لسيطرة الانفصاليين المدعومين من روسيا. لكن توماس غراهام، مدير مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض المكلف بشؤون روسيا في عهد جورج دبليو بوش، صرح بأن هذه العقوبات: «… لن يكون لها تأثير كبير، هذا إذا كان لها تأثير أصلا»، على ما ستفعله روسيا لاحقا. ستكون تلك العقوبات مشابهة جدا لتلك التي فرضت على روسيا بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم، عام 2014، مع تأثير مماثل على بوتين، أي بدون تأثير!
يفهم بوتين ضعف النظام الأوكراني. لكن ما الذي سيحدث الآن بعد أن أرسل قواته إلى الجمهوريتين؟ من الصعب تحديد ما الذي ستكون عليه التحركات التالية. إن الحرب هي المعادلة الأكثر تعقيدا، وبمجرد أن تبدأ لا يمكن للمرء أن يتوقع ما ستكون نتيجتها النهائية. سيتعين على بوتين إجراء تقييم عند كل منعطف للأحداث وحساب خطوته التالية وفقا لذلك.
كنا في مقالات سابقة قد اعتبرنا أن نشوب حرب شاملة بين روسيا وأوكرانيا منظور مستبعد جدا. ما الذي تغير إذن؟ كان بوتين يحسب أن الولايات المتحدة والأوروبيين سوف يقدمون تنازلات بدل مواجهة احتمال نشوب حرب مزعزعة للاستقرار في أوروبا. كان يدفع في اتجاه تنفيذ اتفاقية مينسك. لكن حلف الناتو، الذي تهيمن عليه الإمبريالية الأمريكية، أثبت، كما رأينا، أنه غير قادر على التراجع وتلبية مطالب بوتين. إذ، من وجهة نظرهم، أي تنازل يقدمونه الآن سيقوي روسيا، وهو بالضبط ما يريدون تجنبه. كانت الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، ترفض التزحزح عن مسألة توسيع الناتو.
وضع هذا بوتين في موقع صار عليه إما تنفيذ تهديداته أو الاضطرار إلى التنازل. لقد فشلت تهديداته السابقة، لذلك كان خياره الوحيد هو تصعيد الأمور وإيجاد العذر الذي يحتاجه لإرسال قواته إلى الجمهوريتين الانفصاليتين. الميزة التي يتمتع بها في إرسال قواته إلى الجمهوريتين، هي أن العديد من الناس هناك سيرحبون بالقوات الروسية. وبمجرد قيامه بذلك سيمكنه استخدام وجوده في المنطقة للتفاوض من موقع أقوى. ومع ذلك فإنه إذا قام بوتين بغزو أوكرانيا بأكملها، فقد يكون ذلك بمثابة هلاك له، لأنه سيواجه شعبا كاملا يعارض أن تسيطر عليه روسيا.
لا للحرب! العدو في الداخل!
من الواضح أن بوتين كان يضغط على الغرب للجلوس على الطاولة وتقديم التنازلات التي كان يطالب بها، لكن الغرب -ولا سيما الولايات المتحدة، المدعومة من كلابها في الحكومة البريطانية- رفض ذلك. وهذا ما يفسر لماذا قرر بوتين في النهاية أنه ليس أمامه خيار آخر سوى زيادة مستوى التوتر. هل سيقتصر على التمسك بأراضي الجمهوريتين الانفصاليتين، أم أنه سيتوغل أكثر في أوكرانيا؟
أشار ليونيد كلاشنيكوف، رئيس لجنة مجلس الدوما لشؤون رابطة الدول المستقلة، إلى أنه تم الاعتراف بجمهوريتي لوهانسك ودونيتسك على أنهما تقعان ضمن المناطق التي تحمل الاسم نفسه- فالانفصاليون لا يسيطرون إلا على جزء من تلك المناطق. لذلك يمكنهم الادعاء بأن دولتهم تمتد إلى الأراضي المتبقية. وقد صرح كلاشنيكوف بأن «كيفية استعادة تلك الحدود غير منصوص عليها في هذا الاتفاق. وما ستفعله جمهوريتا دونيتسك ولوهانسك بهذا الصدد لم يعد من اختصاصنا».
من الواضح أن هذا يترك الخيار مفتوحا أمام تجاوز حدود المناطق الانفصالية الحالية، مما يفتح سيناريو محتمل لصراع مباشر بين القوات الأوكرانية والروسية. لقد بدأ الغرب بالفعل في فرض العقوبات، وبالتالي ما الذي يمكن للناتو أن يفعله أكثر إذا زاد بوتين من الضغط على أوكرانيا للإطاحة بالنظام الحالي؟ يمكن لروسيا، من وجهة النظر العسكرية البحتة، أن تهزم أوكرانيا بسهولة تامة، ولم تعرب أي قوة أوروبية عن نيتها التورط بجنودها فعليا على الأرض. لكن وبينما هناك بين شعوب الجمهوريتين الانفصاليتين تعاطف مع وجود القوات الروسية، فإنه بوتين سيجد نفسه أمام سيناريو مختلف تماما إذا ما هو تقدم إلى وسط أوكرانيا، حيث سيواجه معارضة حاشدة وواسعة النطاق. وهذا من شأنه أن يجعل أي مكاسب إقليمية صعبة ومكلفة للغاية.
