تسبب اعتراف السلطات الإيرانية بتورطها في إسقاط طائرة أوكرانية في اندلاع موجة من السخط في جميع أنحاء إيران وأدى إلى احتجاجات في عدة مدن. النظام، الذي تقوى شيئا ما بعد عملية اغتيال قاسم سليماني على يد الولايات المتحدة، صار الآن يشعر مرة أخرى بضغط الجماهير.
[Source]
بالأمس، وبعد أيام من الإنكار، اضطر النظام الإيراني إلى الاعتراف بأنه في الواقع مسؤول عن إسقاط طائرة الخطوط الجوية الدولية الأوكرانية، الرحلة 752. كانت الطائرة المتجهة إلى كييف تقل، إضافة إلى طاقمها، 176 راكبا معظمهم إيرانيون.
وعلى الفور أدى ذلك الإعلان إلى اندلاع موجة غضب وسخط وحزن. ظهرت مقاطع فيديو وصور لعشرات من الاحتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن من غير الواضح بالضبط كم عدد تلك الاحتجاجات. أكدت التقارير الواردة من طهران أن جامعة العلامة طباطبائي للعلوم الاجتماعية وجامعة أمير كبير للتكنولوجيا وجامعة شريف شهدت احتجاجات ضمت مئات الطلاب. قامت شرطة مكافحة الشغب بالتدخل بعنف ضد الاحتجاجات، لكنها لم تنجح في قمعها. ووردت أخبار عن اندلاع احتجاجات أخرى في كل من رشت وساري وأصفهان ومشهد وشيراز وبابل وحامدان وكرمانشاه وأوروميه. وكان العديد منها بقيادة طلاب جامعيين، وذلك لأن الكثير ممن كانوا على متن الطائرة هم من الشباب الذين يدرسون في الخارج.
ورغم أن الاحتجاجات كانت صغيرة نسبيا، فإنها كانت شديدة الراديكالية والسخط. ومن بين الشعارات التي رفعت كان هناك: “كذابون، كذابون!” و”خامنئي قاتل وزعامته باطلة ولاغية!”.
“قائدنا الاحمق هو سبب عارنا!”، “أيها الأوغاد، أيها الأوغاد، أعيدوا لنا الطلاب! (في اشارة إلى الطلاب الذين قتلوا عندما أسقطت الطائرة)”، “لا نريد حكومة إسلامية”، “الموت للديكتاتور”. وكتب على أحد اللافتات في جامعة طهران: “ليس لديكم حق في ارتكاب خطأ بشري”، كانت هذه كلمات خامنئي نفسه بعد أن أسقطت الولايات المتحدة طائرة ركاب إيرانية في عام 1988 -“عن طريق الخطأ” كما ادعت-، مما أسفر عن مقتل 290 شخصا آنذاك. وفي أماكن أخرى، نظم الناس مواكب جنائزية للقتلى وغنوا الأغاني الثورية وهاجموا النظام بشعارات راديكالية للغاية مثل “الموت للديكتاتور!”.
كما استقال مذيعان تلفزيونيان بارزان، إحداهما قالت إنها لم تعد “قادرة على الاستمرار في القيام بذلك”. كما انسحب العديد من صانعي الأفلام من مهرجان فجر السينمائي المرتقب، وانتقل عدد كبير من السياسيين إلى الهجوم على الحكومة والحرس الثوري وحتى آية الله خامنئي نفسه.
قال مهدي كروبي، وهو ليبرالي وأحد قادة الحركة الخضراء لعام 2009، من إقامته الجبرية في منزله إن خامنئي إما مجرم لكونه تستر على عملية إطلاق النار على الطائرة، أو أنه غير كفء لعدم علمه بحدوث ذلك. وأضاف إنه على أي حال غير جدير بمنصبه.
جاء التحطم بعد ساعات من إطلاق إيران لصواريخ على قواعد عسكرية أمريكية في العراق ردا على مقتل القائد الإيراني قاسم سليماني. في البداية أخرج النظام عدة تفسيرات حول ما أدى إلى هذه المأساة. وقد ادعى المسؤولون أنهم أخطأوا في اعتبار الطائرة صاروخا باليستيا، وأن الطائرة قامت بمناورات مشبوهة، وما إلى ذلك. لكن كل هذه الادعاءات ثبت أنها كاذبة. وهذه الأكاذيب المتواصلة هي بالضبط ما يشكل القوة الدافعة للحركة. حيث أنها تفضح إفلاس النظام من جهة وتبين من جهة أخرى طبيعته الدموية الباردة.
