أثار أغنى رجل في مصر الغضب عندما صرح أن “الحياة يجب أن تستمر” رغم جائحة فيروس كورونا، وهو ما يعني ضرورة استئناف العمل في أسرع وقت ممكن، سواء كان ذلك آمنا بالنسبة للعمال أم لا، من أجل الحفاظ على الأرباح. هذا يفضح ازدراء البرجوازية المصرية المطلق بحياة الناس العاديين، الذين بدأ غضبهم الطبقي يغلي تحت السطح مباشرة.
[Source]
الملياردير المصري وبارون قطاع الاتصالات، نجيب ساويرس، أحد أفراد أغنى عائلة في أفريقيا. ثروته المعلنة، والتي تبلغ 3 مليارات دولار، هي في الواقع أقل من الثروة التي يمتلكها فعلا، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار حصصه في شركات البناء والشركات الكيمياوية المسجلة بأسماء إخوته.
بثروته الشخصية التي لا تحصى يمكنه الطيران إلى أي مكان يريده في العالم، ويحصل دون عناء على أفضل رعاية طبية ممكنة. وإذا تم فرض إغلاق كامل في مصر، سيكون في إمكانه أن يغلق على نفسه بشكل مريح في أحد قصوره العديدة، حيث يسهر عشرات الخدم على أن يوفروا له كل احتياجاته -من مسافة آمنة، بالطبع-. يمكنه التنقل بحرية، وقد يفضل قضاء الحجر الصحي في الجونة، على شاطئ البحر الأحمر، حيث المنتجع الفاخر الذي يملكه شقيقه سميح. أما إذا ساءت الأمور أكثر في مصر، فبإمكانه دائما الانتقال إلى شقته الفاخرة في نايتسبريدج والبالغ ثمنها 37 مليون جنيه استرليني -كما فعل خلال الثورة المصرية- أو إلى شقة بنتهاوس، التي اشترها في 2014، مقابل 70 مليون دولار. وبالطبع فإن لندن ونيويورك تعانيان من أكبر أزمة صحية منذ أكثر من قرن وأعمق أزمة في تاريخ الرأسمالية. لكنه في كلتا الحالتين، سيكون في مقدوره أن يراقب الفوضى والدمار من مسافة آمنة، ويمكنه التغلب على كل مخاوفه بفضل المليارات المخزنة بأمان في حساباته المصرفية بعيدا عن متناول وخيال الملايين من المصريين العاديين الذين يعيشون على 100 دولار شهريا.
وبالتالي فإنه ليس من المستغرب أن نجيب ساويرس لا يفهم ما الداعي إلى كل هذا الضجيج حول كوفيد 19. في أوائل شهر مارس، بدأت الحكومة المصرية في الإعلان عن إجراءات وقائية وسط مخاوف من انتشار أزمة صحية كبيرة، في بلد يمكن أن يكلف فيه يوم في مستشفى عام ما يساوي عشرة أيام من الحد الأدنى للأجور، وحيث تعتبر التهابات الجهاز التنفسي وأمراض الكلى والتهاب الكبد الفيروسي من بين أكبر عشرة أمراض قاتلة. كان هذا دافعا لكي يبدأ ساويرس في حملة من التغريدات الاستفزازية التي يمكنها أن تثير إعجاب دونالد ترامب نفسه، حيث قال:
أثارت تعليقاته على الفور الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من أن مصر لم تكن قد سجلت سوى عدد قليل من الحالات المؤكدة. يثق معظم المصريين بالصور المرعبة التي يرونها في إيطاليا أكثر من ثقتهم بالتأكيدات الفارغة من جانب الملياردير. لكن ساويرس لم يتوقف عند هذا الحد. وبطبيعة الحال ليس المصدر الحقيقي لقلقه هو ما إذا كان الفيروس سيؤدي إلى إيقاف الحياة، بل من أن يوقف عمال شركاته عن العمل، وبالتالي يوقفهم عن إنتاج الأرباح له.
بعد إغلاق المدارس والمؤسسات العامة الأخرى، فرضت الحكومة المصرية إغلاق جميع أماكن العمل غير الضرورية، بما في ذلك قطاعات رئيسية في الصناعة مثل البناء والبيع بالتجزئة والسياحة. فصعد ساويرس من هجماته على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث قال:
“هل يمكننا أن نفكر كلنا، ولا سيما زملائنا الأطباء، حول كيف يمكننا جميعا العودة إلى العمل، بعد فترة الحجر الصحي هذه، حتى لو كان الخطر ما يزال موجودا؟ مثل الحفاظ على المسافة وتجنب المصافحة وتعقيم المكاتب وأماكن العمل وما إلى ذلك… يجب أن تستمر الحياة!”.