سوف تتعرض حكومة كييف الآن لضغوط هائلة. إذ أنه، من وجهة نظرها، قد تم غزو أراضيها رسميا، لكن ليس هناك الكثير مما يمكنها فعله في الواقع. لقد تم ضم شبه جزيرة القرم قبل ثماني سنوات، وما تزال جزءا من الاتحاد الروسي، على الرغم من العقوبات المفروضة على روسيا. وفي المرة الأخيرة التي شنت فيها كييف حربا في دونباس، تعرضت للهزيمة ولم يتقدم أحد لمساعدتها. دعت أوكرانيا إلى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لكن من المشكوك فيه أن تصدر هذه الهيئة إدانة لتصرفات روسيا، بالظر إلى أن روسيا تمتلك حق النقض داخلها. وفي غضون ذلك قد يؤدي عجز زيلينسكي في مرحلة ما إلى سقوط حكومته الضعيفة.
وللمزيد من إعطاء الدليل على الضعف النسبي للإمبريالية الأمريكية، فقد كان ردها العملي الأول هو إجلاء جميع موظفي وزارة الخارجية المتبقين من أوكرانيا ونقل سفارتها في أوكرانيا (التي كان قد تم نقلها بالفعل من كييف إلى لفيف) إلى … بولندا! لا بد أن زيلينسكي قد اطمأن للغاية لرؤية مدى استعداد أسياده في واشنطن للدفاع عن أوكرانيا ضد العدوان الروسي.
ما هو واضح هو أن هدف بوتين ما يزال، في نهاية المطاف، هو نفسه: أن يتم الاعتراف بروسيا كقوة إقليمية ومنحها ضمانات بأن “جوارها القريب” لن يمثل تهديدا لمصالحها. من غير المحتمل أن يتخلى عن أراضي جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الآن بعد أن وصل إليها، لكن يمكنه المضي قدما. هذا وضع متصاعد يجب متابعته عن كثب.
من وجهة نظر الطبقة العاملة في أوكرانيا وروسيا، لم يتم حل أي شيء ولم يتم ربح أي شيء. عندما قال بوتين إن أوكرانيا هي من صنع لينين، لم يكن محقا، بالطبع، لأن الهوية القومية المعقدة لأوكرانيا كانت موجودة قبل عام 1917. لكن سياسة لينين الحذرة بشأن تقرير المصير القومي -وهي مسألة اصطدم بشأنها مع ستالين- هي التي سمحت باتحاد أوكرانيا السوفياتية مع روسيا السوفياتية على أساس طوعي وعلى قدم المساواة، كما تم تأكيده عند تأسيس الاتحاد السوفياتي، عام 1922، أي قبل 100 عام بالضبط. بهذا المعنى فقط، يمكن للمرء أن يقول إن أوكرانيا، بحدودها الحالية، قد أنشأها لينين، ودمرها الآن القوميون الأوكرانيون الرجعيون، الذين وصلوا إلى السلطة بعد أحداث ميدان.
يرتبط عمال أوكرانيا وروسيا بروابط تاريخية قوية، على الرغم من أن تلك الروابط قد تم إضعافها بسبب سموم القومية الرجعية الأوكرانية والشوفينية الروسية، لا سيما منذ سنة 2014. البلد غارق في الحرب الأهلية، واضطر الملايين إلى الهجرة بسبب الأزمة الاقتصادية.
السبيل الوحيد للمضي قدما بالنسبة للطبقة العاملة هو الإطاحة بالأوليغارشية الرأسمالية الطفيلية، التي حكمت البلاد كإقطاعية خاصة بها على مدار الثلاثين سنة الماضية، ومصادرة ثروتها. لا يمكن لأوكرانيا أن تصير حرة حقا إلا على أساس وصول الطبقة العاملة إلى السلطة، واتحاد الطبقة العاملة على أساس طوعي فوق حواجز اللغة والهوية الوطنية.
إن واجبنا الأساسي نحن العمال في الغرب هو معارضة طبقاتنا السائدة الإمبريالية الرجعية، التي تعمل على تأجيج نيران الصراع. وتتمثل المهمة الرئيسية لعمال روسيا في معارضة طبقتهم الرأسمالية السائدة الرجعية، التي تقود طموحات بوتين الامبريالية الإقليمية. والواجب الرئيسي لعمال أوكرانيا هو معارضة طبقتهم الرأسمالية السائدة الرجعية، التي أغرقت البلد في صراع أهلي، بينما تهرب إلى الخارج ثرواتها التي راكمتها بطرق إجرامية.
من أجل الحرب على الرأسماليين، والسلام بين العمال!
خورخي مارتن وفريد ويستون
22 فبراير/ شباط 2022
عنوان ومصدر المقال الأصلي:
Ukraine: Putin ups the ante by recognising the Donbas republics and sending in troops