“قتلتنا موجودون هنا!”
قبل بضعة أيام فقط كان المزاج السائد في جميع أنحاء البلاد، بعد مقتل قاسم سليماني وعملية الانتقام اللاحقة التي قامت بها إيران، هو التحدي ضد الولايات المتحدة والنشوة الوطنية. تم عرض جثة سليماني في جميع أنحاء إيران في مواكب حشدت مئات الآلاف، إن لم نقل الملايين.
لكن التستر الوقح على عملية إطلاق النار على الطائرة الأوكرانية قلب هذه المشاعر عند العديد من الفئات، وحوّلها إلى نقيضها. الناس غاضبون من محاولة التستر أكثر من أي شيء آخر لأن الهدف منه كان الاستمرار في المسرحية ومواصلة نشر الشوفينية بين صفوف الشعب. وعلاوة على إطلاق النار على الطائرة، كان عشرات الأشخاص قد ماتوا في تدافع أثناء موكب جنازة سليماني في كرمان، الشيء الذي خلق مرة أخرى شعورا قويا بأن النظام يضحي بحياة الناس من أجل الدعاية الرجعية.
استمر النظام الإيراني لسنوات طويلة يستغل هجمات الإمبريالية الأمريكية لتحويل انتباه الشعب وحشده وراءه. لكن هذه الاستراتيجية صارت خلال السنوات الأخيرة تبدو أقل فأقل فعالية. بدأ الكثير من الناس يعتبرون أن إيران تستفز الولايات المتحدة بشكل متعمد من أجل صرف انتباه الجماهير عن البؤس اليومي الذي تعاني منه في ظل الجمهورية الإسلامية. وقد كانت هذه الديماغوجية هدفا للعديد من الشعارات خلال الاحتجاجات التي شهدتها السنوات القليلة الماضية. وتكررت إحدى تلك الشعارات في احتجاجات يوم أمس: “يقولون إنها أمريكا، لكن [قتلتنا] موجودون هنا!”.
وبالطبع يحاول الغرب من جهته استغلال المأساة لمصلحته الخاصة. لقد قام كل من دونالد ترامب ومايك بومبيو ببعث رسائل تضامن إلى المحتجين. واتهم رضا بهلوي، نجل الشاه الراحل الذي تدعمه الولايات المتحدة الآن، خامنئي بأنه مسؤول بشكل شخصي عن المأساة. لكن هذه التصريحات تنضح بالنفاق. لقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية على إيران، تصل إلى درجة حصار حقيقي على البلد. أدى ذلك إلى إغراق الاقتصاد في أزمة عميقة وانخفاض مستويات المعيشة بشكل كبير. إنهم يستخدمون الأزمة للضغط على النظام من أجل خدمة مصالحهم الضيقة، والتي تتعارض بشكل كامل مع مصالح الشعب الإيراني.
الشعب الايراني يفهم هذا الأمر. وقد أصدرت مجموعة من طلاب جامعة الأمير الكبير بيانا قويا قالوا فيه:
«في السنوات الماضية، لم يتسبب وجود الولايات المتحدة في الشرق الأوسط سوى في الفوضى والاضطرابات. إن موقفنا تجاه هذه القوة المعتدية قد حددناه مسبقا. لكننا في الوقت نفسه ندرك جيدا أن المغامرة الأمريكية في المنطقة يجب ألا تكون وسيلة لتبرير القمع الداخلي. وبما أن عبارة “الأمن القومي” صارت منتشرة في هذه الأيام، فقد حان الوقت لكي نسأل: عن أمن أي من فئات أو طبقات أو شرائح المجتمع يدور الحديث؟».
تلخص هذه الكلمات كل تجربة الشعب الإيراني ونحن ندعمها بالكامل. إن هذه الحركة، ورغم أنها ما تزال تضم أقلية من الفئات الأكثر طليعية في المجتمع، هي استباق للانفجارات القوية التي ستشهدها الفترة المقبلة. بعد الاحتجاجات الجماهيرية في نوفمبر الماضي، استخدم النظام مقتل سليماني لتحقيق الاستقرار لنفسه. لكن هذا لن يحل شيئا على المدى البعيد. إن أزمة النظام نهائية وستندلع حركة جديدة عاجلا أم آجلا وسترسل موجات صدمات في جميع أنحاء المنطقة وخارجها.