العاصمة الجديدة
بعد ذلك هدد علانية بطرد العمال، بمن في ذلك الآلاف من عمال البناء المشتغلين في بناء العاصمة الإدارية الجديدة للبلاد. تسبب هذا التهديد بالذات في بث الرعب في قلب نظام السيسي. لقد شكل بناء عاصمة مصرية جديدة هوس السيسي. وفي حين أن ذلك المشروع يمثل، من ناحية، تعبيرا عن شغف الرئيس بتلميع صورته الشخصية، فإنه يعكس، من ناحية أخرى، وبشكل أساسي خوف الطبقة السائدة من الجماهير المصرية، نتيجة إرث الثورة المصرية.
باستخدام ذريعة الازدحام في القاهرة – الناتج عن النقص المزمن في تمويل مشاريع البنية التحتية الوطنية على مدى عقود- قرر النظام نقل القطاعات الرئيسية لجهاز الدولة بعيدا قدر الإمكان عن بؤرة الثورة في ميدان التحرير. وبالطبع ستكون هناك أيضا مساحة كبيرة للبنوك والشركات الكبرى لتخزين أصولها، وللقطط السمينة مثل عائلة ساويرس لكي تعيش في رفاهية محمية من أي إضرابات أو احتجاجات في الشوارع. هذا هو الابتعاد الاجتماعي لصالح الأغنياء، بينما يعاني العمال المصريون الفقراء الشقاء في المدن المكتظة، مكدسين في المجمعات السكنية المتهالكة المفتقدة للتنظيم. ستبقى الطرق وأنظمة النقل السيئة آفة المراكز الحضرية القاتلة، وستستمر الكثير من المناطق الريفية في مصر تعاني من غياب أنظمة الصرف الصحي الصحية وإمدادات الطاقة.
بعد أيام على تهديدات ساويرس، تم الإعلان عن استمرار العمل في بناء العاصمة الجديدة. سيتم حبس العمال في الورشات للحد من مخاطر حملهم للمرض إلى مكان آخر. ولا يهم ما إذا كان إبقاء آلاف الأشخاص يعملون معا بمقربة بعضهم وبدون مساعدة طبية سيعني أن تفشي الفيروس سيؤدي إلى خسائر فادحة في الأرواح.
لم يتقبل العمال هذا باستكانة، إذ يظهر شريط الفيديو أدناه توقف العمل في ورشات العاصمة الجديدة، حيث يقف العمال في مواجهة رؤساءهم ومديري الموقع.
تزايد القلق بوجه خاص عندما تم اكتشاف حالة إصابة بفيروس كورونا في الموقع. يحاول أحد المدراء تهدئة العمال بالقول إنه “لم يتم تأكيد أي شيء”. هدد أحد قادة العمال بالإبلاغ عن الوضع لوزارة العمل (القوى العاملة)، فرد عليه المسؤول بتحد: “إذهب إلى وزارة العمل”، الشيء الذي زاد في إشعال غضب أكبر بين العمال، قبل أن يغادروا المبنى لبدء الإضراب.
وعوض أن تكون العاصمة الإدارية الجديدة ملاذا آمنا للطبقة السائدة المصرية، يمكنها أن تصير، حتى قبل أن تكتمل بوقت طويل، مركزا لصراع طبقي شرس. بسبب ظروف الحجز في الموقع وإجراءات الرقابة في مصر، يصعب علينا الحصول على آخر تطورات الوضع. ومع ذلك فإنه إذا استمرت الاضطرابات بين القوى العاملة كما هو محتمل، فقد تصبح مثالا يحتذى لبقية الطبقة العاملة المصرية، خاصة مع تفاقم انتشار كوفيد 19 في جميع أنحاء البلاد.
سقوط القناع
ليس بناء العاصمة الجديدة في مصر بالنسبة لعائلة ساويرس سوى أحد مصادر الربح العديدة التي يمتلكونها. وحتى لو لم تؤد الجائحة إلى خسارته للمكافأة الحكومية الضخمة التي من المفترض أن يحصل عليها مقابل هذا الورش، فإنه ما تزال لديه الكثير من القطاعات التي عليه أن يقلق من أجلها. وهكذا فقد استمر في التأكيد على أن أي عامل سيتوقف عن العمل لن يحصل على أجر، والتهديد بطردهم نهائيا. فكان الغضب الذي ولده هذا على وسائل التواصل الاجتماعي غضبا غير مسبوق.
من الجدير بالإشارة أن نجيب ساويرس كان قد تظاهر بدعم الجماهير المصرية خلال مناسبات عديدة في الفترة الثورية سنوات 2011-2014. رفع دعوات غامضة من أجل “الديمقراطية” في 2011 و2012. وبصفته برجوازيا كبيرا ينحدر من عائلة مسيحية قبطية، فقد احتفل عندما تم إسقاط جماعة الإخوان المسلمين – التي هي أحد مكونات البرجوازية المصرية الذي حاول انتزاع السلطة من يد اللاعبين التقليديين- بفعل حركة جماهيرية في 2013. آنذاك اعتبر بعض الساذجين والمشوشين فكريا وكذا العناصر الرجعية في صفوف قادة الثورة نفسها أن ساويرس وغيره من “الديمقراطيين” البرجوازيين حلفاء مثاليين في نضال مشترك. تسببت نزعة التعاون الطبقي تلك في خلق ارتباك هائل في صفوف الجماهير، مما أدى إلى خلق أوهام أكبر في نظام السيسي وإلى إحباط كبير، في نهاية المطاف، عندما لم تتحقق الديمقراطية الاقتصادية والسياسية. حتى الحقوق الديمقراطية البرجوازية الأساسية، التي ادعى ساويرس وأمثاله أنهم سيدعمونها، اتضح أنها مجرد أوهام. والآن بعد أن ترسخت أركان النظام، لم تعد الديمقراطية تشكل بالنسبة له أي أهمية.
لقد فضحت أزمة كوفيد 19 بالكامل حقيقة الرأسماليين الكبار حول العالم. وبالنسبة للجماهير المصرية لم تعد هناك أي إمكانية لأن تعتبر نجيب ساويرس حليفا أو داعما محتملا لها. إنه طفيلي قاس يعيش ويراكم الأرباح على حساب الطبقة العاملة. إنه في مقدمة الأعداء الذين يجب خوض النضال ضدهم. وبعده يأتي مختلف العملاء في وسائل الإعلام البرجوازية، مثل تلك الممثلة التي هددت بضرب كل من يدافع عن العمال المؤقتين.1 رد الفعل الذي يواجهه هؤلاء المدافعون الحقيرون عن الطبقة السائدة وأولياء نعمتهم شرس جدا.
تعرضت سمعة نجيب ساويرس لأضرار بالغة بسبب الغضب الذي أثاره، حتى أن تبرعه بمبلغ 100 مليون جنيه مصري (06 ملايين دولار فقط) لمؤسسة عائلته من أجل “التنمية الاجتماعية”، وهو ما يكفي عادة لكسب تعاطف بعض الفئات، لم يحقق له شيئا. وفي النهاية اضطر إلى أن يوافق على دفع 50% من أجور عماله الذين لم يتمكنوا من العمل بسبب العزل الذاتي. وأوضح أن هذا يعني أنهم “يتشاركون التضحية على قدم المساواة”. كيف يمكن لرجل يأخذ لوحده نفس الحصة التي يحصل عليها ملايين العمال أن يدعي أن هذه “تضحية” عادلة؟ هذا لغز يتحدى القدرة على الفهم.
الوعي الطبقي
انتشرت إحدى التعاليق على نطاق واسع تقول إنه لو قام ساويرس بتحويل كل ثروته إلى رزم من فئة 200 جنيه مصري وحاول أن يحرقها الواحدة تلو الأخرى، فإنه سيحتاج إلى 28,5 سنة لينهيها كلها. في الواقع، يمكن لثروته الشخصية المعلنة وحدها أن تدفع أجور مليوني مصري لمدة عام إذا توقف الاقتصاد تماما.
يتطور الوعي الطبقي في مصر بسرعة فائقة بسبب الممارسات التي يقوم بها نجيب ساويرس، إلى جانب البرجوازيين المصريين الآخرين، بوضعهم للأرباح فوق حياة العمال. ومع تفاقم آثار الجائحة في مصر، سيتم دفع الجماهير المصرية أكثر فأكثر لكي تقف على أقدامها مرة أخرى.
أعلنت الحكومة المصرية عن قائمة تضمنت الصناعات والقطاعات الاقتصادية التي يجب إغلاقها في الوقت الذي تتفاقم فيه الجائحة، وقد استبعدت العديد من شركات نجيب ساويرس من هذه القائمة. يكشف هذا الوضع أن ما يحكم مصر، في نهاية المطاف، ليس رئيس قوي بل يحكمها رأس مال مالي بارد وقاس. وجميع التدابير القمعية التي اتخذتها الأنظمة المتعاقبة على مدى العقد الماضي ليست، في نهاية المطاف، سوى لخدمة رأس المال.
إن ما أصبح واضحا بشكل كامل خلال الأزمة الحالية، سواء في مصر أو في بلدان أخرى، هو أن هناك قسم صغير من المجتمع يعيش على استغلال العمال، ولا يساهم بشيء ويحرم المجتمع من موارد حيوية. وعلاوة على ذلك فقد رأينا أن مجرد التفكير في قيام العمال بالتوقف عن العمل يجعل الطبقة السائدة مرعوبة وتلجأ إلى الحكومات طلبا للحماية. يكشف هذا أين تكمن القوة الحقيقية في المجتمع. فليرتعد نظام السيسي، والرأسماليون على حد سواء، بينما تبدأ الطبقة العاملة المصرية في إدراك قوتها.